صانع البهجة... سيد مكاوي (30): المسحراتي... يودع صوته قبل الرحيل

نشر في 08-08-2013 | 00:02
آخر تحديث 08-08-2013 | 00:02
جاءت الفنانة السورية ميادة الحناوي إلى مصر قاصدة الموسيقار محمد عبد الوهاب الذي راح يعدها للوسط الغنائي على مدار عامين، وبدأ في تحضير لحن يقدمها به، وهي أغنية «في يوم وليلة» إلا أن ميادة تعجلت وقدمت أولا أغنية للموسيقار محمد الموجي، ما أغضب عبد الوهاب، فسحب منها الأغنية وأعطاها للفنانة وردة، فاستوعبت ميادة الدرس، حتى تلقفها الموسيقار بليغ حمدي، وكتب ولحن لها «أنا بعشقك» و{الحب اللي كان»، غير أنها راحت تبحث عن الأصالة الشرقية، فاتجهت إلى الموسيقار سيد مكاوي، الذي قدم لها أكثر من لحن، فقدمت معه خلال عامي 1991، 1992 ثلاث أغانٍ، هي: «استنى، ما أحلى الغرام، احلو عمري» وبعد رحيل أستاذها ومعلمها الروحي الموسيقار بليغ حمدي في عام 1993، قدم لها سيد مكاوي أغنية «حبك ما ينتهيش» من كلمات عمر بطيشة:

حبك ما ينتهيش... مخلوق عشان يعيش

اداني عمري تاني... غير عمري الأولاني

رجعت ضحكة شفايفي... ورجعت تاني الأغاني

يا حبيب الروح والعين... يا زماني وأحلى سنين

يا مالكني بخاطري وبرضايَ

وأوامرك جاية على هوايَ

من اللي ينهي حبك غير اللي قال له عيش

يا حبيبي هدي قلبك حبك ما ينتهيش

زي الحلم اللي بيخطفنا ف رحلة بعيدة

ويرجعنا بعد ما شفنا دنيا جديدة

خدني هواك... سفرني معاك

على طول بس... ما رجعنيش

حب حقيقي بيؤمر شوقي

حتى في قربك ما يسيبنيش

متهيألي اللي حصل لي

أترجى العمر ما يمشيش

وأسبق عمري ساعات على فجري

وأقول له أفضل هنا ما تجيش

هو احنا كنا زمان عايشين؟ ما ظنش يا قلبي

وفاتت إزاي السنين قبل حكاية حبي؟

بيك ومعاك يا حبيبي باصدق...حلم الحب اللي بيتحقق

حبك يومي وبكرة وبعده... وحياة قلبي وشوقه وسهده

روحي وروحك قبل ما ندرى

على رحلة عمرهم اتعاهدوا

حبك ما ينتهيش... مخلوق عشان يعيش

ياللي نسيت وياك الماضي... بعذابه وحيرته وجراحه

ولقيت قلبي كمان بقى راضي... ينسى معاك حتى أفراحه

قلبي اتكلم لما اتعلم... معنى الحب وجنة قربه

حب حياته... عاش أوقاته... قال للناس: حبوا وحبوا

أتمنى لكم مع حبايبكم... قرب وفرحة عمر وقسمة

وأنت يا حبي عيش مع قلبي... أكبر حب وأكبر نعمة

ما أقدرش أقول بحبك وأسكت كده على طول

لازم أقول بحبك وأفضل أقول

حبك ما ينتهيش مخلوق عشان يعيش

****

إعاقة أخرى

على رغم اقتراب الشيخ سيد من اكتمال عقده السابع، فإنه لم يفقد شيئاً من روحه الجميلة المرحة الساخرة، أو البهجة في موسيقاه، بل ربما زادت بعدما جددها له أحفاده بعد زواج ابنتيه إيناس وأميرة، ولم يعد سواه وشريكة الدرب، غير أن حفيديه محمد وكريم، ملآ عليه وحدته وحياته، غير أن أكثر ما أصبح يؤلمه خصوصاً مع وجودهما، هو إحساسه بثقل في سمعه، فاضطر إلى أن يضع سماعتين في أذنيه، غير مهتم بإصابته بإعاقة جديدة إلى جانب إعاقة البصر، بل إنه راح يسخر منها أيضاً، وإن كان لم يستطع أن يخفي إحساسه بمرارة هذا العبء الجديد، فقد سمعه إلى جانب فقد بصره:

* عارفه يا إيناس.. ساعات بحسد بيتهوفن... على الأقل كان بيشوف قبل وبعد ما فقد سمعه.

