وشاية كونديرا... اغتيال كاتب مثالي!

نشر في 26-10-2008 | 00:00
آخر تحديث 26-10-2008 | 00:00
No Image Caption

ميلان كونديرا كاتب ناجح ورجل كتوم، تتجه الأنظار كلها إليه اليوم بسبب قضية محرجة، إذ نشرت الصحيفة التشيكية «ريسبيكت» تقريراً يعود الى عام 1950، كان حينها كاتب «اخفة الكائن التي لا تحتمل» مجرد طالب، طالب معروف لدى الشرطة الشيوعية. في 14 مارس (آذار) 1950، تقدم الى مقر السلطات ليُبلغ عن ميروسلاف دفوراشيك، شاب فر من الجيش الى ألمانيا قبل أن يعود الى تشكوسلوفاكيا بصفة جاسوس.

اتهم كونديرا بالتعاون مع الشرطة الشيوعية السرية، تهمة وصفها كونديرا، بحسب «التايمز» البريطانية في 14 أكتوبر (تشرين الأول) الجاري، بأنها «كذبة» واعتبرها «اغتيالاً لكاتب». لم يعط كونديرا أية مقابلة منذ سنوات، لكنه قبل أيام خرج عن صمته مصرّحاً: «أنا متفاجئ، لم أكن أتوقع ذلك. هذا أمر غير عادل، الأمر أشبه باغتيال دبّره رؤساء دور النشر لكاتب ما. لا أعرف هذا الرجل ولم أقابله يوماً».

ألقي القبض على ميروسلوف دفوراشيك، وحُكم عليه بالسجن 22 عاماً، وأطلق سراحه عام 1963، وهو يعيش مع زوجته في السويد راهناً. المقال الذي وجّه التهمة الى كونديرا يستحق المراجعة والتأمل، فهذا الكاتب الذي يعتبر مثالياً في معاداته للنظام التوتاليتاري، يبدو أن شظايا التاريخ التوتاليتاري أصابته، وإن حاول التملّص من التهمة وكان بريئاً منها حتى، فالأمور السلبية تعلق في الأذهان أكثر من تلك الإيجابية.

ضخامة كونديرا الروائية يمكن أن تحرقها هفوة صغيرة... يقول المقال الجريدة التشيكية إنه طالما اتسم كونديرا بالحرص على محو آثاره. على مدار الربع قرن الماضي لم يدل بحوار، ولم يزر بلده إلا بصفة غير رسمية ولم يقم فيها إلا في فنادق وبأسماء مستعارة. استحلف أصدقاءه التشيكيين على الصمت كي لا ينطق أحدهم بحرف لصحافي عن حقيقة كونديرا وحقيقة مكانه.

وإذ تطفو على السطح الآن، وبالمصادفة البحتة، قصةٌ غامضة ومعقدة من ماضي أشهر الكتاب، لا يعود من الممكن أن نتخيل لعزلته تلك الأسباب التي تخيّلناها سابقاً.

زمن الحرب

نشأ كونديرا في العاصمة المورافية برنو، محاطاً بالكتب، لأسرة الباحث والموسيقي الشهير لودفيك كونديرا. فاق أقرانه في سعة المعرفة والتعليم ووجهة النظر. كان له نصيبه من الحماسة المؤيدة لفكرة الإشتراكية، وكذلك من الإعجاب السائد باتحاد ستالين السوفياتي. وهو ما يوضحه زميله الكاتب إيفان كليما بقوله إنه «كان من الصعب للغاية على ذلك الجيل الذي نشأ في زمن الحرب ألا يسقط فريسة لذلك الوهم». فـ إيفان كليما نفسه جرب افتتان الشباب بالشيوعية، لكنه، على خلاف كونديرا، كان مهيأ لتأمله: «نشأنا وصلتنا بالمعلومات مقطوعة. فحتى بين 1945 و1948 لم يكن ثمة من يجرؤ على كتابة حقيقة ستالين، على رغم أن الناس كانوا يعرفون بجرائمه. أما المثقفون اليساريون الشباب في تلك الأيام، فكان ستالين بالنسبة إليهم الشخص الذي أنهى الحرب، وكانت الاشتراكية تمثل لهم الأمل في عالم أفضل».

