مسرح البولشوي... لقاء العظمة والحداثة!

نشر في 02-11-2011 | 00:02
آخر تحديث 02-11-2011 | 00:02
يتربّع مسرح البولشوي على قمة المسارح الروسية، وبعد ست سنوات من الترميم والتجديد، فرح عشاقه بالمبنى الجديد الرائع، لكن العروض التي قُدّمت على مسرحه حدّت من هذه الحماسة. «شبيغل» تابعت هذا الحدث.

من الصعب ترجمة الكلمة الروسية awos، فقد تعني «ربما» أو «على أمل»، لكن هذه الكلمة تحمل أيضاً معنى أوسع: فوسط الحماسة العارمة وما ينتج منها من فوضى، ستسير الأمور على ما يرام في النهاية. وتبدو هذه الكلمة اليوم ملائمة لوصف المزاج العام السائد في موسكو حيال مسرح البولشوي.

يُعتبر هذا المسرح أحد أبرز المسارح الأوروبية التي تتمتّع بتاريخ عريق وحافل. اشتهر بعروضه الأوبرالية وفرقته لرقص الباليه (فرقة بولشوي للباليه) التي تعدّ الأكبر في العالم، إذ تضمّ مئتي راقص وراقصة. أقفلت أبواب هذا المسرح طوال ست سنوات، قدّم خلالها راقصوه ومغنّوه عروضهم في مبنى آخر، فيما كان المبنى الرئيس يخضع لعملية ترميم وتجديد بلغت كلفتها 570 مليون يورو (798 مليون دولار).

نُظمت حفلت إعادة الافتتاح مساء الجمعة في 28 أكتوبر وشكّلت جزءاً من عرض ضخم بُثّ مباشرة في عدد من المسارح وعبر شبكات التلفزة والمواقع الإلكترونية حول العالم، فيما كان العمال من قرغيزستان وأوزبكستان لا يزالون ينزعون الغراء عن الدرج. كذلك، فاحت منه رائحة الطلاء، في حين أن سقف غرفة تخزين قطع الديكور على عمق 20 متراً تحت الأرض يرشح ماء كلما أمطرت. أما الراقصون الرئيسون، فتابعوا استعداداتهم لتقديم عرض ضخم على مسرح مخصّص للتمرينات.

تعني عبارة Bolshoi Teatr (بولشوي تيتر) بالروسية المسرح الكبير. فمنذ تأسيسه عام 1776، كان مسرح البولشوي اسماً على مسمى، وقد شكّلت عملية الترميم بحدّ ذاتها مهمة ضخمة، فشملت خطوات أساسية عدة، منها إنقاذ مبنى، الحفاظ على رمز وطني يجمّل ورقة المئة روبل، تفحص التاريخ العريق لعالم ضخم بكل معنى الكلمة. باختصار، عنت عملية ترميم هذا المسرح إعادة تحديد تاريخه.

من القيصريَّة إلى الشيوعيَّة

طالما كان البولشوي مسرحاً وطنياً، سواء في عهد القياصرة أو القادة السوفيات، الذين شكّلوا في الواقع قياصرة البلد الجدد.

بنت كاثرين العظيمة أول مسرح بولشوي عام 1776، إلا أن حرائق عدة اندلعت فيه، كان أحدثها عام 1853، وبما أنه كان ضرورياً عام 1856 تأمين مسرح يتوّج فيه القيصر ألكسندر الثاني، أعيد بناء البولشوي على عجل، إلا أن السرعة أضرّت بهذا المبنى القائم على أرض طينية سبخة.

أبدع المهندس الروسي-الإيطالي ألبرتو كافوس في مجال الصوتيات، فصمّم المسرح والمنطقة المخصّصة للحضور على شكل آلة كمان ضخمة، ما أتاح للأصوات أن تتردّد بطريقة مذهلة، غير أنه أولى هذه التفاصيل الصوتية اهتماماً أكبر من ثبات المبنى ومتانته.

