ثورة يوليو... مصر تنهض فتغيّر العالم (2/3):الضباط الأحرار خلعوا الملك... قبل أن يفترسهم ليلة الثورة

نشر في 26-08-2011 | 22:02
آخر تحديث 26-08-2011 | 22:02
تغيير ساعة الصفر تسبب في إلقاء أعضاء بالتنظيم القبض على جمال عبدالناصر

كانت حرب فلسطين جرحا مؤلما لكل المصريين، وخاصة الضباط، فالكرامة الوطنية والعسكرية التي أُهدرت على أرض الميدان، كان من الصعب تجاوز آثارها بسهولة، ووصل الغضب في النفوس أقصاه مع تواصل التحقيقات في ما سمي بفضيحة الأسلحة الفاسدة، والإشارات المتوالية عن تورط الملك وكبار حاشيته، بل إن أوراق التحقيق كشفت أن الملك أسند لجنة متطلبات الجيش إلى اللواء إبراهيم المسيري صهر عمر فتحي كبير الياوران، وقد ثبت بالدليل القاطع مخالفة تلك اللجنة لقواعد المشتريات، كما تعاملت مع العديد من وكلاء السلاح، وبينهم النبيل عباس حلمي ابن عم الملك فاروق، فضلا عن وجود تحويلات مصرفية تثبت تورط فاروق في الاستيلاء على تبرعات لمصلحة حرب فلسطين وتحويلها إلى أرصدته في إيطاليا وسويسرا!  كل هذه الطعنات المتتالية، جعلت بركان الغضب يصل إلى أقصاه، وبدأت حركة محمومة في أوساط الجيش، وتشكلت في تلك الفترة الكثير من التنظيمات، كان بعضها يضم بضعة جنود، فالكل يريد الإصلاح، لكنه لا يرى السبيل، لكن الضباط الأحرار كانوا دوما يعرفون موضع أقدامهم... على طريق الثورة.

وبدأ تنظيم الضباط الأحرار الذي بذل البكباشي جمال عبدالناصر جهدا جبارا في تنظيمه وإعداد خلاياه بشكل عنقودي معقد، في التحرك بقوة في أوساط الضباط، مستخدما حرب المنشورات التي كان لها صدى واسع في أوساط الجيش، وحتى خارجه، حتى أن بعض التنظيمات الثورية والسياسية الأخرى توقفت في تلك السنوات عن إصدار منشوراتها، واكتفت بمنشورات الضباط الأحرار، وهو ما عد نوعا من التوافق على مضمون تلك المنشورات والفكرة التي تعبر عنها، وأقضت تلك المنشورات مضجع الجميع في القصر والحكومة والسفارة البريطانية، فقد أعلنت تلك المنشورات صراحة سقوط الولاء له، والتأكيد على أن الجيش هو جيش الأمة وليس جيش أحد الأفراد، كما هاجمت تلك المنشورات الأسلوب الذي يدار به الجيش، وهاجم أحدها على سبيل المثال قيام الجيش باستعراضات في مناسبة زواج الملك، مؤكدا أن «استخدام الجيش في تلك الاستعراضات الهزلية إنما يبدد طاقته ويخرجه عن هدفه، بينما كان من الأجدر أن يدخر للمستقبل المكفهر»، وزادت حدة تلك المنشورات ووصلت إلى الدعوة صراحة لضباط الجيش إلى «الثورة على الملك الخائن وحكومته العميلة للاستعمار»، مؤكدين أن «عهد الطاغية لابد أن يزول وأن رأسه لابد أن يسحق».

ولم يقتصر وصول تلك المنشورات إلى الملك على السمع فقط، وإنما كانت تصل إليه مباشرة، ففي أحد الأيام فوجئ بأحد المنشورات تحت الفوطة في غرفة المائدة، وثار الملك وهاج وماج، وتم استجواب كل من في القصر دون فائدة، واستدعي القائد العام للجيش محمد حيدر باشا، وألقى بالمنشور في وجهه، فاكتفى الأخير بتأكيد أنه لن يقف مكتوف الأيدي في مواجهة هذه الحفنة الصغيرة من الضباط الصغار... ومرة أخرى وجد الملك أحد المنشورات مدسوسا بين ملفات المراسيم التي يوقعها، واستعان ببوليس القصر للبحث عن الفاعل دون جدوى، وأطلق الملك جواسيسه دون أن يهتدوا إلى من يقوم بتوصيل منشورات الضباط الأحرار إلى قلب القصر الملكي، والتي لم تكن سوى ناهد رشاد الوصيفة بالقصر.

