استراتيجية «فرق تسد» الصينية تدور لإعادة رسم الحدود السياسية

نشر في 14-08-2013
آخر تحديث 14-08-2013 | 00:01
ترتكز استراتيجية الحدود المفضلة في بكين على مبدأ «فرق تسد»، وتشمل التقدم بخطوات صغيرة منتظمة، لا يشكل أي منها بمفرده مبرراً لنشوب نزاع، إلا أنها تؤدي بتراكمها مع مرور الوقت إلى تبدل استراتيجي يخدم مصالح الصين.
 بروجيكت سنديكيت تحولت تعديات الصين السرية المتزايدة على الأراضي الحدودية للدول المجاورة إلى عنصر يزعزع الاستقرار في آسيا. صحيح أن البحرية الصينية وجزءاً من قوتها الجوية يصبان كل اهتمامهما على تأكيد مطالب الصين باسترجاع أراضٍ وتخوم بحرية في بحرَي الصين الشرقي والجنوبي، إلا أن جيشها ينشط على الحدود الجبلية مع الهند، محاولاً تعديل الخط الفاصل تدريجياً.

ترتكز استراتيجية الحدود المفضلة في بكين على مبدأ "فرق تسد"، وتشمل التقدم بخطوات صغيرة منتظمة، لا يشكل أي منها بمفرده مبرراً لنشوب نزاع، إلا أنها تؤدي بتراكمها مع مرور الوقت إلى تبدل استراتيجي يخدم مصالح الصين.

بالاعتماد على اعتداءات سرية، تهدف استراتيجية الصين إلى الحد على نحو كبير من الخيارات المتوافرة للبلد المستهدف بعرقلتها خطط الردع التي يعتمدها وتصعيب التوصل إلى خطوات مضادة ملائمة وفاعلة.

يُعتبر تبديل وضع توزيع الأراضي الحالي هدف جمهورية الصين الشعبية، الذي لم تحققه منذ تأسيسها عام 1949، فساهم ضم منطقة شينغيانغ وهضبة التبت باكرا إلى مضاعفة مساحة الأراضي الصينية، تلا ذلك تبني النسخة الأولى من استراتيجية "فرق تسد"، مما سمح للصين بين عامي 1945 و1962 ببسط سيطرتها تدريجياً على هضبة أكساي تشن، التي تضاهي سويسرا في مساحتها والتي كانت تابعة أصلاً إلى إمارة جامو وكشمير. ثم عملت الصين، التي ازدادت جرأة، على السيطرة على جزر باراسيل عام 1974، ووحيد جونسون عام 1988، ووحيد ميستشيف عام 1995، وأخيراً منطقة سكاربورو عام 2012.

يتمحور الخطر الذي تشكله الصين على أمن آسيا اليوم حول عدم احترامها الحدود القائمة، بعبارة أخرى، ما زالت الصين تعمل على إعادة رسم الحدود السياسية.

على طول الحدود البرية، تسبق عادة اعتداءات سرية اقتطاعها الأراضي، وتهدف هذه الاستراتيجية إلى البدء بقضم أرض العدو تدريجياً مثل قوارض كبيرة، ما يسهل اقتطاعها نهائياً، ويبرز اعتماد الصين هذه الاستراتيجية بوضوح على طول حدودها مع الصين في منطقة الهمالايا، موقع أطول خلاف على الحدود في العالم، كما  شملت أشكال الاعتداء هناك استخدام الرعاة المتحدرين من الهان لطرد الرعاة الهنود من مراعيهم التقليدية وتمهيد الطريق أمام عملية ضم تلك الأراضي عسكرياً.

لتأكيد مطالبها في بحرَي الصين الجنوبي والشرقي، تستخدم الصين أدوات تصاعدية تتراوح بين منح رخص للبحث عن مصادر طاقة هيدروكربونية وتأكيد توسع حقوق الصيد، وكل هذه وسائل تروج من خلالها مطالبها البحرية والبرية.