اعتاد الأرستقراطيون التجمّع في هذا المسرح، لكن بعد تعرّضهم للقتل والطرد عقب ثورة 1917، تحوّل إلى مقر اجتماعات الحزب الشيوعي، لذلك، كان من الضروري أن يسع البولشوي أكبر عدد ممكن من الناس، وبغية إضافة مزيد من المقاعد في المساحة الرئيسة المخصصة للحضور، وسّع العمال الأرضية الرنانة، وبعدما سقطت قنبلة على المبنى خلال الحرب العالمية الثانية، دُعمت الأساسات بالإسمنت، ما حرم البولشوي من مميزاته الصوتية الفريدة.

عشق ستالين الأوبرا الروسية وكان يدخل المسرح عبر ممرّ سري تحت الأرض،  وكان بإمكان الراقصين والمغنين رؤيته يجلس في مقصورته إلى يمين المسرح. هكذا، تحوّل البولشوي إلى مسرح القوة الشيوعية العظمى الرسمي، فاحتلت المطرقة والمنجل مكانة بارزة على ستارته الحمراء.

مدينة لم تنسَ ماضيها

بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في مطلع تسعينيات القرن الماضي، بدأت الحانات والمتاجر، التي تُعتبر من مظاهر الرأسمالية البراقة، تنتشر في المنطقة المحيطة بالمسرح، إلا أن جدران البولشوي ظلّت رمادية قاتمة ولم تبارح المطرقة والمنجل مكانهما على ستارته.

بدا هذا الوضع طبيعياً في موسكو الجديدة، التي تحوّلت إلى مكان تسوده الفوضى المتعمدة. فقد غابت الشفافية عن معالم هذه المدينة، وتعمّد مهندسون إعطاء أبنيتهم طابعاً قديماً أضافوا إليه تفاصيل تذكّر بالماضي بما فيه من حقبات تاريخية حالكة.

تختلف نظرة الروس إلى تاريخهم عن نظرة الشعب الألماني، فقد تكتشف أن ما بدا لك للوهلة الأولى جزءاً من الماضي ما زال قائماً، وإن اتخذ شكلاً مختلفاً.

على سبيل المثال، ما زال شعار المطرقة والمنجل مطرزاً على زي مضيفات طيران خطوط Aeroflot، في حين أن طائراتها تحطّ في مطار موسكو الحديث. أما نجمة الشيوعية الحمراء، فتتألق بفخر على سطح الكرملين، ولم تُخرج جثة القائد الثوري لينين المحنّطة من ضريحها في الساحة الحمراء، لكن الحراس الذين يجوبون الشارع خارج أحد المتاحف التاريخية يرتدون ملابس تعود إلى عهد القياصرة، في حين يؤدي أحد الممثلين في شارع مجاور دور ستالين أمام السياح.

إذاً، تحوّل القديم في روسيا إلى جديد والجديد إلى قديم. سقط القيصر، لكن ليعش القيصر! مات ستالين غير أن عظمته وهيبته ما زالتا بارزتين في روسيا حتى اليوم.

حداثة غير ملائمة

برزت هذه الروح الجديدة في عملية ترميم البولشوي، فلم يألُ القيّمون على هذه العملية جهداً ليسلبوه معالم الشفافية والوضوح. لا يرغب أحد بروسيا في ترميم هذا المسرح على نحو يكشف مراحله التاريخية الأليمة ويعرّي جراحه.

عانى هذا المسرح قبل الترميم أضراراً بالغة، إلا أن أثاثه الداخلي والخارجي نجا بمعظمه، لكنه يبدو اليوم مبنى جديداً فيه من الجمال ما لا تصدّقه العين للوهلة الأولى. انتهت أعمال الترميم بأكملها، باستثناء جزء من جدار محازٍ للدرج ما زال محفوظاً خلف الزجاج. غير ذلك، بدا كل شيء نظيفاً وجميلاً.

