علي الوردي وآراؤه «الشخصية»

نشر في 04-01-2019
آخر تحديث 04-01-2019 | 00:07
 د. محمد بن عصّام السبيعي شهدت السنوات الأخيرة طفرة في قراءة مؤلفات السوسيولوجي العراقي د. علي الوردي (1913-1995). قد يكون سبب ذلك غزارة محتواها، كما لا يمكن إغفال عناوين رنانة يختارها الوردي لكتبه، حتى وإن كان ذلك مما لا يعكس بالضرورة محتوى الكتاب تماما.

وعن نفسي فقد قرأت واحدا من أحدثها، أو لعله أحدثها، "دراسات في طبيعة المجتمع العراقي" الذي نشر في 1965، وقد كفاني الاطلاع على غيره ما عدا بعض تصفح عابر، وباتخاذ هذا الكتاب نموذجا لتركة الكاتب، وهو كذلك سواء لحداثته، أو لتعبير عنوانه عن محتواه، فإن القارئ يجابه بتساؤلات عدة تحوم حول وصف ذلك المحتوى بالعلمي، فغزارة المادة التي يأتي الوردي على ذكرها ترد في سياق أشبه بحديث متحدث، أي بعيد عن طرح علمي منظم وممنهج، ودون أن يستخرج من كل ذلك خيطا يتسنى للقارئ القبض عليه طوال متن البحث. كلا بل إن الوردي يجعل من حشد هائل من مسالك اجتماعية معروفة ومن روايات، بعضها عن أفراد من دائرة معرفته، ومن شوارد غريبة، يورده في سياق شبه وصفي، ومهملا الاستناد إلى مصادر رصينة، مسوغاً لأن يستسهل التعميم استسهالا يثير العجب. ورغم أن طوافا بكل ذلك مما يفيض عن حدود هذا المقال فلا بأس من بعض رؤوس الأقلام.

فحديث الوردي عن مجتمع عراقي يمكن قبوله على سبيل المجاز فحسب، فمثل هذا الطرح قد يعود لعدم فهم المقصود بالمجتمع في الاصطلاح الأجنبي، والذي يشير إلى متحد متسق من أفراد قائم على إرث ثقافي مميز وتفاعل اجتماعي وثيق وتطلعات متناغمة. كما قد يكون موروثا عن دعاية أنظمة الاستبداد العالم العربي، ومنها ما لم يرفع قبضته عن العراق إلا في 2003، والتي كانت في سبيل توثيق هيمنتها، تطابق بين مقولة الشعب، وهو مقطع قانوني يشير إلى مواطني الدولة، والمجتمع الذي ليس بالضرورة أن يكون مرادفا له. بمعنى أننا يمكن أن نصادف في الشعب الواحد أكثر من مجتمع، كما قد ينتمي مجتمع واحد لأكثر من شعب، ويبدو لي أن الشعب العراقي بتنوعه العرقي والانتماءات المتداخلة لهذا الخليط إلى أديان وطوائف متباينة بل متصارعة وعابرة للحدود، أحدها.

ومع المرور على صفحات الكتاب المشار إليه يصادف القارئ ملاحظات تحاكي الواقع أو وصفية لا تأتي بجديد. لكن دهشة القارئ تكون حين يأتي على ما يناقضها، أو حين ينسف بعضها ما قبله بصفحات، أمر يصعب حقا على المرء تلمس العذر له، فرغم البدو وعلاقتهم بحواضر الرافدين سواء كان ذلك في غاراتهم أو هجراتهم واستيطانهم تلك الديار يمثل في نظر الوردي فرضية عامة للمجتمع العراقي ومفتاحا لفهم شخصيته، كما يسترسل في أن استيعاب آثار تلك الهجرات يخيم هاجسا لمستقبل العراق، وذلك على مدار كتاب كامل. إلا أنه يعود ليذكر أن البدو لا يمثلون في العراق، من بين أمثلة أخرى من الدول العربية، أكثر من 2%. (ص97).

أو حين يتحدث برومانسية حول نزعة الحرب لدى البدو، وأنه مع خضوع البدو للدولة سيعم السلام. (ص95)، ثم يعود في خاتمة الكتاب (ص409) متهكما على طرح ديني يؤاخي بين البشر متسائلا: كيف لهؤلاء أن ينسوا ضغائنهم وعصبياتهم؟ فذلك في رأيه ليس من سمات البشر بل الملائكة.

لكن الأعجب من كل ذلك ما يعنونه الوردي برأي شخصي أو ما في معناه، والحق أني أعجب كيف لسوسيولوجي أو عالم أن ينعت مجهوداً أو رأيا له بالشخصي، فإن كان هناك ما هو غير شخصي فهو أحرى بأن يتبع ويهمل ما هو شخصي، فالعلم، ومنه السوسيولوجيا، لا تلتفت لما هو شخصي ولا تأبه به، فإن كان الباحث قد التزم بكل خطوات وشروط البحث العلمي فما يتوصل إليه ليس برأي شخصي، بل رأي العلم، وهو رأيه ورأي كل باحث حتى ساعة نشر البحث، ولا تثريب على الباحث أو من يرى رأيه أن يجد بعدئذ رأيا مخالفا، سواء جاء ذلك تبعة لظهور حقائق أخرى أو لتوظيف مناهج أخرى لمقاربة مشكلة البحث.

على أن بدعة الرأي الشخصي لدى الوردي تستوجب تفنيدا آخرا إذا كان يظن أن ذلك مما ينسجم مع منهج السوسيولوجيا الألمانية، لا سيما ما يعرف بالسوسيولوجيا الفهمية لدى ماكس فيبر، الذي أتى الوردي على ذكره (ص21-22). فالسوسيولوجيا الفهمية توجب على الباحث، من أجل الفهم، الاجتهاد في دراسة الظاهرة كما لو كان مشاركا فيها، وليس أن يكتفي بدور الملاحظ في محيطها، وذلك بغية فهم أفضل لمغزى الفعل الاجتماعي. ولا يكتمل هذا المجهود بحسب فيبر إلا بتفسير سببي للظاهرة الاجتماعية. ومثل هذا لا يستولد رأيا شخصيا بل رأيا علميا حتى إشعار آخر.

لكن يبدو أن مفهوم الرأي العلمي الرصين الذي يمثل أساسا لبناء علمي، غير محسوم صراحة لدى الوردي، انظر قوله في ختام مقدمة الكتاب: "الواقع أنني خلال دراستي الطويلة للمجتمع العراقي، قد ناقضت نفسي كثيرا. وربما أخذت اليوم برأي، وتركته غدا، ثم رجعت إليه بعد غد. وقد لاحظ الطلاب مني ذلك [...]. ولست أستبعد بعد صدور هذا الكتاب أن أغير كثيرا من الآراء التي وردت فيه. ربما شهد القارئ في كتبي القادمة آراء مناقضة لها!" (ص18-19)، ومثل هذه الصراحة يحمد عليها الوردي لكنها لا تطرب لا السوسيولوجيا ولا أهلها.

back to top