التشكيليَّة سامية حلبي... مجنونة أنا في المرسم وهمّها أن يتقبَّلها العالم

نشر في 25-10-2010 | 00:00
آخر تحديث 25-10-2010 | 00:00
لا تترك ريشتها تكويناً في الطبيعة إلا وتحيله إلى تجريد خالص، وهي لم تسمح لهمومها بأن تأسرها، بل اخترقت العالمية بإشراقات لونيّة تجلّت في التشكيل والحفر والتصوير والغرافيك.

في بعض لوحاتها الأخيرة، تعود بنا إلى أعمال الرسامة الروسية الطليعية ناتاليا غونشاروفا، لا سيما من خلال «نور في عتمة» و{صبار الليل»، بينما تظهر أشكال كازيمير ماليفيتش في «ملائكة وفراشات».

الرسامة التشكيلية الفلسطينية الرائدة سامية حلبي تكرّمها «غاليري أيام» في بيروت، بمعرض فردي يستمر إلى 27 نوفمبر المقبل، يترافق مع مونوغراف يحكي 50 سنة من الإبداع التشكيلي، مع عرض كرونولوجي لأبرز المراحل في حياتها الفنية.

تنقّلت معارضك بين بلدان كثيرة، لماذا بيروت اليوم؟

يتميَّز لبنان بتاريخ ثقافي عريق، لا سيما بيروته كمدينة التي تتمتع بأبعاد عدة فنية وثقافية ولدى ناسها وعي عالمي منفتح على الآخر بسعة فريدة. تتمتع الشعوب العربية كافة بتراث ثقافي عريق، لكن ما يميِّز بيروت التراث الجديد الذي يبلغ عمره المائة والخمسين سنة تقريباً في اللوحة والتصوير، والذي يعزز مكانته توافر مهتمين بهذا الشأن. ليت فلسطين بقيت حرّة، لكان شعبنا أصبح كاللبنانيين.

لم يعرف التجريد في لوحاتك الركود يوماً، وهو يحمل إشارات كثيرة. كيف تفسّرين ذلك؟

التجريد من وجهة نظري هو الحياة والطبيعة والواقع. كثر يصدّقون الناقد الأوروبي الذي يقول إن التجريد لا يصوِّر الواقع، بل أموراً شخصية وداخلية. أناقض هذا الرأي الذي لا يتعدّى عن كونه بروباغندا يعمِّمها الغرب حول الفن، لتشجيع الأنانية. فالفنان جزء من المجتمع، وأنا كتشكيلية أمتصّ كل مشاهد الحياة، وأصيغها لوحات تحكي ما أراه، لكن بلغة تجريدية. بدوره، يقرأها المتلقي وكأنه يتذكرها لا كأنه يتعرّف إليها لأنه يعيش في الدنيا مثلي ويرى الأشياء الجميلة التي أراها، وفي لوحاتي لا يتعلّم عنها للمرة الأولى بل يتذكرها وكأنه يتعرّف إلى حاله.

هل من لوحات تعتبرين أنها الأهم في مسيرتك الفنية؟

أهم لوحات أنجزتها بالنسبة إلي هي لوحاتي الأخيرة، التي أحسست عبرها أنني أعرف عملي تماماً. في البداية، كنت أرسم المناخ البني آدمي أي الأبنية والطرق، ثم انتقلت إلى الهندسة المعقدة أي هندسة الطبيعة المتطورة والمتقدمة على هندسة الإنسان. تذهب أعمالي الأخيرة في هذا الاتجاه، لكن مع التركيز بشدة على الألوان التي تبرز أوقات اليوم ومواسم السنة، وألوان المدينة الطبيعي منها والاصطناعي.

واللوحات المقبلة، في أي اتجاه ستذهب؟

مستقبلاً، سأدمج هندسة الطبيعة بهندسة الإنسان.

تقولين إن أعمالك الأخيرة هي الأنضج بين مجموعاتك، كيف وصلت إلى هذه المرحلة من النضوج؟

تطوّرت نظرتي إلى الأشياء والأمور، وأصبحتُ أكثر ثقة بقوتي كرسامة. تأتي هذه الثقة من داخل الرسام، لا من نظرة الغير إليه. لأن طبيعة وعيه تختلف بين وجوده في الرسم ووجوده بين المتلقّين. ففي المرسم أكون مجنونة، لكن مجنونة على عاتقها مسؤولية ولديها طموح بأن يقبل الآخر عملها ويرى أبعاده.

مجنونة!

