مجرّد 2 فقط

نشر في 19-04-2014 | 00:01
آخر تحديث 19-04-2014 | 00:01
No Image Caption
لم يكن هناك أحدٌ حين وصلنا، أنا والآخر. لم يكن هناك أحد ينتظرنا حين وصلنا؛ ولم يكن هناك أحدٌ ينتظر أحداً حين وصل الجميع!

كنا سنحتفل، أما الآخرون، فلا. كانت الحفلة خلفَهم، وكانوا هاربين من موت ما، سمعنا عنه، رأيناه، لكننا لم نعرفه الآن؛ عرفناه دائماً. هم، هم عرفوه الآن أكثر منا، لأن كثيرين منهم ماتوا؛ أما نحن فلم يمت منا أحد هذه المرّة.

نساء وأطفال لا أكثر، ولم يكن ثمة رجال.

.. كانت جوازاتُ سفرهم في أيديهم، مغبّرة من دروب الصحراء، ومسودّة من سُحُب النفط المشتعلة! وكانوا يتلفّتون خلفهم برعب.

الأطفال بعيونهم الواسعة، بعيونهم التي اتَّسعت، انشغلوا بالحقائب التي تدور على حزام النّقل في المطار، وفرحوا. لم أُصدِّق أننا نستطيع النسيان إلى هذا الحدّ، قلتُ: معجزة! ولم تصل البراءة بأحدهم أن يصرخ: أريد أبي!

غبارٌ رمليٌّ مطفأ يتزاحم في مساماتهم، وآثار مبيتٍ في العراء تقصف ملامحهم، وتبدّد أعمارهم الحقيقية؛ ولكنهم انشغلوا، يشدُّون الحقائب من آذانهم!

***

الأستاذُ، لم يكن يفعل ذلك؛ كان يضعُ حصوةً صغيرة تحت شحمة أذننا، ثم يضغط! يضع قلماً بين الأصابع، ثم يضغط! يمسكنا من جماجمنا ثم يضغط!

قلتُ للآخر: كيف كبرنا مع كلّ هذا الضغط؟ وكيف أصبحتُ طويلاً؟!

قال: لا أدري! أنت الطويل، إذاً أنت الذي عليه أن يجيب. ولم أُجب.

***

وقعت الحقائب، تكوَّمت إلى جانبَي الحزام؛ الحزام الذي واصل دورانه. لم يَشْكُ أحد، حتى أنا والآخر. النساء راقبن أطفالهنَّ، أطفال غيرهنّ، وربما راقبننا أنا والآخر؛ ولم تكن فيهن قوة ليسألن: من أين هذان اللذان لا يُجلّل وجهيهما الرّمل؟! وكنَّ مجللات بالسّواد.

قلت للآخر: من أين يأتي السّواد؟!

قال: اخلط الألوان كلّها في وعاء واحد، يكون السّواد!

***

أرتفع عمود الدّخان عالياً، وحين انقشع لم يكن هنالك بيت، كان الفحم! القذيفة صحَتْ مبكرة، ضفَّرت في قوس مسارها المارِّ من تحت عنق الفجر، الفجر المُوزَّع في الغباش، الفجر الذي يحاول استلال لونه من حلكة الساعة الأخيرة من الليل، ليضيء يوماً، كان مؤهلاً منذ أسابيع لهذا الأنفجار.

أبي قال: قنبلة فسفورية!

ولم أسأله: كيف عرفت؟

كان البيت المجاور قد أصبح فحماً، ولم تكن هناك فسحة للأسئلة، حين شدَّ أبي الصغار وأمي من تحت أغطيتهم، ورحنا نتجمّع في الغرفة الثانية، الغرفة التي يحمي واجهتها المطبخ.

سقطت القذيفة التالية. كنا على خطَّ النار؛ ورحنا؛ نشدّ أيدي بعضنا بعضاً، وتزاحمنا في حلق الباب.

***

لم يكن هناك أحد في الصالة الضيّفة، التي لم تكن أكثر من غرفٍ تؤدي إلى غرف، إلى لون صحراوي لامع مُتَّسخ، وإلى سقوف ذات مراوح عملاقة تجرش الكميّة القليلة من الهواء التي كانت هناك.

