مديحة يسري... سمراء النيل: عرفت الحب على الطريقة الصوفية (27)

نشر في 25-07-2014 | 00:02
آخر تحديث 25-07-2014 | 00:02
الندم هو الإحساس الذي تملك الفنانة القديرة مديحة يسري في تلك الفترة، ليس بسبب فشل فيلميها {الاعتراف} و{النصف الآخر} مع أحمد بدرخان، والذي قبلت العمل فيهما مجاملة للأصدقاء، أو الزيجة التي وافقت عليها لتثأر لكرامتها الجريحة، بل الندم على قرارات أخرى لم تزنها بعقلها، كما كانت تفعل دائماً، فتوقفت مرحلياً عن الفن لتراجع حساباتها وتعيد النظر فيها.
راحت مديحة يسري تتساءل: هل تعتزل التمثيل إلى الأبد، وتكتفي بدور المنتجة، مع النجاح المذهل لفيلمها {صغيرة على الحب} الذي أدت بطولته سندريلا الشاشة العربية الراحلة سعاد حسني وأخرجه نيازي مصطفى، أم تقبل بتحولات الزمن وبما يجود به من أدوار تتوافق ومرحلتها العمرية؟

أربعة أعوام من التوقف الاختياري قبل أن تقرر مديحة العودة إلى التمثيل بإرادتها، حينما أقنعها فطين عبد الوهاب بكسر هذا الصيام، وبالفعل كان فيلم {خطيب ماما} بمثابة عودة الروح إليها، رغم أنها جسدت فيه دور الأم، مرة أخرى، لنبيلة عبيد التي اعتبرتها، منذ ذلك الحين، أمها الروحية وليس صديقتها فحسب.

لم يحمل الدور تميزاً يعيدها إلى صدارة الملصق، أو يترك أثراً مثل دورها في {الخطايا}، لكنها ارتضته ليتواءم مع المرحلة الجديدة من عمرها، ومن المتاح أيضاً، فاجتهدت أن تظهر في صيغة جديدة للأم، بعيداً عن نموذج {الست أمينة}، أم {مودرن} في الأغلب، أرملة ما زالت تحتفظ بأنوثتها ومرغوبة، وتتلقى عروضاً للزواج، نظراً إلى الجاذبية والأنوثة اللتين تتمتع بهما، تماماً مثل بناتها في الأفلام، كما في أفلام: {العريس يصل غدا} و{الساحرة الصغيرة} قبل الاحتجاب، و{خطيب ماما} بعد العودة.

لم تكتف مديحة، في تلك المرحلة، بالقبول بالمتاح وانتقاء الأفضل منها، والحضور بقوة عبر أعمال تضاف إلى رصيدها، بل قررت استئناف مشوارها مع الإنتاج في فيلم {الحب المحرم} مع المخرج حسن الإمام، فأدت دور أم وفية ترفض الزواج بعد رحيل زوجها لتربية ابنتها، فتقع الأخيرة في غرام شاب قبل أن يقرر قتلها للاستيلاء على ثروتها ويقع في حب والدتها، لكن الوالدة تكتشف جريمته من حديثه، وتبلّغ الشرطة عنه في ملحمة سينمائية، قدمت خلالها مديحة أحد أجمل أدوارها.

رغم النجاح الذي حققه، كان {الحب المحرم} الفيلم الأخير الذي تصدرته مديحة يسري كمنتجة وكبطلة على الملصق السينمائي، إذ لم تعثر بعده على نص سينمائي يمكنها تقديمه، فعادت إلى الاحتجاب القهري هذه المرة، وأصبحت مجرد نجمة سينمائية كبيرة لها تاريخ، تنتظر العمل المناسب.

الحب الإلهي

خلال تلك الفترة كانت مديحة تتردد مع شقيقتها وزوجها على منزل الشيخ إبراهيم سلامة الراضي، مؤسس الطريقة الشاذلية، وذلك في المناسبات الدينية وشهر رمضان، وتوطدت علاقتها به، وفي كل لقاء كانت تتشوق لمعرفة المزيد عن الدين، ولا تُحرج من سؤاله عن أي استفسار ديني، إذ كان بابه مفتوحاً لجميع تلامذته ومريديه، رحمه الله.

توطدت العلاقة بين الشيخ ومديحة لدرجة أنه فاتحها في البحث عن زوجة تناسبه، فبدأت التفتيش وسط الأقارب والمعارف والأصدقاء، إلا أنها فوجئت به ذات يوم يخبرها برغبته في رؤيتها في أقرب وقت ولأمر مهم.

على الفور توجهت مديحة إلى الشيخ سلامة فبادرها بالتحية قائلا:    

- أهلا يا هانم اتفضلي.

تبعته مديحة إلى مكتبه وفوجئت به يحدثها بشكل مباشر ومن دون مقدمات قائلا:

- أنت عارفة يا هانم أني طلبت منك تدوري لي على عروسة.