معركة نادي الضباط

ومن بين الأحداث ذات الدلالة في الطريق إلى الثورة كانت تلك المعركة الطاحنة التي لم تدر في ميادين القتال، ولم تستخدم فيها الأسلحة والمدافع والدبابات، وإنما دارت على أرض نادي الضباط، لكن وقعها كان أخطر من دوي القنابل، وأشرس من نيران الصواريخ والطائرات.

ففي تلك الأيام من أواخر عام 1951، أراد الملك أن يثبت أنه صاحب السلطان الأول والأخير في البلاد، ويكسر إرادة هؤلاء الضباط الذين أرادوا إسقاط شرعيته وصاروا مصدر إزعاج له، وتوافقت إرادة الطرفين على اختيار انتخابات نادي الضباط في ذلك العام ميدانا لمبارزة لا تحتمل نتيجة التعادل، فلابد أن يجهز طرف على خصمه، فقد أراد الضباط الأحرار اختبار قوة تنظيمهم بعد سنوات من العمل السري، إضافة إلى اختبار مدى صلابة الملك، ورغم أنه جرى العرف على أن يختار الملك رئيس وأعضاء مجلس إدارة النادي، فإن الضباط الأحرار بدأوا حملة منظمة للدعوة إلى إجراء انتخابات تنافسية، ونظموا حملة دعاية قوية لمرشحيهم.

واختار الملك اللواء حسين سري عامر مرشحا له لرئاسة النادي، وكان عامر وكيلا لسلاح الحدود، ومتورطا في العديد من أعمال السرقة والاتجار في الأسلحة المتخلفة عن الحرب، وتهريب المخدرات والرشوة والتزوير، وتردد أن الملك فاروق كان شريكه في تجارة السلاح، وعندما قرر مدير سلاح الحدود عام 1950 وكان اللواء محمد نجيب شكل لجنة للتحقيق في مخالفات وكيل السلاح ورفع نتيجة التحقيق بالإدانة إلى الملك فوجئ نجيب بأن الملك يطلب له ترقية استثنائية فرفض نجيب، وعلى الفور صدر قرار الملك بالإطاحة بنجيب من سلاح الحدود، وتولى عامر رئاسة سلاح الحدود، فقرر الرجل الاستقالة من الجيش لولا تدخل جمال عبدالناصر وعبدالحكيم عامر اللذين أقنعاه بالعدول عن القرار انتظارا لمعركة أكبر، وكانت بشائر تلك المعركة في انتخابات نادي الضباط، إذ اختار الضباط الأحرار نجيب مرشحا لهم، وكانوا قد عرفوه من خلال عبدالحكيم عامر خلال حرب فلسطين، فقد كان عامر رئيسا لأركان حرب اللواء نجيب، وكان الأخير قد اشتهر في أوساط ضباط الجيش بالشجاعة، ورفضه الانصياع لفساد الملك ورغباته، وبخاصة عندما كاد أن يدفع مكانته ثمنا لتصديه لفاروق وشريكه وكيل سلاح الحدود، الأمر الذي ضاعف شعبيته داخل الجيش، ورشحه الضباط الأحرار ممثلا لهم في مواجهة مرشح الملك في انتخابات النادي، وكان ذلك بمنزلة تحد علني للملك، ووصلت أصداء المعركة إلى قصر فاروق، الذي استشعر الخطر في تلك المواجهة فعمد إلى إلغاء الانتخابات، وصدر أمر من إدارة الجيش في 27 ديسمبر 1951 بتأجيل الانتخابات إلى أجل غير مسمى، فما كان من الضباط إلا أن اجتمعوا وقرروا عقد اجتماع للجمعية العمومية للنادي، وفي 31 ديسمبر اجتمع 450 ضابطا يمثل كل واحد فيهم عشرة من زملائه، ورفض الضباط ترشح حسين سري عامر رئيسا لنادي الضباط، وانتخب محمد نجيب رئيسا للنادي، وفاز فوزا ساحقا، كما فاز خمسة من الضباط الأحرار بخمسة مقاعد في مجلس الإدارة، بينما سقط في الانتخابات أذناب القصر، وكان لهذا الفوز الساحق صداه الذي تجاوز حدود الجيش ليصل إلى مسامع الرأي العام المصري كله، وليمثل انتصارا حاسما لإرادة الضباط في مواجهة الملك الذي استشاط غضبا وحاول إقحام سري عامر مجددا عضوا معينا في مجلس الإدارة، فكانت الصفعة الثانية من الضباط الأحرار، الذين لقوا دعما في هذا الصدد من محمد حيدر القائد العام للجيش، وتم التصدي للرغبة الملكية ولم تفلح كل محاولاته في تعديل لائحة النادي أو إقناع الضباط بالانصياع لإرادته.