في بحر الصين الشرقي، استخدمت الصين وكالات شبه عسكرية في محاولتها التصدي لليابان والسيطرة على جزر سنكاكو، ولا شك أن هذا الهجوم نجح راهناً في زعزعة الوضع القائم ودفع بالعالم إلى الإقرار بوجود نزاع. وتُشكل مواجهة الصين اليابان، محتلها السابق وخصمها التاريخي، جزءاً من بحث الصين عن موارد بحرية جديدة وبروز استراتيجية أكبر في غرب المحيط الهادئ، وذلك بتفكيكها ما يُعتبر "سلسلة الجزر الأولى"، التي تشمل مجموعة من الجزر تضم سنكاكو، وتايوان، وبعض الجزر التابعة لفيتنام والفلبين.

أما في بحر الصين الجنوبي، فتسعى الصين إلى منح وجودها شرعية في 80% من البحر، مساحة تدعي اليوم ملكيته رسمياً، فمن خلال خطوات متكررة ومتنامية، ترسخ الصين وجودها الدائم في هذه المناطق.

من بين الطرق التي اعتمدتها الصين لفرض "واقع" جديد على الأرض في بحر الصين الجنوبي تأجير مناطق للصيد والتنقيب عن الهيدروكربون داخل رقعة المئتي ميل عقدة الاقتصادية المتنازع عليها، كما تعرفها اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، وهدف هذه العقود هو الحد من الحقوق الاقتصادية التي تمنحها الاتفاقية للدول المتنازعة، موسعة في الوقت عينه سيطرة الصين على ثروات المنطقة من النفط والغاز.

علاوة على ذلك، حولت الصين مدينة سانشا في جزيرة وودي في جزر باراسيل إلى قاعدتها الإدارية في منطقة بحر الصين الجنوبي، مشكلة حكومة مدنية محلية وحامية عسكرية تشرفان على كامل المنطقة، وفي خطوة أخيرة، لتؤكد واقع احتلالها جزر باراسيل، أطلقت رحلات سياحية إلى تلك الجزر المتنازع عليها.

لا شك أن الصين تحرص على اقتطاع أجزاء صغيرة كي تتفادى أي ردود فعل قوية تتحول إلى سبب للحرب، فقد برهنت عن قدرة عالية على تقسيم كل خطوة إلى أجزاء صغيرة والسعي إلى تحقيق كل جزء منها على حدة بطريقة تسمح لها في النهاية بجمع كل الأجزاء معا وتحقيق مرادها.

تمنع هذه الخطوات الذكية خصومها من استعادة توازنهم وتُعميهم عن الطريقة الفضلى للرد، فعلى غرار لحّام يقطع شرائح اللحم الرفيعة، تنجح الصين في إظهار هجومها كما لو أنه دفاع، وتتحرك بطرق لا تتيح لها تقويض مناورة الردع التي يتبناها خصومها فحسب، بل تلقي عليهم أيضاً عبء شن الحرب، وهكذا تواجه كل دولة مستهدفة خياراً استراتيجيا ضيقاً: فإما أن تتحمل الخسارة وإما أن تواجه خطر خوض حرب عنيفة مكلفة ضد دولة عظمى ناشئة.

إذن، تشكل مناورات الصين واستراتيجيتها تحدياً متنامياً بالنسبة إلى عدد من جيرانها، الذين يواجهون معضلة صعبة، معضلة كيفية تفادي الاعتداءات.

 قد يكون من الضروري التشاور في ما بينهم ومع الولايات المتحدة (القوة الآسيوية التي لا تشكل جزءاً من تلك القارة) للتوصل إلى طرق لمحاولة وقف هذه الحرب السرية المتفشية، خصوصا أن خطوات الصين المتعددة والمتراكمة تحمل خطر تغيير ميزان القوى الآسيوية بشكل جذري بهدف تشكيل منطقة تتمحور حول القوة الصينية.

* براهما تشيلاني | Brahma Chellaney ، أستاذ الدراسات الاستراتيجية في مركز أبحاث السياسات في نيودلهي، وزميل أكاديمية روبرت بوش في برلين، ومؤلف تسعة كتب، منها "الطاغوت الآسيوي"، و"المياه: ساحة المعركة الجديدة في آسيا"، و"المياه، والسلام، والحرب: مواجهة أزمة المياه العالمية".

«بروجيكت سنديكيت، 2016»»بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top