مديحة: آه طبعاً يا مولانا وأنا والله بدوّر لحضرتك.

الشيخ: لا أنا طلبتك النهارده علشان أقولك بلاش تدوري أنا خلاص لقيت العروسة.

مديحة بسعادة: طيب الحمدلله ده خبر كويس والله، ألف مبروك.

الشيخ: مش عاوزة تعرفي مين الإنسانة اللي مش هقدر ارتبط بغيرها؟

مديحة: لو حضرتك حابب تقول يا شيخنا ده يسعدني طبعاً.

فبادرها بالرد سريعاً: أنت العروسة يا مديحة.

نزل الخبر على مديحة كالصاعقة، فهي لم تكن تفكر في الزواج، وآخر زيجاتها كان قبل أكثر من 10 سنوات، ونجلها الوحيد عمرو أصبح في مرحلة الشباب، أفكار كثيرة دارت في رأس مديحة قبل أن يبادرها الشيخ سلامة قائلاً:

- أنت ممكن تبقي مستغربة الموضوع، بس أنت فعلاً الإنسانة اللي أنا عاوز أكمل معاها حياتي، وأنا حطيتك تحت المنظار من 3 سنين أول ما عرفتك، وأعتقد أن دي فترة طويلة جداً لأي شخص أنه يقدر يعرف إذا كان اختياره صح ولا لا.

سمعت مديحة حديث الشيخ سلامة بإنصات وانتباه، والتزمت الصمت قبل أن تستأذن في مغادرة المكان للتفكير في عرضه كما وعدته، عادت إلى منزلها الذي لم يكن يبعد سوى مئات الأمتار عن منزل الشيخ إبراهيم، لتفكر جيداً في الأمر وتتحدث مع شقيقتها هاتفياً وتخبرها أن الشيخ إبراهيم طلبها للزواج.

التزمت مديحة منزلها تفكر في الأمر، وفي كل مرة يرن الهاتف كانت تعتقد أنه هو الذي يطلبها، حتى اتصل بها بعد أسبوع من لقائهما الأخير يسألها رأيها، فأخبرته بموافقتها على الزواج، ولكن بعد موافقة عمرو.

بدأت مديحة الترتيب لحياتها الجديدة، وفي مقدمة الترتيبات مفاتحة عمرو، ففوجئت به يرحب بزواجها، ناقشته لتتأكد من موافقته بالفعل، وحينما تأكدت هدأت واطمأنت، إذ لم تكن تجرؤ على الإقدام على مثل هذه الخطوة من دون موافقته وترحيبه.

أدركت مديحة أنها مقبلة على حياة جديدة، وزيجة مختلفة، ولرغبتها في عدم إيذاء زوجها عبر تناوله إعلامياً بما يسيء إليه، اتصلت بصديقها الكاتب الصحافي كمال الملاخ لتطلب منه نشر خبر اعتزالها.

مديحة: ألو.

كمال: أهلا يا مدام مديحة.

مديحة: أهلا يا أستاذ كمال، كنت عاوزة أطلب منك حاجة.

كمال: اتفضلي تحت أمرك يا هانم.

مديحة: عاوزاك تنشر خبر اعتزالي.

كمال مقاطعاً باستغراب: إيه؟!

مديحة: أيوه قرار اعتزالي، أنا هتزوج من الشيخ إبراهيم سلامة الراضي.

كمال: بس حضرتك.

مديحة مقاطعة: أيوه أنا قررت اتفرغ لزوجي وعاوزاك تنشر أن اعتزالي بسبب الزواج.

كمال: طيب زي ما تحبي.

نشر كمال الخبر، وبدأت مديحة والشيخ إبراهيم التحضير لمنزل الزوجية، واحتفل العروسان بشهر العسل في الإسكندرية، فيما اقتصرت إجراءات الاحتفال على عقد القران في المسجد، وعاد العروسان إلى القاهرة لاستكمال حياتهما.

عرضت مديحة فور عودتهما من الإسكندرية على الشيخ سلامة أن ترتدي الحجاب وأخبرته بقرارها اعتزال التمثيل من أجله.

*مديحة: أنت مش شايف أني المفروض أحط إيشارب على رأسي أو أتحجب.

- سلامة: ليه يا هانم.

*مديحة: علشان أنا بقيت زوجتك.

- سلامة: ومين قال إن زوجتي لازم تعمل كده، الإيمان في القلب والله يغفر لمن يشاء دون الشرك به.

*مديحة ترد، لكن...

- قاطعها قائلاً: ... بلاش نتكلم في الموضوع ده تاني يا هانم... أنت لو عاوزة تتحجبي يبقى قرارك الشخصي وباقتناعك.