صندوق «الاستاكوزا»

وأدرك الضباط الأحرار من خلال دسهم لصلاح سالم ليكون في سكرتارية القائد العام أن حسين سري عامر لن يكف عن إفساده للملك وتحريضه ضد الضباط، وأيقنوا أن العلاقة بين عامر والملك ماضية إلى المزيد من القوة والمتانة بفضل الصفقات المشبوهة بين الجانبين، وصندوق «الاستاكوزا» الذي كان يصل إلى الملك كل أسبوع من رئيس سلاح الحدود طازجا من الغردقة، وكان بذلك يحكم السيطرة على عقل وبطن الملك، وحاول الضباط الأحرار اغتيال حسين سري عامر في 8 يناير 1952، إلا أن المحاولة فشلت وأصيب سائقه في الحادث.

وتسارعت وتيرة الأحداث، والمواجهة بين الملك والضباط، خاصة عقب القبض على الضابط مصطفى صدقي، وكان معروفا بعدائه للملك بتهمة محاولة اغتيال سري عامر، كما دبر الملك فاروق لقتل صدقي لخصومة شخصية بينهما بسبب ارتباط وصيفة القصر ناهد رشاد بمصطفى صدقي.

وسعى الضباط الأحرار إلى الاستفادة من التوتر الذي اعترى العلاقة بين الوفد والقصر، وبدأت بالفعل اتصالات بين الطرفين، والتقى جمال عبدالناصر بفؤاد سراج الدين، إلا أن الأخير أبدى تحفظا على ارتباط الوفد بالجيش، كما أن عبدالناصر كان حريصا على أن تكون حركة الجيش خالصة للعسكريين، دون تلوين سياسي، وفشلت الاتصالات مع الوفد، وأدرك الضباط أن عليهم الاعتماد على أنفسهم وحدهم، خاصة أن تبعات المواجهة العنيفة مع الملك في انتخابات نادي الضباط تحولت إلى ما يشبه كرة الثلج تزداد حجما كلما تحركت في أي اتجاه، لكنها لم تكن إلا كرة من النار المتأججة، وفي تلك الفترة قرر الضباط الإحرار تبكير موعد حركتهم، وكانت التقديرات تشير إلى إمكانية القيام بالحركة عام 1953 أو 1954، إلا أنهم اتفقوا على القيام بها في 1952، وبالتحديد في شهر أغسطس، لكن سرعة الأحداث، والمعلومات التي تلقاها الضباط حول كشف الملك لعدد كبير من أعضاء الهيئة التأسيسية وتصاعد حدة المواجهة بين الجانبين واقتراب الملك من إجهاض حركتهم دفعهم إلى تقديم موعد التحرك إلى يوليو. وتم اختيار محمد نجيب قائدا للحركة، وكانت القيادة قد عرضت على عزيز المصري، لكنه رفض مكتفيا بأن يكون الأب الروحي للثورة، وجاء حادث حريق القاهرة ليزيد من قناعة الضباط بضرور الإسراع في تحركهم، فالحريق الغامض، والذي تتفاوت الروايات بشأنه حتى الآن - وإن كانت كلها تجمع على أنه حادث مدبر-، وضع البلاد في مهب الريح، وجعل الملك المذعور في أضعف مواقفه، كما أن الاستعانة بالجيش لإعادة الانضباط إلى البلاد أثبتت أنه يملك مفتاح الموقف وأقنعت الضباط أن بإمكانهم بسهولة السيطرة على العاصمة والإطاحة بنظام فاروق، ورغم أن