أزيلت المواد التي غطّت الشعار الذهبي لآل رومانوف، آخر أسر القياصرة، فتخال أنه لم يُخبأ يوماً. قبل عقود، اقتُطع رمز القياصرة عن أغطية الجدران الحمراء في الغرف المجاورة للمسرح الرئيس واستبدلت بزينة من الزهور، فأعاد العمال اليوم انتزاع الزهور ليستبدلوها بشعار القياصرة. كذلك، اختفت المطرقة والمنجل عن ستارة المسرح الحمراء والذهبية، وحلّت محل الأخيرة ستارة جديدة تحمل شعار النسرين، رمز روسيا الفدرالية.

صحيح أن الشعارات تبدّلت، غير أن ذلك لم ينتقص من عظمة البولشوي. لعلّ الغرف تحتاج إلى قليل من الطلاء اللماع، أو ربما بضع سنوات في طقس روسيا القاسي، لكن سيستعيد هذا المسرح بالتأكيد هالته، وسيخبر الزائرين عن أهمية مَن جلسوا في مقصوراته، مثل الأميرة ديانا والقائد الثوري الكوبي فيدال كاسترو، فضلاً عن الرئيس الأميركي السابق ريتشارد نيكسون الذي تجوّل في حناياه في أحلك أيام الحرب الباردة. على رغم ذلك، يؤكد مديره العام أناتولي إكسانوف أن خصائصه الصوتية أعيدت إلى سابق عهدها.

تكاليف فاقت التوقّعات

فرح القيّمون على المسرح بنجاحهم في الانتهاء من أعمال الترميم، خصوصاً أن المبنى كان في حالة يُرثى لها، فقد عبرت الجدران الداعمة للمبنى 15 شقاً يفوق اتساعها عرض اليد. تتألف أساسات البولشوي من مئات الدعامات الخشبية وقد أدت مياه نهر نيغلينايا الجوفية إلى تآكلها وتلفها، ما صدّع الجدران الداعمة.

عمل المهندسون على وصل الجدران الخارجية بالطبقة الصخرية تحت الأرض ودعموا أساسات المبنى، وبسبب المساحات الكبرى التي أُضيفت إليه تحت الأرض وفوقها، تضاعفت مساحة أرضيّته لتبلغ 80 ألف متر مربع بعدما كانت 40 ألف متر مربع.

وكما هي الحال دوماً في المشاريع المعمارية، إذ تفوق الكلفة الفعلية ما خُطط له خلال إعداد الموازنة، لكن مع البولشوي فاقت هذه الكلفة المتوقّع بستة عشر ضعفاً. يعود تضخّم تكاليف هذا المشروع، في المقام الأول، إلى أن «الأموال لم تُستخدم بطريقة مدروسة»، حسبما يوضح ديوان المحاسبة الروسي، ولا شكّ في أن هذه طريقة تعبير لطيفة لتفادي استخدام كلمة «اختلاس».

فبدل الاعتماد على إدارة المسرح، كلّف المسؤولون دائرةً تابعة لوزارة الثقافة بمهمة الإشراف على أعمال الترميم، وحين تبيّن، أخيراً، أن التكاليف تخطّت المتوقع بأشواط، وضع مكتب الرئيس الروسي يده على المشروع، هذه خطوة طبيعية لأن البولشوي ما زال مسرحاً وطنياً لغاية اليوم.

يضمّ البولشوي الجديد ثلاثة مسارح: المسرح القديم الذي أعيد افتتاحه، غرفة المسرح التي استُحدثت في الطابق السفلي والمسرح في المبنى المجاور. وقد استُخدم هذا الأخير كبديل موقت عن المسرح الرئيس منذ عام 2005.

لا تعتمد شهرة البولشوي على عدد مسارحه أو الزينة الذهبية التي تكسو جدرانه، بل على القصص التي تروى فيه وطريقة سردها والآفاق الفنية التي تبلغها.

حنين إلى الماضي

سيبقى البولشوي دوماً أحد أبرز المعالم السياحية، لكن البعض يشكّك في إمكان حفاظه على معاييره الفنية العالمية الرفيعة، وهذا بالتأكيد التحدّي الأصعب الكامن أمامه والذي يفوق بصعوبته أعمال الترميم والتجديد التي خضع لها.