*مديحة والابتسامة ترتسم على وجهها: والتمثيل أنا كمان قررت اعتزل.

- سلامة: بصي يا هانم أنت بتقدمي رسالة قومية لبلدك عن طريق التمثيل والبرامج التي تظهرين فيها وهذه الرسالة مهمة، مثل رسالتي الدينية ولا تقل عنها أهمية على الإطلاق، لذا أرجو أن تستمري في عملك.

ابتسمت مديحة للشيخ سلامة، فما تعرفه عنه أنه رجل منفتح، لكنها لم تعرف أنه متفتح إلى هذه الدرجة، فاكتفت بالبرامج التي كانت تنتجها عن المرأة والطفل في تلك الفترة لتلفزيونات عدة، واعتزلت التمثيل، رغم العروض التي أنهالت عليها لتعود مجدداً، لكنها حافظت على قرارها الشخصي بالاعتزال.

عاشت مديحة أكثر من 3 سنوات مع الشيخ سلامة، وكان دوماً يناديها بالهانم، بينما حرصت خلالها على التركيز في حياتها الزوجية ورعاية ابنها عمرو فوزي، لكن هذه السعادة لم يكتب لها الاستمرار طويلاً، بعدما علمت من إحدى صديقاتها بخبر عودة الشيخ سلامة إلى زوجته الأولى، فانتظرت عودته.

مديحة: يا شيخ سلامة أنت صحيح رجعت لزوجتك الأولى؟

الشيخ: أيوه يا هانم إمبارح وكنت ناوي أقولك.

مديحة: أنا أسفة مش هقدر أكمل حياتي كده، لو سمحت أنا عاوزة أتطلق.

الشيخ: ليه بس يا هانم... أصل الموضوع.

مديحة بحسم: لو سمحت يا شيخ سلامة الموضوع انتهى بالنسبة لي.

الشيخ: حاضر يا هانم بكره هتوصلك ورقة الطلاق.

اتفقت مديحة على الانفصال وعادت إلى منزلها برفقة عمرو في اليوم التالي، وقررت إغلاق باب الزواج إلى الأبد، لا سيما أن ابنها أوشك على إتمام عامه العشرين، وهي تنتظر أن تفرح به مثل باقي الأمهات اللواتي ينتظرن زواج أبنائهن، واحتفظت بعلاقة صداقة مع الشيخ سلامة حتى بعد الانفصال.

بعد أشهر قليلة، كانت أقل من عام، تلقت مديحة خبر وفاة الشيخ سلامة، فحزنت على رحيله، وشاركت مع زوجته في تلقي العزاء، ذلك أنها، قبل أيام من رحيله زارته في مكتبه للاطمئنان عليه، لتودع آخر أزواجها إلى مثواه الأخير.

تقول مديحة عن تكرار زيجاتها: {لم أتزوج من دون حب، لكن المشكلة بالنسبة إلي كانت في الخيانة، كنت زوجة مثالية تحافظ على بيتها وترعى عائلتها وأسامح زوجي وأتغاضى عن أي أخطاء، لكن الخيانة الخطأ الوحيد الذي لا أقبل التسامح فيه أو تجاوزه، بمجرد علمي بوقوع الخيانة كنت أطلب الانفصال ولا أقبل التراجع تحت أي ضغط ومهما كان الحب}.

فنانة مع وقف التنفيذ

طالت فترة غياب مديحة عن السينما لتقترب من سبع سنوات، إذ لم تجد ما يحمسها للعودة فنياً، وما حافظ على صلتها بالفن علاقة الصداقة التي تجمع بينها وبين زملائها في الوسط الفني، فكانت صديقة لغالبية نجمات السينما مثل: ميرفت أمين، نبيلة عبيد، نجلاء فتحي، يسرا وغيرهن، كذلك اختارتها إدارة {مهرجان موسكو السينمائي} لتكون ضمن لجنة تحكيمه عام 1976، وكانت الفنانة المصرية الأولى التي يتمّ اختيارها للمشاركة في هذا المهرجان السينمائي الدولي، مع 17 سينمائياً من دول عدة أبرزهم النجم الأميركي أورسون ويلز.

أتاحت هذه الفرصة لمديحة يسري التعرف إلى تطور صناعة السينما وتنقلت بين المهرجانات في تلك الفترة: {برلين}، {كان}، {تشيكوسلوفاكيا}، وغيرها... ولدى عودتها كانت تنقل مشاهداتها للمنتجين المصريين، وتحاول تحقيق التواصل بينهم وبين منظمي المهرجانات للتبادل الثقافي والسينمائي مع صناع الفن السابع في هذه الدول.

فجأة شعرت مديحة بآلام في الظهر، ظنت في البداية أنها وعكة صحية عادية، فتعايشت معها من دون زيارة الطبيب، لكن مع زيادة الآلام اضطرت إلى زيارة الطبيب الذي أخبرها بأن حالتها ليست بسيطة، وعليها الالتزام بالراحة وأعطاها أدوية التزمت بتناولها.