عبدالناصر وعددا من زملائه حاولوا إقناع محمد نجيب بالاستيلاء على السلطة في تلك الفترة من يناير 1952، فإن نجيب رفض خوفا من تدخل الأجانب بحجة حماية الأقليات الأجنبية، وأرسل عدد من الضباط الأحرار رسالة بمطالب الإصلاح إلى الملك فاروق بعد 3 أيام من حريق القاهرة، إلا أن الملك رفض تلك المطالب بل توعد الضباط، ودبر لنقل محمد نجيب وعدد كبير من الضباط الأحرار إلى الصعيد، والتخلص من عدد آخر منهم، وأصدر فاروق تعليماته في يوليو 1952 بحل مجلس إدارة نادي الضباط، وبالفعل صدر قرار القائد العام محمد حيدر في هذا الشأن في 16 يوليو، الأمر الذي تسبب في أزمة وزارية قدمت الحكومة على إثرها استقالتها، وكان الأقرب لتولي منصب وزير الحربية هو حسين سري عامر، الذي أراده الملك أن «يؤدب» الضباط المارقين عن طاعته، وبذلت في ذلك الوقت الكثير من الوقت لتهدئة الموقف، وسعى الساعون من جانب الملك إلى التحاور مع محمد نجيب مستخدمين «سيف المعز وذهبه» فعرضوا عليه تولي وزارة الحربية، لكنه رفض، فهدد بالنقل إلى الصعيد، وبالقبض على ضباطه، وكانت مخابرات القصر تسعى سعيا محموما إلى التعرف على اسم الضباط الاثني عشر الذين يقودون تنظيم الضباط الأحرار، واستشاط الملك غضبا بعد فشل مساعي التهدئة، وركبه الغرور، وراح يردد أنه لن يسمح للجيش بالتدخل في الشؤون السياسية.

ليلة الثورة

وبوتيرة متسارعة نحو الصدام اتجهت الأحداث وبدأت الدوائر الأجنبية تستشعر الخطر في صدام الملك والجيش، وكتب السفير البريطاني كروزويل إلى حكومته في 20 يوليو 1952 يحذر من مغبة هذا الصدام، ويؤكد أن انقلابا عسكريا على حكم الملك صار يدق أبواب القصر، مرجعا ذلك إلى تراكمات تصرفات الملك «الغبية».

وأسهمت خطوات فاروق العنيفة في التبكير بالقيام بالحركة، وخاصة أن المعلومات التي تجمعت لدى الضباط الأحرار أفادت أن الملك وأجهزته الخاصة بالأمن توصلت إلى معرفة بعض من أسمائهم، وعلى وجه الخصوص من أعضاء الهيئة التأسيسية، وأنه على وشك التحرك للقضاء عليهم والتخلص منهم... هذا هو الوقت الذي صدرت فيه حركة تنقلات ضخمة في الجيش، وكان لابد من استعجال الضباط الأحرار لضربتهم، قبل أن يسبقهم فاروق، هذا بالإضافة إلى ما وصل إليهم عن طريق أحمد أبوالفتح صاحب جريدة «المصري» من أن حسين سري عامر هو المرشح لوزارة الحربية في وزارة الهلالي الثانية بهدف التنكيل بالضباط الأحرار وقيادتهم، لذا عدل الموعد الأصلي لبدء الحركة، والذي كان محددا له الخامس من أغسطس، ليكون ليلة 22 يوليو، ولما تعذر ذلك أُرجئ ليلة واحدة فقط... لتكون مصر كلها على موعد مع... ليلة الثورة.

