لماذا قد يظهر «دواعش» جدد؟!

نشر في 28-02-2019
آخر تحديث 28-02-2019 | 00:10
 خليل علي حيدر من المشكوك فيه أن يتعظ الكثير من شباب العالم الإسلامي في مختلف دول العالم بما جرى ويجري لفلول وتجمعات تنظيم «داعش» الإرهابي، أو أن يدرس هذا الانهيار المأساوي ما أسموه «دولة الخلافة الإسلامية.. في العراق والشام» أملا ربما في امتداد هذه «الدولة» مع الوقت، من إندونيسيا إلى المغرب والسنغال، وربما كذلك محاولة الامتداد إلى كل زوايا المعمورة!

الكثير من الكتاب رأوا في «داعش» ولا يزالون «صنيعة أميركية» أو «واجهة» شرقية أو غربية، عربية أو إيرانية أو أي شيء آخر، غير أن هؤلاء يبنون تحليلاتهم دائما على القرائن المؤيدة لرأيهم ولا يلتفتون إلى ما يعارض أحكامهم.

لا يهم، فما هو جدير بالتأمل والدرس أن آلاف الشباب رجالا ونساء، القديم الإسلام والإيمان والذي دخل الإسلام للتو، تركوا حياتهم وطموحاتهم الشخصية، إيمانا أو اندفاعا خلف مال وتسهيلات، والتحقوا بالتنظيم، مهما كان يعني ذلك من الحرمان والتعرض للملاحقة والمحاصرة والموت ذات يوم.

هناك بلا ريب أشياء كثيرة غامضة أو غير مفهومة أو حتى مريضة أو موروثة دون تساؤل ونقاش، في ثقافتنا السياسية والدينية، تدفع المجتمعات العربية والإسلامية ثمن استمرارها وستظل. الكثيرون يشيرون مثلا إلى «ما فعله بنا الاستعمار»، ولكن التسلط الاستعماري شمل الكثير من الشعوب الأخرى، دون أن تظهر في صفوفهم مثل هذه التنظيمات المتزمتة والعنيفة والإرهابية. ثم إن ما كان يفعله «داعش» و»القاعدة» كان في معظمه تدمير مدن وقرى ومؤسسات العالم الإسلامي وقتل ناسه وتفجير الكنائس ومساجد الشيعة والسنّة على حد سواء!

لماذا يصدق «المسلم» المهاجر وحده دون غيره في بريطانيا وفرنسا وألمانيا، أن «دولة» تقام في بادية العراق وبراري الشام وقرى وبلدات الفرات مثلا، مؤهلة لأن تحل مشاكل العالم الإسلامي وأن تنهض بدوله ومجتمعاته، بل أن تتصدى فوق ذلك لإسرائيل وأميركا والغرب والشرق؟

لماذا يتحكم النضج العقلي والإدراك السياسي والتوازن الفكري بمعظم شباب العالم في حين يتوالى في الوسط الإسلامي وحده ظهور التنظيمات التكفيرية والجهادية والإرهابية؟ ولماذا يصدق كلامها هذا العدد الكبير من الشباب الإسلاميين داخل العالم الإسلامي نفسه، وفي أميركا وأوروبا وكندا وأستراليا وإفريقيا وآسيا، فيتركون حياتهم ودراستهم ومهنهم المستقبلية... للالتحاق بما يعتبرونه «جهادا»، بل ميلادا جديدا لدولة «الخلافة الحقيقية»؟

ولماذا يرون هذه الخلافة ترتكب أبشع الجرائم وتحز الرؤوس وتسرق الأموال وتستعبد الرجال وتغتصب النساء وتضطهد غير المسلمين بأساليب وتبريرات لا مكان لها في أي مجتمع متحضر... ولا يحرك كل ذلك في أجسادهم شعرة؟!