الابتكار معقّد جداً ويشبه العلوم، فكل الاختراعات التي تساعد المجتمع هي نتيجة أفكار زائدة على أسس العلوم، وكي يصل إليها العلماء عليهم أن يكونوا مجانين. لكن هذا الجنون يقابله إدراك لكل عنصر من حولي.

لماذا الاهتمام الزائد بالأشكال الهندسية في لوحاتك؟

كل نصب معماري عبارة عن مساحات وجدران هي جزء من الطبيعة تحوّل رويداً رويداً إلى هندسة معمارية اجتماعية تتمتع بفكر منظّم وجمال أخاذ.

كيف قرأ المتلقّي لوحاتك في معرضك الأخير في بيروت؟

شعرت بأن المتلقي اللبناني فهم الأعمال جيداً، فقليلون طلبوا مني تفسير لوحة ما. ثمة من لم يحب الأعمال، لكن المطّلع على التشكيل وألوانه وقياساته ومناسباته قال إنه رأى أوراق الخريف وأغصان الزيتون ومربعات المدينة في اللوحات، وكأنه عرف العمل بل تعرّف إليه وكأنه شيء مألوف بالنسبة إليه.

كذلك، لاحظت أن المتلقّين فرحوا بالألوان في اللوحات، ربما لأن التشكيل عموماً في العالم العربي يذهب إلى الألوان الترابية وإلى الأسود والأبيض.

لاحظنا أن الأشكال الحلزونية والخطوط المنحنية التي ميَّزت لوحاتك بين عامي 1971 و1975 لم تغب عن بعض لوحاتك في معرضك الأخير مثل «الرعد يقيس الفضاء». من أين يستمدّ الشكل الحلزوني أهميّته في التجريد؟

يضيف الشكل الحلزوني مزيداً من العمق إلى اللوحة، فيصبح الفراغ فيها معقداً وغير قابل للقياس، ويتحوّل التركيز من تركيز داخلي على مسطح الصورة إلى تركيز خارجي.

عبر تخصيص كثير من الاهتمام لحدود الحلزونيات والدوائر ومنحنياتها، ألقي الضوء على ذات الإنسان الفردية وأفكاره ومفاهيمه عبر الحركة التي تمضي بشكل قطري إلى خارج مسطح الصورة.

تقولين إن العرب هم من اخترع التجريد، فيما تؤكد كتب تأريخ أنه فن غربي!

قدّم العرب أعمالاً رائعة بين عامي 1000 و1700 وأيضاً قبل ذلك بكثير، وخير مثال على ذلك مسجد قبة الصخرة، ومساجد المدن القديمة المزيّنة جدرانها بأروع تجريد عرفه العالم.

مشكلتنا نحن العرب أننا لا نقدّر تراثنا وقدراتنا ونشكّك فيهما غالباً. عندما انتقلنا من الإقطاع إلى الرأسمال لم يكن لدينا اهتمام بماهية الفن، علماً أننا كنّا نبدعه، لكن اليوم ازداد الاهتمام وبدأ البعض يفكّر بمعنى الزخرفة العربية والهندسة والتي أحسبها تصويراً تركيبياً نوعاً ما لأننا لا نستطيع أن نأخذ جزءاً من زخرفة ما في مسجد أو من فسيفساء في كنيسة ونضعه لوحده في متحف، فحينها يفقد هذا الجزء قيمته. لكن اللوحات المنبثقة من مدارس رأسمالية لا تتأثر بتغيير مكان عرضها لأنها لا تتمتع بخاصيَّة التصوير التركيبي.

كذلك، أحسب أن تجريداً عالمياً بدأ قبل التجريد العربي، لكنه كان بسيطاً جداً مع القبائل العالمية، الأوروبية والأميركية والعربية، إذ كانت ترسم صوراً بسيطة جداً أصبحت بعد ذلك حروفاً ولغةً.

ماذا عن فن الحروفية، هل لك تجارب في هذا المجال؟

فن الحروفية رائع بأشكاله كافة التراثية والعشوائية والمعاصرة، وقد اكتسب جماليته هذه من قياسات الخط العربي نفسه، وثمة فنانون بارزون في هذا المجال أكثر مَن يلفتني من بينهم اللبناني سمير صايغ.

أحياناً، عندما أرسم خطوطاً بالفرشاة أشعر كأنني أرسم خطاً عربياً. عموماً، خضت تجارب في فن الخط العربي مقدّمةً عدداً من لوحات شملت أعمالاً سياسية، لكن بطريقة غير حرّة ربما لأن خطي ليس جميلاً. بعد ذلك، تابعت سلسلة من أعمال هندسية تجريدية معقّدة تجلّت فيها مشاهد من التصميم الإسلامي.

