حديث عابر حول «ساق البامبو»

نشر في 23-04-2013
آخر تحديث 23-04-2013 | 00:01
 د. نجمة إدريس شيء مؤلم ألا يكون الإنسان كساق البامبو، تنمو له جذور أخرى متى ما أراد وأينما شاء، تلك قضية مؤثرة وضاربة في كينونة الإنسان ومعبرة عن أهم حاجة من احتياجاته النفسية والوجودية، وهي الحاجة إلى الانتماء. تلك الحاجة التي تستحيل إلى لون من الجوع الذي يتآكل صاحبه، وغالباً ما يؤدي عدم إشباعه إلى آلام نفسية مبرحة وشعور بالنقص والتخلي، إن لم يؤدّ إلى لون من التحطيم الذاتي الذي يقود صاحبه إلى العزلة ومعاداة الوسط الاجتماعي الذي فشل في الانتماء إليه.

معالجة قضية «اللاانتماء» في رواية «ساق البامبو» لسعود السنعوسي تضرب بشكل مباشر في لبّ المشكلة وعصبها بواقعية فاقعة. فليس في نسيج الرواية ميل إلى السفسطة والتفلسف، بقدر ما فيها من الاحتكاك المباشر بلحم الواقع وأمراضه وغثاثاته، فعيسى أو هوزيه ليس هو «لامنتمي» كولن ولسون ولا «غريب» ألبير كامو، ولا علاقة له بمستوياتهم الشاطحة نحو الفلسفة الوجودية وقلق البحث عن الذات من منطلق فلسفي تأملي . إنه مجرد فتى تائه يبحث عن مسقط رأسه وعن أولويات حياة كريمة وعن وأوراق رسمية تثبت بنوّته لعائلة أبيه في الكويت. ويبدو أن مشكلته الأساسية تكمن في نسبه (الأضعف!) جهة أمه، وكونها فلبينية كانت تعمل خادمة في بيت العائلة الكويتية، تزوجها مخدومها في غفلة من الزمن !

 ورحلة معاناة عيسى/هوزيه في استحقاقه لنسبه وبنوّته، ومن ثمّ حروبه النفسية الطاحنة مع وسط يحقّره ويناصبه الجفوة والعداء لها متشابهات عدة في تاريخنا وثقافتنا العنصرية. لعل أبرزها مثال عنترة بن شداد الذي لم يشفع له كون أبيه شيخ القبيلة، ولم تشفع له شجاعته الخارقة ولا حبه النبيل لابنة عمه، ما دامت أمه هي زبيبة الحبشية التي ورث عنها سوادها، تماماً كما ورث (هوزيه) ملامح أمه الفلبينية ورطانة لسانها. تلك مشكلة أزلية تتكرس بسبب مفاهيم المجتمع حول الطبقات والأصول وكونها رفيعة أو وضيعة من زاوية موغلة في العنصرية والتفرقة. ولو كان عيسى ينتمي لأم انكليزية أو أميركية لربما انعكس الوضع تماماً.

 وأعتقد أن الاقتراب -روائياً - من هذه القضية التي لها نماذج وأمثلة لا تُعد ولا تُحصى في واقعنا الراهن وعلى نطاق محلي وإقليمي صرف، هو ما ضمن للرواية تلك المكانة المتقدمة في تصفيات البوكر، كونها تعرّي واقعاً اجتماعياً قلما تم التعامل معه بحصافة وإنسانية. ورغم أسبقية سعود السنعوسي في تفجير هذه القضية ووضعها تحت المجهر، إلا إننا يمكن أن نجد نموذجاً مسانداً بين تضاعيف كتاب عالية شعيب (طيبة)، والذي حددته بأنه (نص روائي) رغم اقترابه من أسلوب السيرة الذاتية. وفيه يمكن أن نتلمس تلك التصادمات النفسية ومرارات الانكفاء على الذات وآلام اللاانتماء المبرحة، لمجرد الانحدار من أم (لبنانية) لم تنجح يوماً في اختراق جدار الرفض والعزلة. تقول المؤلفة بصدد الحديث عن الأم:

 « محاولات متكررة للانتماء في كيفان، شارع عمر المختار حيث كانت الأصغر والأجمل... ولم يتمكّن من تقبّلها حتى بعد أن كبرت وتغيرت وحصلت على جوازها وارتدت العباءة والحجاب، لم تتساوَ معهن، لم يدعنها... جروحها عميقة من معاملتهن، (لأني لبنانية)... وكانت تكرر ما قلنه عن التبولة التي تقدمها في المناسبات، بأنها مثل (قيء القطط). كنتُ أشعر بألم عزلتها الناتجة عن رفض الآخرين لها وعدم انتمائها. أتذكر المشهد وكأنه حدث الآن ومنذ دقائق، كم بكت وحزنت بعدها بأسابيع حين قامت بتسليم جواز سفرها اللبناني لتستبدله بجواز انتماء وهوية. كانت تحاول التأقلم دون جدوى ولم تجد لها مكاناً، لم يفسحوا لها بقعة لبذرة تزرعها وتضيء أيامها. إنه ذات الألم وهي نفسها ذات العزلة، كأنها تعيش مجدداً عبر تجربتي ومعاناتي المماثلة اليوم. ها هو ذات الألم يتكرر ويتكسّر وذات المعاناة تنهش فيَّ وتغرز أسنانها في وعيي وضميري اليوم. علقم التجربتين في وعاء واحد، قلبي الذي رأى وسمع وساند وشاركها يعيش اليوم حرارة التجربة والصراع ألماً متجدداً ومضاعفاً وصراخاً بلا حدود».

 وبالعودة إلى (عيسى) نجده في نهاية المطاف، ورغم خيبات الفشل في الانتماء، يحمل معه في غربته حفنة تراب من قبر أبيه وعلماً كويتياً صغيراً، وحرارة إيمان بالمستقبل ممثلاً في طفله الرضيع الذي جاء حاملاً بجدارة ملامح جده (راشد عيسى الطاروف) واسمه وسمته، وكأنه على استعداد لخوض المعركة من جديد وبأسلحة أشدّ وقعاً.

back to top