إلا أن صحتها تدهورت بشكل كبير لدرجة أنها لم تعد قادرة على السير، فاضطرت لاستخدام الكرسي المتحرك، فنصحها أصدقاء بضرورة السفر إلى الاتحاد السوفياتي لإجراء جراحة في العظام بسبب المياه الموجودة فيها.

سافرت مديحة إلى موسكو، وخضعت للعلاج، إلا أن رحلتها فشلت بعدما تعثر الأطباء وفشلوا في علاجها، فأصيبت بالإحباط وعادت إلى القاهرة كما غادرت على كرسي متحرك، لكن زملاءها أخبروها بوجود جراح عظام عالج حالات حرجة في فرنسا، وأن عليها زيارته، لذا لم تتردد في التواصل مع السفارة المصرية هناك لتلقي العلاج.

سافرت مديحة من مطار القاهرة على كرسي متحرك إلى باريس، ودخلت المستشفى وخضعت لفحوصات طبية قبل أن ينجح الطبيب في علاجها.

في تلك الفترة تصادف وجود يوسف بك وهبي في إحدى المستشفيات القريبة منها، إذ كان هو الآخر يتلقى العلاج في باريس، فزارته مديحة حاملة له الورود التي يحبها، وذلك عندما سمح لها الطبيب بالخروج والتنزه خارج المستشفى.

كانت مؤمنة بقضاء الله وقدره، لذا أمضت وقتها في قراءة القرآن على فترات خلال اليوم، وندرت زيارة بيت الله الحرام وأداء فريضة الحج فور قدرتها على الحركة، إذ لم يسبق لها أن أدتها، وعندما كتب الله لها الشفاء، وكان ذلك قبل انتهاء موسم الحج بأيام، عادت إلى القاهرة وهي محبطة من عدم قدرتها على الوفاء بالندر بأداء فريضة الحج خلال هذا العام، ذلك أن باب التقدم للحصول على تأشيرات قد أغلق، وشاهدت ضيوف الرحمن يغادرون لأداء مناسك الحج.

أخرجت مديحة حقائبها وكانت شقيقتها وزوجها في انتظارها بالمطار.

الأخت: حمدلله على سلامتك يا مديحة.

مديحة: الله يسلمك أخباركم إيه.

الأخت: يلا علشان نوصلك البيت أكيد أنت جاية تعبانة.

مديحة: آه جداً الرحلة كانت متعبة بس الحمدلله أني رجعت أمشي على رجلي تاني.

الأخت: الحمد لله ربنا يتم شفاك على خير، وشك نور ونورت مصر، على فكرة السفارة السعودية اتصلوا وسألوا عليك كثير قوي آخر أسبوعين.

مديحة: متعرفيش ليه؟

الأخت: لا والله ما أعرفش بس هما كل يوم تقريباً بيتصلوا ويسألوا هترجعي أمتى، وأنا أقولهم ما أعرفش والتلغراف بتاع وصولك وصلني إمبارح بعد ما اتصلوا.

مديحة: طيب أنا هتصل بيهم بكرا إن شاء الله.

وصلت مديحة إلى منزلها وما هي إلا دقائق حتى رنّ هاتف منزلها، وعلى الطرف الآخر مسؤول السفارة السعودية يتصل بها ليخبرها بأن إحدى صديقاتها من الأميرات من العائلة المالكة، وجهت لها الدعوة لأداء فريضة الحج خلال هذا العام، وعليها تجهيز حقائبها للسفر إلى السعودية في غضون ثلاثة أيام على الأكثر.

انتابت مديحة حالة غريبة، كانت تضحك وتبكي في آن، أدركت أن الله لم يمنّ عليها بالشفاء فحسب، لكنه كتبها مع ضيوف الرحمن كما تمنت بالضبط، وفي أقل من يومين اشترت التذكرة وملابس الإحرام، بينما الأميرة صديقتها سهلت لها الإجراءات بدءًا من التأشيرة وحتى الانتقالات، إذ أرسلت إليها سيارة نقلتها من منزلها إلى سلّم الطائرة مباشرة، وسيارة أخرى نقلتها من المطار إلى الحرم، وسهلت مجموعة من السيدات مهمة طوافها حول الكعبة.

ورغم شعورها بالتعب من الطواف، كونه المجهود الأكبر بالنسبة إليها منذ تعافيها من آلام العمود الفقري، فإنها كانت سعيدة لقدرتها على تقبيل الحجر الأسود، تمكنت من ذلك من دون أن تشعر بأن ثمة ازدحاماً حوله وكأن الله قد أفسح لها طريقاً للوصول إلى حجره الأسعد.

البقية في الحلقة المقبلة

back to top