على رغم بلوغ الشيخ سيد مكاوي هذا العمر وهو على عتبات السبعين من عمره، فإنه لم يفقد حلاوة صوته، اللهم إلا بعض الوعكات الصحية التي تلم به من آن لآخر، طالبه على إثرها الأطباء مرارا بالامتناع عن التدخين الذي لازمه طيلة حياته، حتى اضطر مؤخراً إلى أن يمتنع عنه نهائياً، ليس نزولاً على رغبة الأطباء وأسرته فحسب، بل حفاظاً على صحته التي باتت مهددة في كل لحظة بسببه.

لم ينقطع الشيخ سيد عن تقديم ألحانه للمطربين والمطربات كلهم، من الأجيال كافة، والجنسيات العربية المتنوعة. في مقابل ذلك، لم يترك الجمهور العربي مناسبة إلا وطالبه بالغناء، سواء تلك الألحان التي يقدمها للمطربين أو المطربات، أو تلك التي يلحنها خصيصاً لنفسه، فغنى خلال هذه الفترة أغاني «وحياتك ياحبيبي، أنت واحشني، حلوين من يومنا والله، عندك شك في أيه، وشاورلي» غير أن من أكثر الأغاني التي كان يطالبه الجمهور بغنائها في الحفلات التي يحضرها، تلك التي كتبها له شريك الإبداع صلاح جاهين «ليلة امبارح» حتى لو لم يطلبها الجمهور، يقوم هو بغنائها كنوع من التكريم الخاص له:  

 

ليلة امبارح ما جاليش نوم واحنا لسه ف اول يوم

قبل ما ترميني في بحورك مش كنت تعلمني العوم

انا كنت لوحدي وف حالي شفتك ما اعرفش اللي جرى لي

راحة البال راحت من بالي قلت لها مع الف سلامة

والحيرة قلت لها تعالي لا ملامة عليَّ لا ملامة

عمري كوم والحب ده كوم

غابت شمس امبارح عني خدها الليل خباها مني

بس انت يا قمر طمني واوعى تخاف من أي ملامة

عمري كوم والحب ده كوم

ليلة امبارح ما جاليش نوم

قبل ما ترميني في بحورك مش كنت تعلمني العوم

****

لم تقتصر حفلات الشيخ سيد على القاهرة، بل راح يجوب العواصم العربية يملأ الدنيا بموسيقاه وفنه وصوته، فقد حرص الشيخ سيد طيلة عمره ألا يمضي شهر رمضان بعيداً عن مصر، ليس فحسب لارتباطه دائماً بأعمال فنية خلاله. لكن الأهم هو لما للشهر الكريم من مذاق خاص لديه منذ أن كان طفلاً يعيش في حي عابدين، حتى لو شاءت الظروف وتصادف وجوده خارج مصر قبيل حلول الشهر، يحرص أن ينهي ارتباطاته قبل ليلة الرؤية ليمضي الشهر في مصر، إلا لو اضطر إلى ذلك. غير أنه من الممكن أن يرتبط بمواعيد حفلات خارج مصر في أول أيام عيد الفطر، فيسافر في آخر ليلة في رمضان ليكون جاهزاً للحفلة في أول أيام عيد الفطر، مثلما حدث هذا عام 1997، عندما ارتبط بحفلات في بيروت، حيث سافر الليلة الأخيرة في رمضان، وكان أقسى شيء على نفسه أن يمضي العيد بعيداً عن أسرته، خصوصاً أحفاده من زهرتيه إيناس وأميرة.

الرحلة الأخيرة

سافر سيد مكاوي إلى بيروت، حضر الحفلة التي أقيم في «خيمة» كبيرة يقدم فيها الطعام والشراب، والأهم «الأرجيلة» أو «الشيشة» وهو ما كان يؤذيه بشكل مباشر، فقد سبق وحذره الأطباء، ليس  من التدخين فحسب، بل من أن يتنفسه سلباً، وعلى رغم ذلك غنى في هذا الجو الممتلئ بالدخان، وما إن انتهى حتى رفض الجمهور مغادرته المكان، وطلبوا منه الغناء مرة أخرى، فعاود الغناء بعد ساعتين من الوصلة الأولى. عندما انتهى غادر الخيمة على الفور وجسده مبلل بالعرق، ليصطدم بالهواء البارد، وتداهمه أزمة صحية، تدهورت على إثرها صحته بسرعة، فتم نقله على الفور إلى أحد أكبر مستشفيات بيروت، حيث أمر الأطباء بإدخاله الرعاية المركزة على الفور:

- للأسف حالته حرجة جدا.. تقريبا مافيش تنفس.