ورغم تعدد الروايات لتفاصيل ما جرى ليلة 23 يوليو 1952، فإن أدق تلك الروايات ما قدمه الرئيس جمال عبدالناصر نفسه بعد عشر سنوات كاملة من نجاح الثورة في حديث صحافي لصحيفة «صنداي تايمز» البريطانية أجراه معه الصحافي الإنكليزي دافيد واين مورجان ونشر في 19 يونيو 1962، وقال عبدالناصر في روايته لتفاصيل ليلة الثورة إنه في نحو الساعة العاشرة من مساء 22 يوليو جاء إلى بيتي ضابط مخابرات وعضو في جماعتنا... وإن كنا لم نخطره بما اعتزمنا القيام به، ليحذرني من أن القصر قد تسرب إليه نبأ استعداد الضباط الأحرار للتحرك... وأن الملك اتصل برئيس أركان حرب الجيش الذي دعا إلى عقد اجتماع عاجل في الساعة الحادية عشرة لاتخاذ الإجراءات ضدنا... وكان لابد من اتخاذ قرار فوري، فلو أننا تركنا كل شيء ليتم في ساعة الصفر المتفق عليها وهي الواحدة صباحا فقد يدركوننا قبل أن ندركهم، ومن ناحية أخرى كانت الأوامر قد وزعت وكان من أصعب الأمور الاتصال بكل من له صلة بالموضوع... وانضم إلينا أيضا ضابط المخابرات وخرجت مع عبدالحكيم عامر لنجمع بعض القوات من ثكنات العباسية ووصلنا متأخرين، فقد وجدنا أن البوليس الحربي قد أغلق الثكنات... فمضينا إلى ثكنات الفرسان فوجدنا أيضا أنهم سبقونا، وكان البوليس الحربي يحرس كل المداخل وبدا للحظات أن خطتنا كلها في خطر، ولم يبق على ساعة الصفر إلا تسعون دقيقة وبدا أن خطة الثورة كلها تدخل في مرحلة من تلك المراحل الخطيرة في التاريخ عندما تتدخل قوى أكبر منا لتوجيه الحوادث، ولقد تأكد لي من تطورات الأمور أن عناية الله كانت في تلك الليلة معنا.