يسرد غينادي يانين (43 سنة) مجموعة صعوبات واجهها هذا المسرح. ترأس يانين فرقة باليه البولشوي حتى مايو (أيار) من هذا العام، حين شعر أنه لم يعد قادراً على تحمّل المزيد، إلا أن قصته لا تحمل جديداً.

التقينا يانين في مقهى «فوغ» المجاور لمسرح البولشوي والذي يُعتبر مقصداً لكثر من حديثي النعمة. يعدّ المالك طعام فلاديمير بوتين، رئيس روسيا السابق الذي يخطّط راهناً للعودة إلى منصبه هذا. وقد جنى هذا المالك ثروة طائلة من مطاعمه الفاخرة الستة والثلاثين، حتى إنه اشترى فيلا مصمّم الأزياء جياني فرساتشي في بحيرة كومو مقابل 35 مليون يورو.

وصل يانين، مدير فرقة الباليه السابق، متأخراً، فقد أُقفلت الشوارع مجدداً لأن الرئيس الروسي الحالي ديمتري ميدفيديف كان يتجوّل في المدينة. سألنا يانين، وهو يومئ بيده كما لو أنه يحمل فيها لجاماً: «هل تعرفون ما شعرت به حين كنت مسؤولاً عن الراقصين والراقصات؟ كنت أشبه بسائق عربة يحاول التحكّم في عدد من الخيول يركض كل منها في اتجاه مختلف».

يؤكد يانين أن الرقص وطريقة تعليمه يختلفان اليوم عما كانا عليه خلال الحقبة السوفياتية. يتابع موضحاً أن التمرّن بكدّ كان يستحقّ العناء لأن الرقص في مسرح البولشوي أتاح للناس التعرف إلى العالم. وقد جنى الراقصون آنذاك أموالاً طائلة من مشاركتهم في أعمال خارج البلد، حتى إنهم اعتادوا شراء الملابس الغربية، لكن تتوافر اليوم، وفق يانين، طرق أسهل لتحقيق الشهرة والنجاح المادي.

ضحيَّة مؤامرة

صحيح أن يانين ما زال راقصاً في فرقة البولشوي، غير أنه لم يعد مسؤولاً عنها. يقول إنه وقع ضحية مؤامرة. لا شك في أن فناني المسرح يدركون مدى قسوة الخيانة، لكن مع تبدّل البولشوي وموسكو وروسيا، تبدّلت طبيعة المؤامرات أيضاً.

يذكر يانين كيف أدى رقصته الأولى منفرداً في مسرح البولشوي وكان بعد صغيراً. كان يقف أمام حشد من الناس، حين تنهّد أحدهم بصوت مرتفع، فعلا الضحك. يعتقد يانين بأن هذه المناورة كانت مؤامرة حيكت ضده، وإن اختلفت عما واجهه أخيراً. يخبر يانين: «تابعت الرقص، فيما تابع الجمهور الضحك، فأرغمته بذلك على السكوت والاستمتاع برقصي».

إلا أنه وقف عاجزاً أمام المؤامرة التي حيكت ضده في الربيع الماضي، فقد نشر أحد الأشخاص صوراً فاضحة له على شبكة الإنترنت وبعث بها إلى آلاف العناوين الإلكترونية. ما زال المجتمع الروسي محافظاً، على رغم ما بلغه من تقدّم.

مخاطر الحداثة

قصد مسرح البولشوي في الماضي ضيوف للاستمتاع بروعة أعمال راقصيه، وكانوا يفرحون بفوزهم ببضع بطاقات لحضور عرضين أو ثلاثة طيلة حياتهم. أما اليوم، فيتألف الحضور، بمعظمه، من سياح يعتبر معظمهم زيارة البولشوي مجرد مكان آخر في قائمة المواقع السياحية التي يودون رؤيتها. وسيقصد محبو المسرح البولشوي، عما قريب، وسيحاولون مقارنة عروضه بالأعمال الفنية التي تُقدّم على المسارح الباريسية. غير أن هذا المسرح لن ينجح في إرضائهم إذا اكتفى بمسرحية «بحيرة البجع»، عمل تميّز به البولشوي في الماضي.