ترسمين فلسطين، لكن بطريقة غير مباشرة. ألا تعتقدين أنه بذلك سيجد متلقون كثر أن فلسطين غائبة عن أعمالك؟

فلسطين أثرها عميق في روحي، وأنظر إليها بألم وتفاؤل في الوقت نفسه. فعندما أبحث في التاريخ أجد أن إسرائيل لا يمكن لها البقاء أبداً، وأرى أنه لو كان توقّف العدوان بعد حرب 1948 لكنا نعيش بسلام مع بعضنا اليوم، لأن العرب شعب متسامح جداً.

بالعودة إلى الفن، من صغري أخذت قراراً بأن أكون رسامة عالمية، فرفضت نصيحة كل من قال لي بضرورة تخفيض أهدافي التشكيلية وحصر رؤى لوحاتي في قضية بعينها، فانطلقت من المأساة الفلسطينية إلى المآسي العالمية، ولم أفكر بتقييد ريشتي بأي موضوع محلي، بل وضعت نفسي على حافة مجريات الفن العالمي، فتزاوجت المواضيع المحلية بالمواضيع العالمية لصالح الهدف الأساسي.

كنت أجيب دائماً من يسألني عن سبب عدم حصر أعمالي بالقضية الفلسطينية بأن الفلسطيني المريض الذي يريد الشفاء لا يذهب إلى طبيب متخصّص بالطب الفلسطيني، بل إلى خبير بالطب العالمي.

من جهة أخرى، عندما أعالج موضوعاً فلسطينياً عبر لوحة ما أضعه في سياق عملي السياسي ككل. مثلاً أنجزت أعمالاً توثيقية عن مجازر كفر قاسم ودير ياسين، وملصقات واضحة وصارمة وقويّة حول القضية الفلسطينية. كذلك، نظمت معرض «صنع في فلسطين» في أحد أهم المتاحف الأميركية وأسست مع زملاء لجان (لجنة جسر) ومؤسسات وألقيت محاضرات تصبّ في خدمة فلسطين.

أنت دائمة السفر وأقمت معارض كثيرة في القاهرة، نيويورك، بنسلفانيا، كونكتيكت، فرنسا، الأردن، دمشق، حلب، بيروت، رام الله، بيت لحم، اليابان... وغيرها، إلى أي مدى عزّزت الأسفار ريشتك التشكيلية؟

يخرجك السفر من زقاق ضيّق ويوسِّع أفكارك، فترين أموراً عظيمة عليك التفكير فيها. مثلاً، عندما هاجرت، وأنا ما زالت مراهقة، مع عائلتي إلى أميركا حيث تلقيت علومي، اعتقدت بأنني وطأت عالم الفن نيويورك، وسادني اعتقاد لمدة طويلة بأنني أعيش في مركز الفن الرئيس. بعد ذلك سافرت إلى كوبا، فتفاجأت بأنني كنت أسكن في مكان ضيق جداً. رأيت أعمالاً من أميركا الجنوبية وأفريقيا وآسيا، واكتشفت أنني كنت عمياء سابقاً.

على نقيض كثير من كتّاب تاريخ الفن التشكيلي ونقاده، تقولين إن مستقبل التشكيل للتجريد تحديداً وليس لما يسمى باللوحة ما بعد الحداثة، لماذا؟

لسبب بسيط هو أن فن ما بعد الحداثة مبني على الرجعية والتعصّب، فيما يذهب التجريد إلى الانفتاح على الآخر والتحرّر من كل قيد.

أبرز وجوه الثقافة ظهرت في منتصف القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين مع الحركات المبنية على الثورات. مثلاً من ثورة أكتوبر السوفياتية 1919 ظهرت البنائية الروسية، وأشير هنا إلى أثرها الكبير في لوحاتي، فبعد تقديري لجماليتها تطوّر تقديري لقواعدها اليسارية بعد أن بدأت أنظر إلى أعمالي الخاصة من خلال عدسة التقدم الاجتماعي. ومن تظاهرات نقابات العمّال خلال الحقبة التقدّمية من تاريخ الولايات المتحدة ظهر التجريديون. وغيرهما من حركات... في المقابل، ظهرت حركات رجعية مثل البوب آرت حصرت نفسها بالمشاهد الأميركية وبالمعنى التهكّمي والهزلي.

عموماً، الفن التجريدي في الولايات المتحدة وأوروبا بدأ مع الطبقة العاملة لا البرجوازية، لكن الأغنياء ابتاعوه وأقنعوا الناس بأنه نيويوركي وليس روسياً، لكن من يفهم التجريد يعرف أنه بدأ مع الثورة السوفياتية.

back to top