ويضيف عبدالناصر في سرده لتفاصيل ليلة الثورة: انطلقنا لنتوجه إلى ثكنات ألماظة كحل أخير، وكنت أسير بسيارتي الأوستين الصغيرة ومعي عبدالحكيم... وفي طريقنا التقينا بطابور من الجنود قادمين من نفس الطريق تحت الظلام، وخرج الجنود من السيارة وألقوا القبض علينا... لكن الجنود كانوا في الحقيقة من قوات الثورة، وكانوا ينفذون أوامري بإلقاء القبض على كل الضباط فوق رتبة القائمقام دون مناقشة، ولم يكن الجنود يعرفون من أكون، فتجاهلوا كل كلامنا مدة عشرين دقيقة تقريبا... كل دقيقة منها أثمن ما يكون، ولم تصدر الأوامر فورا بإطلاق سراحي وسراح عبدالحكيم عامر إلا حين تقدم البكباشي يوسف صديق قائد المجموعة وأحد زملائي المقربين ليستطلع سر الضجة. ويضيف عبدالناصر: لم أسعد برؤية أحد في حياتي كما سعدت حين رأيت يوسف صديق يخرج من الظلام، فقد تحرك قبل الوقت المحدد له، وكان ينتظر حتى تحل ساعة الصفر المعنية ليبدأ الهجوم، وانضممنا إلى الطابور، وقررت ألا ننتظر واتجهنا فورا إلى القيادة وكانت قواتنا لا تزيد على قوة سرية لكن عنصر المفاجأة كان في جانبنا... واعتقلنا في الطريق عددا من قادة الجيش الذين كانوا يحضرون الاجتماع في القيادة لتوجيه الضربة ضدنا... وحدثت مقاومة قصيرة خارج القيادة، ثم اقتحمنا مبنى القيادة نفسه ووجدنا رئيس هيئة أركان الحرب، وكان على رأس المائدة يضع مع مساعديه خطة الإجراءات التي ستتخذ ضد الضباط الأحرار وقبضنا عليهم جميعا... وأوفدت من يجيء باللواء محمد نجيب الذي كنا قد فاتحناه قبلها بيومين في احتمال انضمامه إلينا إذا ما نجحت المحاولة، ولم نكن قد أطلعناه على أحداث الليلة، ولكن تبين لنا أنه كان له علم مسبق بما حدث... فقد اتصل به وزير داخلية الملك تلفونيا من الإسكندرية، قبل ذلك بنصف ساعة ليستفسر منه عما يجري، وأمكنه أن يجيبه بأنه لا علم له بشيء دون أن يكون كاذبا في كلامه... كان نجاحنا تاما في الخطوات الأولى وبقي أن نستوثق تماما من أن الملك لن يتمكن من تنظيم هجوم مضاد... وفي الصباح أجرينا اتصالا بالسفارة الأميركية أولا ثم السفارة البريطانية لإبلاغها أن الضباط الأحرار استولوا على السلطة... وأن كل شيء يجري في نظام تام... وأن حياة الأجانب وممتلكاتهم ستؤمن ما لم يحدث تدخل خارجي... وفي الساعة السابعة صباحا، أعلنا على الشعب المصري من محطة الإذاعة نبأ عزل الوزارة المصرية، وأن البلاد أصبحت أمانة في يد الجيش، وأن الجيش أصبح الآن تحت إشراف رجال يستطيع الشعب أن يثق ثقة تامة بكفاءتهم ونزاهتهم ووطنيتهم وكان الملك قبل ذلك بنصف ساعة قد سأل قائد جيشه عما يجري من أمور مفاجئة فأجابه قائلا: «إنها مجرد عاصفة في فنجان يا صاحب الجلالة».

لكنها لم تكن زوبعة في فنجان، وإنما واحدة من أخطر الثورات في التاريخ، وأحكم الضباط الأحرار قبضتهم على البلاد، وانتهوا بعد خلاف حول مصير الملك إلى قرار عزله ونفيه، وبالفعل أبلغ محمد نجيب رئيس الوزراء الذي اختاره الضباط علي ماهر باشا بضرورة إعداد وثيقة التنازل عن العرش، فاتصل رئيس الوزراء بالدكتور عبدالرزاق السنهوري يطلب منه تحرير وثيقة التنازل، وعرضت الوثيقة على محمد نجيب فأقرها، وأرسلت الوثيقة مع سليمان حافظ مستشار الرأي بمجلس الوزراء، واستقبل فاروق حامل الوثيقة وما يحمله بقلق بالغ، وكان يرتدي زي قائد القوات البحرية، فوقع على الوثيقة مرتين، وكانت هناك اتصالات مستمرة بين الملك والسفيرين الأميركي والبريطاني لتأمين حياته، بل إن فاروق طلب أن تقله مقاتلة أميركية إلى الخارج، واتفق السفيران الأميركي والبريطاني مع محمد نجيب على ترتيبات الرحلة الأخيرة للملك إلى خارج البلاد، تلك الرحلة التي لم يعد منها إلا جثة هامدة محمولا في صندوق خشبي عقب وفاته ليلة 18 مارس 1965 بعد تناوله العشاء في مطعم أيل دي فرانس الشهير بالعاصمة الإيطالية روما، ووري جثمان فاروق تحت جنح الظلام بجامع إبراهيم باشا بالقاهرة، ثم سمح الرئيس المصري الأسبق أنور السادات بعد ذلك بنقل رفاته إلى جوار أبوه الملك فؤاد، وجده الخديو إسماعيل في مسجد الرفاعي بالقاهرة الفاطمية... ولتطوي مصر بذلك صفحة الملكية، وتبدأ عهد الثورة، الذي لم يكن أبدا مفروشا بالورود، وإنما شهد الكثير من الأحداث والصراعات نتعرض لجانب منها في الحلقة القادمة.

back to top