من يرث الفردوس

نشر في 26-07-2014 | 00:01
آخر تحديث 26-07-2014 | 00:01
No Image Caption
لا شيء يروي ظمأ سحبان فالنار تتأجج في الروح وتلتهم الجسد، مرر لسانه على شفتيه الجافتين وطلب ماء، مسّت يده ذراع معشوقته مزينة فنهضت تحضر كأس ماء من مسقاة الحصن التي تتوسط الباحة الحجرية، والكون سكونٌ ورقدة كاملة وكأن لا حياة، وكأن لا صبح سيبزغ بعد أحداث هذه الليلة الدموية التي تهاوت فيها النفوس وانهارت التجربة وعمّ القنوط...

يظمأ سحبان في بقايا الحمى، ويتراءى له العالم غمراً مترامياً من ماء أجاج، يغوي بالريّ ويذبح بحرقة الملح، يرى الناس يغترفون ماء الملح ومنه يشربون، يرتضون حرقة ملحه تهري الروح قبل الجسد، فيتساقطون كلٌ في ميقات، أما هو فلا يرتوي وتشتعل أعماقه بالظمأ، فلا ماء الملح يروى ظمأه ولا يسكن ضجة الأسئلة، ألف لماذا وألف كيف ولا من جواب، والروح تضطرب بين أحلام خلاص ورغاب ونشدان معان أخرى للحياة، وسبحان يواصل هربه مرة بعد أخرى، وحالما يفجع بسقوط الحلم وبطلان التوهّم، ويرى مشروع المدينة الفاضلة ينهار أمام ناظريه، يحزم أمره على الفرار مرة أخرى ليجازف معها في رحلة إلى مجهول جديد..

هناك مكان تناهت إليه أنباء خير عنه يحاذي «جبل الساهور» في أقاصي الشمال، تدوم فيه العواصف وتغمره الأمطار، ويقال إنه أرض وفرة وسلام، يبعد الجبل عن الحصن مسيرة يومين وليلة واحدة، إذا ما سارا جوار نهر «وادي مهياف» وهو في طوفانه الأخير، لكنهما سيتخذان طريقاً برية «يعلول» مستهدين برائحة العرار ودوامات الريح ونجمة القطب، لعلهما يبلغان في النهاية مستقراً لهما وملاذاً يحول بينهما وبين سيل الدم وجائحة الخوف التي اكتسحت كل شيء.

هنا في «حصن المسهج» تهاوت التجربة وسفهت الأحداث أحلامهما، كما انتهكت أحلامهما مدينة مدرارة طوال سنوات العيش المريرة...

... كيف سأجتاز القفر المترامي ومزينة معي ومازال وهنُ الحمى يطحن عظامي؟ كيف سأجتاز بها كل المخاطر التي ستواجهنا في رحلة الهروب الثانية؟ لا بأس يا سحبان فلتجازفا معاً مرة أخرى، فإذا ما تعذر عليكما الوصول فلا أجمل من أن تقضيا معاً.

سنمضي إذاً وعيوننا تحدق بالشمس، نذيب روحينا في الكون اللامتناهى ونفنى فيه، لعل ميتة في الشمس والبراري تطفئ تلك الجذوة المهلكة التي استقرت في أعماقنا من أزل الدهور، وإن تعذّر الوصول فسآخذ مزينة إلى جزيرة نائية لعلّنا ننجو هناك من هذا الخراب واللعنة التي تتربّص بنا أينما اتجهنا، ما دمنا حتى هذه اللحظة -نملك بفضل حذرنا وشجاعة القلب -حريّة محدودة في التحرّك والهرب وصنع المصير، ونعرف الى حدٍّ ما كيف نتصرّف إزاء أية مخاطر جديدة قد نتعرّض لها.

سيمضي سبحان إلى العالم مدمى الروح وقد عزّز فيه الهول والحزن قوة يواجه بها كل احتمال، شهد هنا كيف اغتيل (وهب المليلي) وكيف بكاه، بكى كلمات لم يتسنَّ للرجل قولها، ولكان أتراه كان حيّاً ليقتل؟

أكانوا أحياء حقاً في حصن المسهج؟

لا أحد يعلم حقيقة ما حدث، فهناك وجهات نظر متناقضة والتباس مواقف وصراعات واستحواذ على قيادة مجتمع الحصن، وإذن سيمضي معها الآن ويدع كل شيء وراءه، وراءهما..

خذ هذه آخر جرعة ماء من بئر الحصن تشربها قبل الرحيل فقد لا نصل الى أقرب قرية قبل انقضاء النهار، أصدقني القول: كيف سنمضي في الرحلة المجهولة وأنت تعاني من بقايا الحمى، لماذا لا نرجئ الرحيل إلى الغد؟

لا مجال لتأجيل الفرار، لابد من رحيلنا في أقرب وقت...

نظر إليها محزون الفؤاد وعاتباً، أتراها تخشى هروبهما الثاني ومواجهة المجهول؟

شرب الماء جرعة كبيرة واحدة، وضع الكأس الخاوية على نضد جوار السرير.

لولا أن الحياة تصير بين يديها بعذوبة ماء البئر لتعذّر على سحبان تجرع ملوحة العالم.