تسابق شباب المسلمين والإسلاميين في كل مكان للعضوية في الجماعات المتطرفة والإرهابية، أو على الأقل تعاطف الكثيرين مع أفكارها وتحليلاتها لا علاقة له بالضرورة، وكما هو واضح، بما عانوا من «فقر وحرمان»، فهذه من الأكاذيب التي يروجها «الإسلاميون المعتدلون» دفاعا عن مثل هذه الجماعات، والجهاديون الأوروبيون رجالا ونساء من رعايا دول ديمقراطية مرفهة تراعي في قوانينها ومحاكمها وانتخاباتها حقوق الإنسان، فأين هؤلاء مما عايشه الإسلاميون في العالم العربي والإسلامي من ظروف معيشية وسياسية؟

ولم تنجح حتى الآن بين الجماعات الإسلامية نفسها أية دعوة لـ»فهم الإسلام كما ينبغي» أو «معرفة الإسلام الصحيح» أو «المواءمة بين الإسلام والعصر» أو «تجديد الدعوة» أو غير ذلك من دعاوى وطموحات، وأبسط أدلة الإخفاق ما نرى من تعدد وصراعات هذه الجماعات في كل مكان ومختلف المذاهب.

وقد أظهر «الربيع العربي» إفلاس ومغامرة حتى «الجماعات المعتدلة» و»الحركات الأم»، فكادوا أن يشعلوا حربا أهلية في مصر وتونس والأردن ولبنان والدول الخليجية، وأن يفتتوا العالم العربي شذر مذر، ولم تقدم الجماعات الشيعية في إيران والعراق ولبنان نموذجها الذي بشرت به كتابات السيد محمد باقر الصدر أو الثورة الإسلامية أو حزب الله وحزب الدعوة!

ورغم ذلك يظل إغراء الفكر الديني الحزبي، وكل ما يقدمه الإسلام السياسي من سراب جذابا لملايين المسلمين الذين في الحقيقة لا يكترثون بواقع العصر والتوازنات الاستراتيجية وحقائق التقدم والتخلف وتطور تقنيات الحرب والأسلحة. ولم تعد العمليات الانتحارية والتفجيرات واقتحام المشاة على الأرصفة وقتلهم بالسيارات تؤثر في الكثيرين وما تتركه من كراهية للمسلمين في الكثير من دول العالم وحذر شديد منهم!

وصار هذا «العناد الجهادي» والبحث عما هو لا إنساني ومتوحش وواسع الدمار في العمليات الانتحارية، بما في ذلك من نسف للمجالس والسيارات والمطارات، موضع فخر وزهو، وأداة استقطاب عبر الإنترنت لآلاف «الشباب الإسلاميين»، من عرب وباكستانيين وفلبينيين وأفارقة وأوروبيين!

الباحث السعودي فهد بن سليمان الشقيران يرى في توقعات «نهاية داعش» حديث خرافة! علينا ألا ننخدع بكل ما نرى ونسمع، إذ «لم تمض أيام على الاغتباط الدولي بالحديث عن نهاية داعش»، يقول الباحث الشقيران، «إلا وضرب انتحاري بشكل وحشي بالقرب من الجامع الأزهر، استهداف يفتح النقاش على الأحاديث المستعجلة الساذجة حول نهاية هذا التنظيم أو ذاك». من الطبيعي، يضيف الشقيران، «أن تخسر التنظيمات الإرهابية أراضي سيطرت عليها، وذلك من خلال القصف الجوي أو المدد الميداني، ولكن التنظيمات الإرهابية ليست دولا ولا حكومات، وبالتالي حين تطرد من العراق ومناطق شاسعة في الشام فإنها تفر إلى مناطق أخرى تستطيع أن تتمركز فيها وبخاصة المناطق الهشة في الساحل الإفريقي أو أجزاء من شمال إفريقيا أو التغلغل في دول أوروبية تمتلك فيها حاضنة ومأوى مثل بلجيكا»، هكذا كانت «القاعدة» التي اعتبرها الأمين العام لرابطة العام الإسلامي الشيخ د. محمد العيسى أشد خطورة من «داعش»، وإن تكن القاعدة حاليا «في وضع كمون ينتظر ضعف المناعة لينشط من جديد» فـ»الهزيمة الكاملة للتطرف العنيف والتطرف الإرهابي لا تكون إلا من خلال تفكيك أفكاره».