خلال 24 ساعة سافرت أسرته بالكامل إلى بيروت، وانتشر الخبر في كل مصر وتناقلته وكالات الأنباء.

دخلت إليه ابنته إيناس لتجد الرجل الذي ملأ الدنيا موسيقى وغناء وضحكاً وسخرية، الرجل الذي لم يهدأ يوماً ولم تعقه عاهته عن محاربة الدنيا، ليثبت لها أنه قادر عليها، قادر على انتزاع مجده منها، وجدت جسده مسجياً من دون حراك، ولا غطاء يحميه. كان يرتدي رداء المستشفى الخفيف، وأنابيب شفافة نهايات بعضها تدخل في فمه، وأخرى في أنفه، متجهتين إلى جوفه، وآخران تنتهي كل منهما بإبرة، أولهما غرست في ظاهر معصمه الأيمن، والثانية في باطن يده، ولفت قدماه بقماش أبيض مبطن بالقطن لحمايتهما من القروح.

وقفت إيناس إلى جوار السرير، لم تنبس ببنت شفة، لمست ظاهر يده... عرفها من دون أن تنطق، كأنما أراد أن يطمئنها على نفسه، فهو يعرف مدى تعلق روحها وشقيقتها أميرة به، فأدار ظاهر يده لتحتضن يدها، وابتسم... وحرك شفتيه باسمها، فابتسمت ومسحت دموعها، ثم طلب الأطباء منها الخروج لإجراء بعض الفحوص.

خرجت إيناس لتطمئن شقيقتها أميرة ووالدتها، وما إن وصل الخبر إلى الصحافة حتى بدأ توافد عدد كبير من الصحافيين وعدسات المصورين وكاميرات التلفزيون، إضافة إلى حشد كبير من عشاقه ومحبيه، وعدد من الأصدقاء اللبنانيين والسوريين وبعض المصريين هناك، راحت إيناس تطمئنهم، على رغم أنها تحتاج إلى من يطمئنها وشقيقتها ووالدتها، حتى جاءت ممرضة تطلبها:

- مدام إيناس... أستاذ سيد بده ياكِ.

ظنت إيناس أنه قد تنبه ورفعوا عنه الأنابيب المعلقة بجسده، فهرولت ومن خلفها شقيقتها ووالدتها، غير أنه لم يكن مسموحاً بدخول أكثر من فرد إلى غرفة الرعاية.

دخلت إيناس، وجدته على حالته لم تتغير، اقتربت منه وأمسكت بيده، فتنبه وأدار وجهه ناحيتها، وحرك شفتيه بصعوبة بالغة هامساً ببعض الكلمات، غير أنها لم تستطع أن تفسر ما يريد أن يقوله، فاقتربت من أذنه لتسمعه صوتها، ثم نظرت إلى فمه... وحاولت أن تقرأ شفتيه وماذا يريد أن يقول:

= أيوا يا حبيبي أنا هنا. حمد الله على سلامتك. إن شاء الله هتبقى زي الفل وتقوم بالسلامة. أيوا يا حبيبي... أؤمر... نعم... إيه؟

* ااااال ف لووووس.

= فلوس إيه يابابا.

* حساااااب المستشفى... مش عايز حد يدفع مليم لسيد مكاوي.

= يا حبيبي والله ما تشغلش بالك ولا تقلق. كل حاجة هتبقى زي ما انت عايز... وهتقوم بالسلامة وانت اللي هتحاسب بنفسك.

خرجت إيناس أخبرت شقيقتها ووالدتها برغبة والدها، فأجهشت أميرة بالبكاء، وتبعتها إيناس ووالدتهما، التي لم تجد أمامها سوى أن تصلي وتبتهل، فيما راحت كل من إيناس وأميرة تتناوبان عليه، حتى أجبرهن الأطباء وطاقم التمريض على مغادرة المستشفى والعودة إلى الفندق الذي ينزلن فيه للراحة، لعدم جدوى وجودهن أمام الباب أو الممر بين غرفة الرعاية والاستراحة، خصوصاً أنه يلقى رعاية طبية فائقة.

القرار الأصعب

جلسن في بهو الفندق مع بعض المقربين من الأصدقاء البيروتيين والمصريين وغيرهم، يتحدثن في حالته، وكلمات من هنا وهناك للتهدئة والتهوين من الكارثة التي بدت واضحة.