ولم يكن أحد في انتظارنا.

قالوا لنا: أنتما مدعوّان.

وتأخّرت الدعوة، لكنّها وصلت، ولم يصل أيّ منهم ليكون في استقبالنا.

اندفع الطابور طويلاً، طابورٌ من نساء بين أرجلهن يمور عشراتُ الأطفال، كلّهم في عمر واحد، كأنهن (فعلنها) كلّهن في ليلة واحدة!

لم لا! قلت للآخر، ألا يموتون عادةً في ليلة واحدة؟!

كان هناك رجال، بقامات عالية وأخرى منحنية، شعور ذقونهم نافرة. حدّقنا في وجوههم جيداً، وتكاثروا في المطار. حدّقوا في وجوهنا، ولم نعرف أحداً، لم يعرفونا، كانوا موظفين، مجرّد موظفين.

امتدّ الطابور أكثر، وامتدّت يدي عبرَ كوّة الجدار الزّجاجي لموظف المطار ببزته العسكرية. وعندما قلتُ للموظف المسؤول، الموظف الذي يضع الختمَ هناك في الجواز: أيها الأخ- كان شاباً، ولا يبدو عليه النّزق- أيها الأخ، نحن مدعوّان!

اعتقدت: سأربكه بالدّعوة، بتقليب الصفحة، كتاب الدّعوة الحافل بالألوان!

قلتُ للآخر: أخشى اختلاطها!

ما هي التي تخشى اختلاطها؟!

الألوان، الألوان الموجودة في كتاب الدّعوة!

وكان الموظف يقرأ، دون أن يظهر على ملامحه أيّ تعبير.

رفع رأسه ببطء.. سأل: أنتما مدعوّان؟

قلت: نعم، أنا، أنا والآخر! وأشرتُ إلى الآخر.

من دعاكما؟

قلت: اللجنة، لجنة الاحتفال، هذا واضح.

قال: لمَ أسمع باللجنة، ولا بالاحتفال! ناولني كتاب الدّعوة.

وراح يُقلِّب صفحات الجواز بحثاً عن ورقة بيضاء يُلقي فيها الختم، وناولني الجواز دون أن يلتفت إليّ، فزجَّ الآخرُ جواز سفره عبرَ الكوّة!

لم يتأكّد الموظف، إن كان الجواز فعلاً، كان يبحث عن صفحة بيضاء ليلقي فيها الختم، ووجدها.

حين ابتعدنا صاح الموظف: اسألوا الآخرين.

ولم يكن هناك أحدٌ يجيب.

***

حتى بعد توجيه استغاثات بلغةٍ عربيةٍ سليمةٍ، لم يكن هناكَ أحدٌ يجيب، كانت القذائف تزداد اندفاعاً وكثافة، والألوان تختلط أكثر فأكثر!

أمي قالت: يجبً إنزال الغسيل عن السطح.

فقال أبي: الآن تفكرين في الغسيل؟!

قالت: الغسيل سيجعلهم يقصفون البيت!

قال: سيقصفون البيت بالغسيل أو دونه، إنها حرب!

قالت: ليست حرباً، إنهم يقتلون الناس فقط، وبعد قليل يملّون، حتى الجنود يملّون، عند ذلك سيقصفون حبل الغسيل!

ولم يكن أحد يجيب: {يا جماهير شعبنا العربي، إن المذبحة التي تُرتَكب اليوم...}

وكان المخيم، سطوح المخيم، ساحاته، وأزقّته: ساحة للرّماية، ورياح البارود تهبّ من كلّ الجهات.

وعندما اهتزّ الملجأ بمن فيه قلنا: هاوتزر.

وقال الرجل ذو الأبناء، وهو يشدّ أولاده إليه ويداري خوفه عليهم: ثلاثة أيام كافية لتحويل الجميع إلى خبراء أسلحة!