تسعى المسارح الأوروبية إلى اختبار كل جديد، مع أن محاولاتها هذه تثير أحياناً الجدل، إلا أن التجديد يتناقض مع أسس الصورة الفنية التي ترسمها روسيا لذاتها. خلال فترة طويلة، هيمنت الواقعية الاشتراكية على الفنون، فصُنّفت أي محاولة للتحديث «منحطة» وغربية، لذا راجت الأعمال التقليدية، خصوصاً الأوبرا الروسية والباليه الكلاسيكي.

لكن هذا الوضع سيتبدّل اليوم. يذكر المدير العام إكسانوف: «المسرح ليس متحفاً، بل كائن حي». إذاً ينادي إكسانوف بالتغيير، لكن صحف موسكو سارعت إلى اعتبار هذه الخطوة «فضيحة»، مع أن البولشوي اعتاد تقديم بعض العروض العصرية في السنوات السابقة.

في عام 2006، أخرج ديمتري تشيرنياكوف، مخرج أوبرا روسي شاب، أوبرا «أوجين أونيغين» لبيتر تشايكوفسكي، المقتبسة من أعمال ألكسندر بوشكين. عُرضت هذه الأوبرا للمرة الأولى على مسرح البولشوي عام 1881 وكثر الطلب عليها منذ ذلك الحين.

تُعتبر هذه الأوبرا جزءاً لا يتجزأ من الأعمال الفنية الروسية، لكن تشيرنياكوف قدّم نسخة عصرية من «أونيغين» على مسرح البولشوي الموقت لم تشمل مشهداً مهماً: المبارزة. هل يكتمل هذا العرض من دون المبارزة؟ هذه مجازفة غير مسبوقة.

المغنّية الأولى

أشعلت هذه الخطوة غضب كثيرين، خصوصاً غالينا فيشنيفسكايا «السوبرانو» التي تتمتّع بشهرة عالمية، وكانت مغنية البولشوي الأولى طوال 22 سنة بين عامَي 1952 و1974، وهي أيضاً أرملة مستيسلاف روستروبوفيتش، أحد أبرز عازفي التشيللو في العالم.

عندما شاهدت فيشنيفسكايا النسخة العصرية من «أونيغين»، غادرت المسرح غاضبة وكتبت خطاباً مفتوحاً أكدت فيه أنها لن تطأ أرض البولشوي مجدداً.

تدير فيشنيفسكايا اليوم مدرسة أوبرا في قلب موسكو تتميّز بطابعها الكلاسيكي الحديث، بناها لها رعاتها الأثرياء قبل بضع سنوات. كانت هذه المغنية (84 سنة) تجلس في كرسي من الجلد في إحدى غرف التمرين، واحتلت الحائط خلفها صور بدت فيها أشبه بليز تايلورفي شبابها. تبقي هذه المغنية شعرها أسود، وقد منحتها عيناها الفاتحتا اللون مظهراً محبباً.

تملك فيشنيفسكايا قصصاً مثيرة عن بداياتها في مسرح البولشوي: عن الفرح الذي شعرت به عام 1953 حين علمت أن ستالين مات ولن تضطر بعد ذلك إلى الغناء أمامه، عن لقائها الأول مع روستروبوفيتش وزواجها به بعد أربع سنوات، عن الصداقة التي جمعتهما بألكسندر سولجنيتسين الذي اختبأ في منزلهما الريفي بعلم من السلطات، عن سأمهما في مطلع سبعينيات القرن الماضي من القمع ومغادرتهما روسيا إلى الغرب، وعن عودتهما عام 1990 إلى روسيا، حيث استقبلتهما الحشود بالهتاف والتهليل في مسرح البولشوي.

عند سؤالها عن الأسباب التي تجعلها، هي الفنانة الرائدة والمنشقة المعارضة، تعارض تقديم الأوبرا بطريقة حديثة، أجابت: «لا أرى داعياً لتخريب أعمال المبدعين. أدرك تشايكوفسكي ما كان يقوم به، شأنه في ذلك شأن بوشكين»، وتمسّكت بعناد بوجهة نظرها السلبية من النسخة العصرية، مؤكدة أنها ترفض متابعة النقاش في هذه المسألة.