سبق أن أصدر الروائي الأميركي فيليب روث كتاباً تضمن حوارات مع مثقفين يهود منهم إيفان كليما، يفنّد فيه الأخير الساحة الأدبية التشيكية من عام 1950 وحتى اليوم. يقول روث عن كليما بأنه نقيض مواطنه كونديرا على رغم نقاط التشابه الكثيرة بينهما. إذ ثمة هوة عميقة بين طبعَيهما ومسارَيهما في الحياة. ومع احترامه لكونديرا الذي يعتبره من أبرز الوجوه الأدبية التشيكية المعاصرة، إلا أن كليما يُبيّن في حواره كيف أن تجربة كونديرا بذاتها تتناقض مع موقعه كالطفل المدلل للنظام الشيوعي حتى عام 1968.

يشير كليما إلى أن كونديرا في الفترة التي بلغ فيها شهرة عالمية، كانت الثقافة التشيكية تقود صراعاً مريراً ضد النظام التوتاليتاري، شارك فيه المفكرون الذين بقوا داخل البلاد والمنفيّون أيضاً، وعانوا كثيراً وضحّوا بحريتهم الخاصة ووقتهم وبحياتهم أحياناً، على خلاف كونديرا الذي لم يتضامن أبداً معهم ولم يشارك في ذلك الجهد.

كونديرا المتهم بالوشاية يتحدث كثيراً في كتبه عن الجلاد والشاعر!، ويضع توتاليتارية ستالين وسرّيالية أندريه بروتون في خانة واحدة، على أساس اشتراكهما في الحلم بجنة على الأرض، وقد كلفه ذلك انتقادات ومضايقات شتى وانسحاب عددٍ من السرياليين من صفوف حركته، ومنهم صديقاه لويس أراغون وبول إيلوار. يشار إلى أن بروتون هو الذي كتب عام 1950 لإيلوار، على رغم القطيعة بينهما، للتحرك لإنقاذ المناضل التشيكي زافيس كالاندرا من حبل المشنقة، فكان موقف إيلوار السلبي الشهير الذي يذكره كونديرا.

لكن حديث كونديرا عن الرعب الستاليني يبدو نابعاً من إثم ما، فهل كان ميلان كونديرا ستالينياً؟ في كتابه «كيف نصبح كونديرا؟» الصادر عن دار «لارماتان» يعود مارتن رزق إلى أعمال كونديرا التي كان نشرها في تشيكيا، وهي أعمال «تخلى» كونديرا عنها ولم يذكرها مطلقاً في أعماله اللاحقة. من هذه الأعمال دواوينه الشعرية. يبيّن الباحث أن كونديرا كان شاعرا «مناضلا» يكتب مثلاً «إلى أرض ستالين، سنذهب لنغرف قوتنا». الى جانب أنه كان عضواً في الحزب الشيوعي، وأن فاتسلاف هافل هاجمه يومها لأنه وجد مواقفه معتدلة في ما يتعلق بربيع براغ.

أقواس قزح

في تلك الأيام، انضم كونديرا الى الحزب الشيوعي في تشيكوسلوفاكيا وكتب الشعر والنصوص الغنائية بروح الحماسة الاشتراكية. تقول إحدى الأغنيات التي كتبها: «أقواس صداقتنا تمتد سامقة في السماء كأقواس قزح. الاتحاد السوفياتي وبلدنا سيبقيان معا إلى الأبد. أبراج صداقتنا سامقة مثل القمم الصخرية فوق الموج. وعلى هذه الصخرة سوف يكسر دعاة الحرب رؤوسهم». تبدو هذه الكلمات في تلك الأيام كلمات وعيد، لكن أصدقاء الشاعر في تلك المرحلة يجمعون على أن المثقف الموهوب ابن قرية برنو كان من أشد المتحمسين للستالينية في دوائر المثقفين اليسارية حينها. كان محب الفن الواسع الاطلاع يشمئز من خداع الجماهير ولم يكن في ما يبدو يحضر حتى مواكب «عيد العمال» في أول مايو (أيار). حاول أن يقدم تبريراً منطقياً لموقفه ذلك من الشيوعية.