(الشرق الأوسط 21/ 2/ 2019)

ورغم منطقية مطلب التفكيك والدحض الفكري هذا، فإنه لدى التنفيذ بالغ الصعوبة لسببين:

الأول أن الأفكار الرئيسة لـ»القاعدة» و»داعش» باستثناء «الاعتماد المطلق» على العنف والإرهاب، لا تختلف عن الأسس الفكرية لسائر أحزاب وجماعات الإسلام السياسي السنية والشيعية، بل لا ترى هذه الأحزاب «المعتدلة» بأساً في الإرهاب الفكري، وكذلك العنف والقتل عندما تكون موازين القوى لمصلحة الجماعة الإسلامية «المعتدلة»، ونرى هذه الأحزاب تسارع إلى بناء شبكات حزبية وميليشيات سرية فور صعودها وظهور شوكتها، بما يستلزم ذلك من الاستعانة بالنصوص الدينية وتفسيراتها، وقد أشرنا مراراً إلى ما صرح به مفكر إسلامي صديق للإخوان أو للتيار الديني الإسلامي السياسي د. محمد عمارة الذي اعتبر الإرهابيين بمثابة «فصيل الناب والمخلب» للإسلام المعتدل. (ندوة وزارة الأوقاف الكويتية عام 1992) وإن كان د. عمارة قد تراجع عن هذه الآراء بعد أعوام، ربما تحت ضغط قادة الإسلام السياسي العلني»!

أما السبب الثاني لصعوبة تفكيك ودحض أفكار داعش والنصوص التي يوردها في بياناته ومنشوراته وتعليماته فيتعلق بالطبع بمكانة الدين الإسلامي ونصوصه وشرائعه والحماية القانونية التي تتوافر للدين ومقدساته عموماً، في سائر أنحاء العالم الإسلامي، وفي مختلف الأوساط الإسلامية، وهو ما تقوم باستغلاله التنظيمات الإرهابية كما تشاء، وتقدم نفسها لرجال ونساء العالم الإسلامي في أبهى حلة، وأقدرها على كسب تعاطفهم واستقطابهم داخل التنظيم تحت ستار الدين وإقامة دولة الخلافة أو «النظام الإسلامي» أو «الحكومة الإسلامية».

ومن الواضح أن العالم العربي أو الإسلامي، بمؤسساته ومفكريه ورجال الدين عاجزون عن الاستجابة لمثل هذا التحدي أو غير راغبين الخوض فيه أو ممنوعين عن ذلك!

كما أن النصوص قد تفهم على أوجه مختلفة، والإفتاء لا مركز له، والمفكرون عاجزون عن الحركة خوفاً من الحكومات ومن بطش الجمهور. ولا تكتفي «القاعدة» و»داعش» وغيرهما باستغلال النصوص الدينية والاستفادة منها لتبرير توسعها وتسلطها، بل تضيف إلى العناصر الدينية مجموعة من الأفكار الوطنية والنضالية وعداء الغرب والصليبية وإعطاء الشمس والقمر وبقية الكواكب للناس ودغدغة أحلامها، في «خلطة عقائدية» لا يفلح الكثيرون في اكتشاف زيفها وإدراك خطورتها إلا بعد فوات الأوان، وبعد أن «يجد الشاب» نفسه قتيلاً، أو طريداً محاصراً مريضاً جائعاً زائغ العينين، كالدواعش في بوادي الشام وصحارى العراق اليوم، أو تحت رحمة القنابل وطائرات الأباتشي المرعبة، كما جرى في جبال «تورابورا» بأفغانستان قبل ربع قرن، أو في أماكن أخرى قد تتكرر بعد عقود في تنظيمات لاحقة.

الكل يتحدث عن حتمية «فهم جديد» للدين والنصوص والفتاوى والتشريعات... ولكن لا شيء يتغير ولا أحد يتقدم أو يشير إلى أي فهم جديد... فما الحل؟

back to top