تتمتع فيشنيفسكايا بخبرة واسعة في عالم الفنون، ويتجلى ذلك بوضوح حين تعلّم طلابها. دخلت إحدى طالباتها الغرفة وعبرت عن رغبتها في التمرن على إحدى أغنيات «أولغا» في عرض «أوجين أونيغين»، ثم فتحت كتيّب النوتات أمامها وراحت تنشد، فأغمضت هذه الفنانة المبدعة عينيها وانضمت إليها في الغناء، وسرعان ما تحوّلت إلى أولغا، بذلك أكدت لنا أن الواقعية الاشتراكية والحداثة لا تعنيان لها شيئاً.

تعتبر فيشنيفسكايا أن الفن لا يمكن أن يُعدّل وفق الأهواء الشخصية، ولا تثق بأنصار الحداثة اليوم للأسباب عينها التي دفعتها في الماضي إلى كره الشيوعيين، الذين أرادوا استغلال الفن لتحقيق مآرب شخصية. وترى فيشنيفسكايا في الحفاظ على التقليدي والقديم وسيلة لحماية قدسيّة الفنون.

ديمتري تشيرنياكوف

مَن يكون مبدع الأوبرا الشاب هذا، الذي أحدثت نسخته من «أوجين أونيغين» هذا التغيير الثوري في عالم مسرح البولشوي؟ تولى ديمتري تشيرنياكوف إخراج حفلة إعادة افتتاح المسرح، وسيخرج أول عرض سيُقدم على خشبته في 2 نوفمبر بعنوان «روسلان ولودميلا». وبما أن تشيرنياكوف كُلّف بهذه المهام البالغة الأهمية، فهذا دليل على أنه يمثّل المستقبل.

لا يتعدّى سن تشيرنياكوف الحادية والأربعين، إلا أن إبداعه يفوق سنّه بأشواط، فقد أخرج أعمالاً في دار الأوبرا في بافاريا ودار الأوبرا في برلين. كان في الثانية عشرة من عمره عام 1982، حين قصد مسرح البولشوي للمرة الأولى برفقة والدته. يخبر: «اكتست موسكو حلّة رمادية، لكن داخل جدران هذا المسرح، رأيت عالماً مختلفاً». شاهد آنذاك عرض «أوجين أونيغين»، إنما بنسخته التقليدية التي لم تتبدّل طوال أربعين سنة، وفق تشيرنياكوف.

عند التحدّث عن منتقديه، سأل تشيرنياكوف: «متى سننتهي من هذه القصة؟». يؤكد أن سبب هذه المعمعة كلّها سوء تفاهم، مشيراً إلى أن طريقته في العمل تختلف عن غيره من مخرجي المسرح الغربيين المعاصرين. ويضيف: «لا يتعلق الأمر بالمخرج أو بما يريده أو برغبته في تحديث مسرحية ما. أود عرض الأحداث بواقعية أكبر فحسب».

يصبّ تشيرنياكوف اهتمامه على العامل النفسي في الشخصيات ويحاول إبرازه خلال عرضه، ويرفض تقديم عروض باتت تقليدية في مسرح البولشوي، تركز على المشاهد والديكور، مثل منظر الثلج وقبعات الفرو في «أوجين أونيغين». لكنه اختار عروض أوبرا روسية لحفلة الافتتاح، فعلى غرار أهل موسكو، يتحلى هذا المخرج بروح وطنية لا غبار عليها.

لا شك في أن تشيرنياكوف كان يروح ويجيء في كواليس المسرح خلال حفلة الافتتاح، آملاً بأن يحبّ الحضور طريقته في تقديم العروض. تلقت غالينا فيشنيفسكايا دعوة إلى الحفلة، وقد حضرتها على رغم قسمها ألا تعود إلى البولشوي مطلقاً، لكنها أخبرتنا خلال المقابلة أنها ستغادر في فترة الاستراحة إن لم يعجبها ما يقدَّم من عروض على خشبة هذا المسرح العريق.

back to top