في اليوم التالي ذهبن إلى المستشفى، لم يتغير حاله، غير أن إيناس لاحظت بعض الكدمات باللون الأحمر في معصمه وذراعه، فأزعجها ذلك:

= إيه دا يا دكتور؟

- ما تنزعجي سيدة إيناس... هايدا محل الأبرا... وهاغيدا محل القشاط.

= إيه القشاط دا؟

- انتو بمصر بتقولوا حزام... ما تواخذينا بننجبر نربط أيده بالليل من شان بيضلوا ما بيشد «النربيش» اللي بمنخاره.  

= قوللي يا دكتور احنا ممكن ناخد نعالجه في المانيا أو فرنسا... احنا مستعدين حتى لو في أميركا.

- ست إيناس... حالته ما بتسمح بأنه ينتقل من هون للغرفة المجاورة... بعدين احنا إذا بنقصر حاسيبينا.

= مش قصدى والله يا دكتور... بس أكيد حضرتك مقدر حالتنا ورعبنا عليه.

- الاستاذ سيد ما بيهمكن وحدكن... وما بيهم المصاروة وحدهن... الأستاذ سيد ثروة قومية لكل العرب ونحن نتعامل على هادا الأساس.

مرت عدة أيام، وراحت الصحافة العربية تتابع حالته الصحية، ما بين أخبار حقيقية ومبالغات، والحالة بين الأمل والرجاء، فلم يكن هناك تحسن ملموس، اللهم إلا أنه أصبح يحرك شفتيه بشكل دائم، متمتماً بآيات من القرآن الكريم، فلم ينقطع عن قراءة القرآن لحظة واحدة، إلا إذا غاب عن الوعي، للنوم أو بفعل العقاقير الطبية، حتى اتخذ الأطباء قراراً بضرورة إجراء جراحة له، غير أنهم انتظروا قرار الأسرة للتنفيذ:

- مافي مجال... لا بد تقرروا... العملية لازم تتم قبل ثلاث أيام... الحد الأقصى لوجود الأنابيب في القصبة الهوائية ثلاث أسابيع. لا بد من عمل فتحة في الرقبة لإدخال الأنابيب اللي بنوصلها بجهاز خارجي يقوم بعمل الرئتين... لحين ما بتعود الرئتين للعمل من جديد.

جاء الموقف عصيباً أليماً... لا بد من اتخاذ القرار وبسرعة، وفي الوقت نفسه الهواجس تدور في عقل أسرته، فالعواقب قد لا تكون مضمونة، فتم تكليف إيناس بالمهمة الشاقة على نفسها، وهي إبلاغه بأمر العملية، وما إن أبلغته حتى اكفهر وجهه، وقطب جبينه، وأومأ برأسه موافقاً، موافقة المستسلم الذي يخضع لأمر لا مفر منه، ربتت على يده، وقبلت جبينه، وتحركت من جواره، ظن أنها غادرت الغرفة، غير أنها كانت على مقربة من السرير عندما لاحظت شفتيه تتمتمان بكلمات، اقتربت من دون أن يشعر لتفهم ماذا يقول، ويالا صدمة ما سمعت:

* كفااااية كداااا... أااانا عاووز أموووت.

خرجت إيناس من الغرفة، وانفجرت في بكاء مرير، شعرت بأن النهاية قد اقتربت... وها هو يشعر بها، أو يطلبها إنهاء للعذاب الذي يشعر به من جراء المرض. الشيخ سيد الذي ملأ الدنيا غناء وضحكاً وصخباً، لا يستطيع أن ينطق بكلمة، الرجل الذي اجتهد أن يصنع البهجة للجميع، يرقد حزيناً يائساً من مرضه، لدرجة أنه يتمنى أن يسرع بلقاء الموت.

وقف الجميع أمام باب غرفة العمليات في صلاة وابتهالات وأدعية أن يكون الله معه، إلى جواره، يأخذ بيده، ينجيه، لم تتوقف ألسنتهم عن الدعاء، ووجوههم تبللها الدموع، بين اليأس والرجاء والتعلق برحمة الخالق، غير أن ما زاد من قلقهم ورعبهم، من جاء ليخبرهم برحيل صديق عمره وشريك نجاحات عدة في رحلته، الشاعر عبد الرحمن شوقي، وكان القرار من دون تردد بألا يذكر هذا الخبر أمامه.