يقول الكاتب بافل كوهارت إن «ميلان كان بالنسبة إلي شخصاً شديد الاختلاف». كان كوهاوت في الخمسينيات واحداً من أبرز مروجي الدعاية الستالينية، على رغم أنه في ما بعد أصبح من مؤسسي ميثاق 77 ثم أصبح «منشقا». «كان، أي كونديرا، شخصاً انطوائياً للغاية بالغ الدقة، لكن هذا لا يعني أنه لم يكن يؤمن بأفكار الاشتراكية إيماناً حقيقياً».

تعتبر المجلة التشيكية أن الدافع الذي حمل كونديرا على الوشاية بشخص لا يعرفه هو أنه كان شيوعياً مخلصاً، في وقت كانت تفيض صحيفة الحزب الشيوعي «ريودي برافو» بمقالات دعائية عن الانتقام من عدو الطبقة، وإصدار أحكام بالإعدام، لم يكن لمخبر أن يجهل أي مصير سوف يكون بانتظار ديفوراسيك. اكتشاف سبب قيام كونديرا بهذا ليس بسيطاً كما قد يبدو. لعله قرر أن يدمر حياة إنسان لأسباب أيديولوجية محضة. لكنه، بحسب شهادة معارفه كلهم، كان كثير الانتقاد للشيوعية بمعايير ذلك الزمن، ولم يكن سعيداً بما كان يجري في المجتمع، وبالقطع لم يكن واحداً ممن كانوا يهللون للدم.

يقول الكاتب ميلان أوهدي عن كونديرا «إنه كان شخصاً متحفظاً، ولم يكن يحب المسيرات الجماهيرية الغبية، وكنت أحسبه شخصاً شجاعاً لا يهاب التعبير عن آرائه المغايرة». حين طرح السؤال عما إذا كان كونديرا عبر عن كراهيته لـ «عدو الشعب»، أجاب أصحابه في ذلك الوقت بالنفي، كان كونديرا بنَّاء اشتراكياً إيجابياً لا متصيّداً للخصوم. «كان هناك آخرون من أمثال سكالا وبيلار يدافعون بجنون عن الجولاج، ويبررون المحاكمات» بحسب ما يوضح الكاتب إيفان كليما. يسأل الكاتبان: هل كان هدف الوشاية التعويض عن إساءته للحزب؟ لا يقدم لنا الأرشيف إجابة. الوحيد الذي يمكن أن يجيب من بين الباقين على قيد الحياة هو كونديرا نفسه، لكنه على مدار ربع القرن الأخير يرفض التواصل مع الجمهور أو الصحفيين.

جاء في صحيفة «ريسبيكت» أنه وبعد هجرة كونديرا من تشكوسلوفاكيا إلى فرنسا، أصبحت جهوده لإخفاء قصة حياته هاجساً يسيطر عليه. فبعد تجربة سيئة مع الصحفيين، توقف الكاتب عن إجراء الحوارات ورفض التعليق على حياته الماضية. كتب يقول إن الشيء المهم بحق هو رواياته، إذ إن لها وجودها المستقل وما من سبيل لربطها بشخص الكاتب.

ماذا لو ينشر العرب غسيل كتّابهم؟!

بين السطور

يمكن معرفة أحوال كونديرا من خلال قراءة بين سطور أعماله... كان كونديرا يبذل كل ما في وسعه ليمنع الكتّاب من ربط حياته الشخصية بكتابته، لكن بعض التوريات يبقى بالغ الوضوح. في عام 1962، صدرت مسرحية لكونديرا عنوانها «مُلاك المفاتيح» تدور أحداثها على خلفية الحرب العالمية الثانية. يعيش بطل المسرحية جيري مع زوجته في بيت حمويه. وذات يوم تأتي حبيبة سابقة له تدعى فيرا وتطلب منه أن يؤويها من مطاردة الجستابو لها. يجد جيري نفسه في أزمة: هل يمد يد العون لحبيته السابقة وبذلك يخاطر بأسرته؟ في النهاية يقرر أن يؤويها، غير أن الخادمة تكتشف أمرهما وتعتزم الوشاية بهما. ولا يكون من جيري إلا أن يقتل الواشية المحتملة، ولا يكون من أمرنا نحن إلا أن نتساءل عن مصدر إلهام هذه المسرحية، خصوصاً وأن عناصر كثيرة في المسرحية تتطابق بطريقة لافتة مع أحداث عام 1950.

back to top