الربيع العربي: حكومات وتحديات

نشر في 29-10-2012
آخر تحديث 29-10-2012 | 00:01
 د. عبدالحميد الأنصاري في سُنّة حميدة استنتها صحيفة "الاتحاد" الإماراتية على امتداد 7 سنوات، ولعلها الصحيفة العربية والدولية الوحيدة، في استضافة كتّابها من دول العالم المختلفة إلى لقاء سنوي حول موضوع من موضوعات الساعة، كان موضوع لقاء هذا العام "المشهد العربي ومسارات التحول"، وقد أتى مواكباً للتغيرات الحاصلة في الساحة ومستقرئاً لمساراتها المستقبلية حول قضيتين حيويتين: مسارات التحول في بلاد التغيير، والاتحاد الخليجي وتحدياته.

اجتمع 50 كاتباً ومفكراً، في "أبوظبي" 20 أكتوبر، لمناقشة أوراق عمل تناولت قضايا المشهد الراهن وآفاق التغيير، أثرتها تعقيبات من قبل باحثين ومداخلات صريحة من قبل الحضور في جو حميمي، نَعِم الحضور فيه بدفء الضيافة الظبيانية ولطف الاستقبال وأنس الترحيب وحسن الإعداد والتنظيم.

ساهمتُ بورقة "بلدان التغيير وحالة السيولة" في محاولة للإجابة عن تساؤل مهم مطروح في الساحة: هل يتمكن الإسلاميون الذين امتطوا جواد الربيع العربي وصولاً إلى السلطة، من ترجمة قيم الربيع العربي: الحرية والعدالة والكرامة على أرض الواقع؟ وهل تنجح حكومات الإسلاميين في تحقيق تنمية مجتمعاتها والنهوض بها إلى عالم المزدهرين؟

رأت الورقة أن هناك تحديات كبيرة أمام تحقيق أهداف وقيم ثورات الربيع العربي، من أبرزها:

 1- أن هذه الحكومات مازالت محكومة بقانون "رد الفعل" الانتقامي ولم تتحول بعد إلى قانون "الفعل" النهضوي والتنموي والإبداعي.

2- أن حكومات الإسلاميين لا تملك مشروعات حقيقية للنهوض بدول الربيع العربي، وكل ما قيل وأثير عن مشروعات للنهضة هو مجرد تنظيرات لا يمكن ترجمتها على أرض الواقع.

3- الإسلاميون لا خبرة لهم بشؤون الحكم ولا دراية لهم بفن إدارة الاختلاف السياسي، وكل خبرتهم منحصرة في المعارضة، فهم مهرة في تهييج الجماهير والتلاعب بعواطفها عبر فنون الخطابة الحماسية والصراخ العالي، ونحن بطبيعة الحال أمة تستهوينا الخطب العنترية ونستثار سريعاً بها.

4- كما أن الإسلاميين يفتقدون الروح التسامحية مع خصومهم السياسيين سواءً من السلفيين أو الليبراليين، ولذلك فهم عاجزون عن تحقيق الحد الأدنى لتوافق وطني عام يمهد لاستقرار سياسي مجتمعي يساهم في إنجاح مشاريع التنمية، ويسمح بالازدهار الثقافي والفني.

5- الإسلاميون مازالوا منشغلين بأنفسهم أكثر من أوطانهم، منشغلين بالتمكين الكامل لأنفسهم وللمتعاطفين معهم عبر سياسة الاستحواذ والزحف الشامل على المؤسسات والمناصب كافة، وفي مصر على سبيل المثال أصبحت "الأخونة" واقعاً ممارساً، وأما في تونس فالشريط المسرب عن اجتماع الغنوشي بشباب السلفيين يشي بكثير من الإقصاء للآخرين، وحتى اليوم لم تستطع تيارات الإسلام السياسي أن تتجاوز ذاتها ومصالحها الحزبية إلى الذات العامة، وإلى المصالح العامة لأوطانها، إنهم يحبون أنفسهم أكثر مما يحبون أوطانهم.

6- لا يمكن إنجاح قيم الربيع العربي، كما لا يمكن بناء مشروع لنهضة أمة إذا كان يحتكرها تيار سياسي واحد محكوم بروح استعلائية وإقصائية يسميها علماء النفس والاجتماع بـ"متلازمة السلطة"، وهي مرض تدفع صاحبها إلى الاستئثار بالسلطة وعدم المصداقية، وعدم الشفافية والتخبط في القرارات.

7- حكومات الربيع العربي تسلك اليوم نفس مسالك الحكومات السابقة، وتكرر نفس سياساتها في الداخل المجتمعي، وفي الخارج الدولي، ولا تكاد تختلف عنها في مسلكياتها العامة، وعلّة ذلك أن هذه الحكومات، وإن ادعت حرصها على تطبيق الشريعة كاملة وأنها تملك حلولاً إسلامية لمشكلات المجتمعات المعاصرة، فإنها في الحقيقة لا تملك أي حلول عملية جديدة لذلك، فهي مضطرة إلى تبني الحلول السابقة التي كان ينتقدها الإسلاميون.

فمثلاً نجد الحكومة المصرية تكرر نفس السياسة الاقتصادية التي كانت تطبقها حكومات مبارك في علاج مشاكل عجز الميزانية وارتفاع البطالة وتعثر الاستثمارات وتوفير الدعم... إلخ. وذلك عبر سياستين: الأولى، التوسع في الاستدانة من الخارج وقبول المعونات الأميركية والمساعدات الأخرى، علماً أن الإسلاميين قبل ذلك كانوا يهاجمون الأنظمة السابقة، وينادون بالاعتماد على الذات وعدم الاستدانة، الثانية، قام البنك المركزي المصري بطبع 5 مليارات جنية من غير غطاء حقيقي، مما خلق تضخماً ونمواً غير حقيقي.