أكأس أخرى أم أنك رويت؟..

ولمح ظل ابتسامة مغوية ترتسم على محياها في ظلام الفجر الشفيف، قال لنفسه:

الظمأ غول يفترس روحي، ولن أرتوي يوماً، لن أرتوي حتى... حتى ماذا يا رجل؟ أتملك أية فكرة عما سيأتي في الغد؟ وما هي خطتك وأنت تمضي شبه أعمى نحو المجهول؟؟

فرار جديد في الفجر الذي يغشاه الضباب، السحب تتفرق وتدنو من الحصن ثم تنأى عنه، الأرض موحلة ينعكس على مائها الطيني ضوء قمر شاحب ترعشه حركة الريح فيتحطّم بغتة ثم يعود لتجمع أشلاءه روح الماء...

من بعيد يبزغ ضوء، خيط رفيع من معدن سائل يتألّق محتضناً حافات الأفق، يتّسع الضوء ببطء والسكون يسود العالم، سكان الحصن مستسلمون للذة الرقاد التي قد تكون الأخيرة في الهدوء المؤقت الخادع بعد ليلة الأحداث المروعة، الليلة التي تصارع فيها الموت والحياة وغمرها مطر دهري ما رأى أهل الحصن له من قبل نظيراً، مطر طوفاني غمر الأرض كلّها والحصن الحجري الذي بقي شامخاً وسط المياه، سفينة نوح جديدة لا يبدو أنها ستبلغ مرساها فالكلّ في عداد الغرقى...

بدأت سيول المياه تحاصر الحصن ففاض الوادي من حوله وأغرقت نفوس أهل الحصن سيول الحزن وخيبة الأمل بعالم سعيد، وعند انجلاء الوهم مرّ الموت على درب من دمٍ وماءٍ وطين، جُنت الطبيعة رياحاً وعصفاً ومطراً ورعوداً، وبطل سحر الفردوس الزائف الذي توهّموه حقيقة مخلدة طوال السنوات الثلاثين لعزلتهم...

بعد منتصف الليل خمد كلّ شيء، وتوقّف المطر واستقرّت السيول في الصهاريج والخنادق، ونام أهل الحصن نومة أهل كهف، خدّرهم اليأس واستنفد قواهم الصراع الدامي، ناموا على مخاوف استجدت وذكريات أيام ولّت، وما فكّر أحد بما سيأتي، فما من واحد منهم كان يريد معرفة بعد الذي عرفوه وما توقّع أحد فرار العاشقين سبحان ومزينة من حصنهم والأرض تنبت الهول كلّ ساعة، وما خطر لأحد منهم أنّ الإثنين ستعاودهما شهوة المجازفة فيقدمان على الفرار...

أمضيا ردحا طويلاً من الليل دون نوم، يحدّقان في حجارة الجدران العتيقة ثم أنّهما استسلما لإغفاءات قصيرة، يفيق سحبان منها مذعوراً في بحران الحمى ومزينة ترعاه وتضع الكمادات الباردة على جبينه...

ولفرط توجسّهما ونفاذ صبرهما رقدا مرتديين ملابسهما كاملة، يتأمّلان حياتهما التي امتدت عبر زمنين تفصل بينهما ساعة الرحيل، واضطرت مزينة لتغيير ملابسه بعد أن انتقعت بعرق الحصى مرّتين.

وقف سحبان مستحضراً قواه التي هدّتها الحمى، كانت مزينة منهكة مغمضة العينين، وهي تتّكئ على مسند الأريكة، مسّت يده وجهها برفق، فهبّت من ذعرها واقفة وعيناها تغيمان ببقايا النوم، ولم تميّز في عتمة الغرفة الحجريّة الباردة المكان والزمان، وعندما نطق اسمها تنبّهت وانجلت عنها حيرة النائم الذي يصحو على دنيا ملتبسة...

هيّا يا مزينة زالت بقايا الحمى، لنمضِ، كلّ دقيقة تمرّ نخسر فيها فرصة النجاة...

تسلّلا الى ممرٍّ جانبي يحيط بردهات الحصن وحجراته ويليه السور الخارجي ذو الكوى والأبراج المطلّة على البراري، سارا بمحاذاة السور الحجريّ الرطب الذي رقّقت خشونته دموع السماء.

تشبّثا بنتوءات الحجر خشية أن تنزلق أقدامهما في وحل الممرّ، وما أن غادرا البوابة المواربة حتى انحدرا نحو الخندق الذي صار مجرى لسيول الماء، ولمّا كانا يخوضان في الماء والطمي، هبّت عليهما ريح موّارة باردة حرّكت أشجار السدر والتوت والحور، فصدرت عنها همهمات تشبه النواح الحزين...

سارا في الاتجاه المعاكس لمدينة «مدرارة» التي فرّا منها فرارهما الأوّل، وخلّفا وراءهما أطلال «أم دفار» وحصن «المسهج» بمن فيه وما فيه من مباهج خلّب ومصائب وليالي فرح تهاوت، وأيام حزن وأسباب قلق تفاقمت بمرور الأعوام.

back to top