خرج الطبيب ليزف لهن نجاح العملية، تفاءلن، شعرن بأن الله استجاب لدعائهن، والأمل أصبح كبيراً في الشفاء. غير أن ما أبكى أميرة لدرجة الانهيار ما قرأته في إحدى الصحف العربية التي تصل إلى بيروت:

«جراحة دقيقة للشيخ سيد مكاوي يفقد على إثرها صوته إلى الأبد».

   

على رغم أنه لم يكن هناك فرق يذكر بين زوجته وابنتيه في ملمس أيديهن، إلا أنه كان يميز بسهولة ويسر لمسة يد زوجته، فما إن جلست إلى جواره وأمسكت بيده حتى ابتسم لها:

= ألف حمدلله على السلامة.. ألف مليون سلامة لك يا حبيبي عمري

* الله يسلمك

= يلا شد حيلك أمال قوم بالسلامة... علشان إيناس وأميرة

* البركة فيكي انت بقى.

= ما تقولش كدا... البركة فيك انت وهاتفضل منور حياتنا كلنا.. احنا من غير ولا حاجة.

* دي مطلع اغنية بتاعة وردة.

= أيوا كدا... هو دا حبيبي اللي أعرفه.

انفرجت أساريرها هي وابنتاهما عندما عاد لسخريته، وعلى رغم أن حالته بدت في تحسن يوماً بعد يوم، إلا أن الخطر لم يزل تماما، فلا يزال غير قادر على الكلام، بسبب تلك «الفتحة» التي في رقبته، فلا بد على من يريد سماعه من أن يضع أذنه على فمه ليسمع بصعوبة، أو أن يكون ممن يجيدون قراءة «الشفايف».

نهاية الرحلة

ما إن سمح له بتناول الغداء وبدأ يستطيع الجلوس وأصبح ينطق بصعوبة بالغة قال:

* عايز أروح مصر.

= زهقت منا أستاذ سيد.

* أبدا والله كتر خيركم...قايمين بالواجب وأكتر... بس مصر وحشتني أوي... مش عارف أكافئكم أزاي

= أستاذ سيد مكافأتنا سلامتك.

بعد عدة أيام سمح له الأطباء بالسفر إلى مصر، على أن يرافقه طبيبه المعالج من بيروت إلى القاهرة، في الوقت الذي أصدرت فيه ابنته إيناس تعليمات للأهل في القاهرة بعمل التجهيزات الخاصة في منزله في القاهرة، من الاتفاق مع أطباء مصريين لمتابعته في مصر، وتخصيص ممرضة لملازمته بشكل دائم في بيته.

لم يصدق سيد مكاوي أنه عاد من جديد إلى بيته، بعدما مرت عليه لحظات ظن فيها أن النهاية ستكون بعيداً عن معشوقته مصر، ما أسعده بشكل كبير وأعاد البسمة إلى شفتيه، وزاد من سعادته وتفاؤله هو غلق تلك «الفتحة» التي في رقبته، بمرور الوقت، بل وأصبح يمارس حياته بشكل أقرب إلى الطبيعية:

* عارفه يا إيناس.. أكتر شيء أسعدني أني مت ورجعت تاني للدنيا... زي ما حصل مع أم كلثوم... يمكن ربنا عمل كدا علشان أشوف أد إيه الناس بتحبني. الحمد لله... دي أكبر ثروة ممكن أسيبهالكم وأنا مطمن.

لم يمر أسبوع على تماثل الشيخ سيد للشفاء، حتى عاوده الاختناق والألم مجدداً، صرخ الجميع، هرج ومرج وارتباك، الجميع يتصل بكل الأطباء، من يعرفونه ومن لا يعرفونه، غير أن الشيخ سيد نفسه وضع حداً لذلك، وعرف أنها النهاية، عندما أمسك بيد زوجته وقال لها:

* ما فيش فايدة... أنا خلاص... باموت.

لحظات وفاضت روحه إلى بارئها، في فجر 21 من أبريل 1997، في اليوم نفسه الذي غادر فيه الدنيا توأمه الفني صلاح جاهين، قبل أحد عشر عاما، كأنهما كانا على موعد كعادتهما دائما، ولم يخلف الشيخ سيد موعده على رغم أنه سبق وأخلف مئات المواعيد، فإنه لم يستطع إلا أن يلبي نداء ربه، بعدما أمتع الملايين، وصنع لهم البهجة التي تنير لياليهم الظلماء، أغدق الدنيا بفنه الذي سيظل باقياً شاهداً على عبقرية نادرة قد لا يجود بها الزمان كثيرا.

(النهاية)

back to top