***

ولم نكن خبيرين بالسّفر، لأننا نسيناه، حين أقفلوا البلدَ علينا، ولكنهم أشرعوه فجأة، كما أقفلوه فجأةً..

وقالوا: أشبعوا سفراً!

سألني: أكان علينا أن نسافر فعلاً؟!

وقلت: كنا نحتاج إلى معجزة، معجزة ثامنة، بل تاسعة. لأننا نحن الثامنة! معجزة فقط، و(الإنجاز العظيم) معجزة! من حقّنا أن نرى معجزة واحدة غير منقوعة بالدّم تتحقّق!

وهتفت مبتهجاً: أخيراً سنحتفل! ونستلُّ لوننا من هذا السّواد! وامتدت يدي، بحثتُ عن كتاب الدّعوة، لم تختلط ألوانه بعدُ!

قلتُ: حشوتني بالهواجس!

سأل: أيّ هواجس؟

قلتُ: هواجس الألوان.

وكانت الثياب السّوداء تحفّ بنا في كل الجهات.

توقّفنا عند رجل طويل، وسألناه، حدَّق في الكتاب، وهزَّ رأسه بالنّفي، وعاد يحدّق في الوجوه.

قلتُ: ربما ينتظرُ أحداً!

قال الآخر: إنه يراقب، يراقب ولا ينتظر، أنظر إلى خصره هناك!

***

أبي اشترى مسدساً، لكنه لم يكن يضعه هناك عند خصره، مسدس (بريتًّا). لم أعرف من ذاك الذي زرع فيه أسطورة البريتا هذه! وحين عرض التلفزيون مسلسل (بريتّا) تذكّرت المسدس، ولم يكن أبي هناك ليتابع المسلسل، كي يتذكر المسدس، المسدس الذي أخرجه حين هبَّت رياحُ مدافع الهاوتزر، حين أخذت البيوت تختفي، في ظاهرة غريبة، مخلّفةً وراءها حفراً بحجمها!

أمي قالت: الطائرات كانت تتابعنا وتُلقي (الكيازين)، براميل كبيرة ممتلئة بالنفط! فتختفي البساتين! بعيني هاتين، عيني اللتين سيأكلهما الدّود، رأيت كروماً من الزيتون تختفي في لحظة، وتتحوّل إلى فحم. كنتُ صغيرة نعم، ولكن من قال إن عيون الصغار أقلُّ اتساعاً من عيون الكبار؟

صمتت.

ثم قالت لأبي: أنظر إلى عيون أولادك إنها أكثر اتساعاً من عينيك.

ولم يقل أبي: إنها الحرب.

أبي الذي مالَ قلبه إلى مسدس البريتا، فاشتراه، وأحبه أكثر من كل أسلحة التّنظيم! وربما أكثر من أمي في الأيام التي أعقبت شراءه له!

***

اندفعت الأمهات عبر البوابات، ولم يكن هناك أحد بانتظارهنّ. جمعن أطفالهنَّ في أطراف أثوابهن السوداء الطويلة، توقّفن على الرصيف للتأكّد من وجود الأولاد كلّهم، ودون أن يلتفتن، قطعن الشارع! كان الخطر خلفهنّ.

***

وعبثاً ذهبت محاولتي لتوضيح الأمر للمرأة التي كنت أقف خلفها في ذلك اليوم القريب!

قلتُ لها: إن الشرطيّ دفعني.

وقالت: قلّة أدب، الناس في إيش وأنت في إيش!!

وقال الآخرُ: فضحتنا! وابتعد قبل أن تصل إليه طراطيش من كلام المرأة، إذا ما تأكّدت أنه معي! وابتسم.

وقالت المرأة: هذا لا يليق برجل في سنِّك!

فقلتُ لها: يا أُختي...

ولم تتركني أُكمل.

قالت: أنتَ لا تفعل ذلك مع أُختك!

وارتفع صوتُ شاب في مُكبّر الصّوت. كان يهتف فتهتزّ الشوارع، ولم أكن أهتف. فلم تكن الحرب قد بدأت؛ وكنتُ أسير فباغتتني حنجرتي، وسمعت نفسي أردّد خلفه!

back to top