التساؤلات المطبوعة على خبراء الاقتصاد الإسلامي: أين حلولكم الإسلامية للمشاكل الاقتصادية لبلدان الربيع العربي؟

 لقد عشنا نصف قرن والإسلاميون يهاجمون الأنظمة العربية لأنها تعتمد على استيراد حلول من الخارج، وتتجاهل حلولهم للاقتصاد والسياسة والاجتماع، ومن يراجع أدبيات "الإخوان" التي فاضت بها المكتبة العربية على مدى نصف قرن، وأثارت العالم العربي ضد الحلول المستوردة، والاعتماد على الغرب، وحذرت من التبعية للخارج، ومن يقارن مسلكيات حكومات الإسلاميين يجد أن حلولهم الإسلامية إنما كانت مجرد ادعاءات غير واقعية.

لقد اكتشف الإسلاميون بعد أن وصلوا إلى السلطة أنهم لا يستطيعون إعادة اختراع العجلة من جديد، ولذلك نجدهم يستعيرون حلول الآخرين ولكن بغطاء إسلامي!

ما معنى ذلك؟ معناه أن شعارات الإسلاميين مثل "الإسلام هو الحل" و"تطبيق الشريعة" وغيرها ما هي إلا شعارات كانت صالحة في مرحلة المعارضة لاستثارة الجماهير ضد الأنظمة القائمة، وصولاً إلى السلطة، لكنها لا تصلح حلولاً عملية لمشكلات الواقع، وهذا يؤكد أن الإسلاميين لا يملكون حلولاً حقيقية لمشكلات دول الربيع العربي.

نعم هناك قيم وتوجيهات ومبادئ إسلامية، وهناك أهداف وطنية يجب أن تكون حاكمة وموجهة إلى الاقتصاد والسياسة والاجتماع، لكن الحلول العلمية للمشكلات المجتمعية هي حلول واحدة لا جنسية لها ولا دين.

لقد كان الإسلاميون في الماضي ينتقدون حكامهم السابقين لعلاقاتهم بأميركا ويرونها "تبعية" و"رضوخاً"، وها هم اليوم يسلكون نفس مسلكهم تماماً، فيقبلون المعونة والسلاح الأميركي، بل يحرصون على التودد إلى أميركا، وهم بذلك يبيحون لأنفسهم ما كانوا يحرمونه على غيرهم! كانوا ضد اتفاقية السلام مع إسرائيل واليوم يحرصون عليها، وحتى "حماس" تحرص على التهدئة وتطارد من يستهدف إسرائيل وتعاقبه، وتبعث مصر بسفيرها إلى إسرائيل بكتاب ودود يخاطب الرئيس الإسرائيلي بـ"صديقي العظيم"، ولا يخجل أمين جماعة "الإخوان" أن يبرر هذا التصرف بقوله: إن حسابات الدولة غير حسابات الحزب! حسناً: إذا كان الأمر كذلك فلماذا لا تنتقدوا الدولة كما كنتم تفعلون في عهد مبارك؟!

8- حكومات الإسلاميين أصبحت تمارس نفس السياسات الإقصائية التي كانت تمارسها حكومة الحزب الوطني في عهد مبارك، وحكومة بن علي في تونس، والدلائل والشواهد على هذه السياسات كثيرة، يكفي أن تتأمل مسلكيات هذه الحكومات في اندفاعاتها المتعجلة نحو الاستحواذ الكامل على المناصب والمؤسسات كافة، وتمكين أنصارها بل حتى المجالس التأسيسية للدساتير الجديدة للربيع العربي أصبحت تحت هيمنة الإسلاميين، هذا يؤكد أن حكومات الإسلاميين تنهج نهج المغالبة والهيمنة لا نهج المشاركة والتوافق.

ختاماً: قد يرى البعض فيما أسلفت نوعاً من التشاؤم لمسارات الربيع العربي، وفات هؤلاء أن من شأن الناقد أن يحلل ويفسر لا أن يتشاءم أو يتفاءل، المثقف الناقد لا يسعى إلى تغيير العالم، ولكن همه الأساسي تبصير الناس بواقعهم، ورفع وعيهم حتى يغيروا بأنفسهم واقعهم، مصداقاً لقوله تعالى "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".

مهمة المثقف غير مهمة المناضل الذي يناضل من أجل تغيير الواقع، ولذلك فهو يتشاءم ويتفاءل تبعاً لتطورات الأمور، ويردد آخرون مقولة مستهلكة لكنها دارجة تقول: لماذا تستعجلون؟ لماذا لا تعطون الإسلاميين فرصة؟! وهي مقولة يراد بها باطل، يراد بها أن نسكت ونتغاضى عن مسلكيات الإسلاميين في السلطة حتى تتراكم الأخطاء والانحرافات المهددة لمستقبل الربيع العربي، هؤلاء يريدون ألا ننتقد الإسلاميين بل ننافقهم ونصفق لهم لأنهم يطبقون شرع الله، ومن ينتقدهم فإنه في زعمهم، آثم، ثم من قال إننا لا نعطي للإسلاميين فرصة! هم اليوم في كراسي الحكم ولن يتركوها رضينا أم أبينا.

* كاتب قطري

back to top