سحلب

نشر في 27-10-2018
آخر تحديث 27-10-2018 | 00:00
No Image Caption
«البكاء لن يساعده»، قال أخـي الكبير لشـقيقتي، وكانت لا تزال تحت تأثير صدمة ما حصل لي في الأيام الأخيرة.

كانت الصدمة بمثابة زلزال ضرب عائلتنا الصغيرة والمتوسطة الحـال، وكانت تحاول الصمود والبقاء وسـط آتون الحرب وارتداداتها. نحن كنا قد تعوّدنا - كغيرنا من أبناء البلد – على التعايش مـع موجات القصف العشوائي وأخبار انفجار السيارات المفخخة والخطف علـى المعابر والأوضاع المادية والاقتصـادية شبه المستحيلة. عدا عن انقطاع الكهرباء ومياه الشرب والوقوف على أبواب الأفران في صفوف طويلة. صمدنا منذ احترق فندق «الهوليدي إن» سنة 1975 حتى اليوم.

أخـي الذي تزوج باكراً مـن زميلته فـي الجامعة اللبنانية فـي بيروت، ودخل سـوق العمل الصحافي قبل التخرج تسلّق السلّم درجة درجة: مـن «أوفيس بوي» في صحيفة «لوريون لوجــور» الناطقة باللغة الفرنسية، إلـى مراسل صحافي محتــرف يعمل فـي وكالـة أخبـار أجنبية عمله وخبرته الميدانية جعلتا منه رجلاً هادئاً، قادراً على حبس دموعه وبلع حزنه لكثرة الأهوال العنيفة التي اختبرها خلال الحرب على الأرض.

علّمتنــي التجربة أن الرجال الذين لا يعبّرون عــن عواطفهم، هم الأكثر إحساساً ومعطوبيـة. يبلعون الحزن كمن يبلع الدبوس. يدفعون ثمن كبت عواطفهم من فاتورة صحتهم.

أمي المسكينة، جلست على الكنبة صامتة كالصنم. كانت الأكثر حزناً وتأثراً. كانت عيناها المتورمتان دليلاً واضحاً بأنها لم تعرف النوم مؤخراً. وعكس وجهها الأبيض الحزين والملـيء بالتجاعيـد، إحساساً عميقاً وشعوراً قويـاً بالذنب! هذا الإحساس هبط عليها فجأة ليجثم كالصخرة على صدرها، فبدت وكأنها في حالة استرجاع بكرة أحداث حياتها الخاصة مـذ أن تعرفت علـى المرحـوم أبـي. يومها قرّرت الهرب من منزل مخدوميها والزواج خطيفة مع رجل «مسلم»، لتهرب معه لاحقاً إلى الكويت.

«أسرع واجلب الهوية مـن البيت وسأعطيك خمسة قروش»، قالت أمي لأخيها الصغير، وهي تقف في عزّ البرد علـى الطريق العـام الذي يصل نزولاً إلـى ضيعتها الصغيرة.

من بعيد، لمحت بيت أهلها حيث أمضت طفولتها وسط حنان أمها مريم وحماية أبيها، رغم طباعه القاسية بسبب ضيق الحال. كان قد أرسلها وهي صغيرة إلى بيروت للعمل كخادمـة لدى عائلة أرمنية ثرية. ذاقت مرارة العيش وسوء المعاملة. جعلوها تنام في «التتخيتة» فوق الحمام مع الصراصير والزواحف. أمضت ليالي طويلة تبكــي دموع الشوق على فارق إخوتها وجيرة الضيعة ومحبة الناس. لم تكن تعرف أن المدينة ستكون قاسية إلى هذه الدرجة. أقسى مـن أبيها الذي كانت ترى وجهه مرة واحدة آخـر الشهر لتحصيل مدخولها من العائلة الأرمنية.

«تفضـلي أختي»، ناولهـا الصـبي الصغير الهوية لاهثاً. أعطته بضعة قروش وقبّلته.

كانت المرة الأخيرة التي سترى فيها وجـه أحد من أهلها لفترة ستدوم سنوات طويلة. رائحته ستبقى عالقة في انفها وصورة وجهه الضاحك وأسنانه البيضاء كثلج الضيعة ستبقى محفورة في ذاكرتها إلى الأبد. كانت ترتدي معطفاً من الجـوخ الرجالي سرقته مـن منزل مخــدوميها. مشـت إلـى بحمدون، ومن هناك استقلت أول بوسطة آتية من صوفر إلى بيروت حيث كان أبي بانتظارها.

لـم تكـن تعرف أن أبـي ليس «مسيحياً»! أخبرها أن اسمه «فؤاد»! بقيت تناديـه باسم فؤاد إلـى أن وصلا إلـى الكويت حيث فاتحها بالحقيقة. لا بدّ أنها صدمت. تقبلت قدرها الجديد.

ذاقـت والدتي طعـم الندم وهواجسـه جرّاء زاوجهــا «خطيفة» من رجل لن تتقبله عائلتها وقريتها. اعتقدت أنها هربت من ظلم لتقع في ظلم من نوع آخر، فقررت دخول مملكــة الصمت، تمامـاً كمـا تدخل السلحفاة بيتها الصلب لحماية نفسها.

«انشا الله، كـل شـيء سيكون علـى مـا يرام»، قـال زميلي وصديقي خليل، في محاولة منه لبث حالة من الأمل وكسر جليد الصمت. ورغم أنه لم يكن مـن العائلة، لكن حضوره ذلك الاجتماع الصباحي في غرفة الجلوس الوحيدة في بيتنا كان ضرورياً واكتسب أهمية خاصة. كان متعاطفاً مـع العائلة بصـدق وحاول قدر المستطاع التخفيف عن آلامها.

«أنا متأكد بأنه سيقف على قدميه مجدّداً، وسيعود كمـا عرفتمـوه. هـو قوي وصلب؛ علمني أمــوراً كثيرة فـي المستشفى ولولاه لما استمرّيت بالعمل».

خلال حديثه، أخــذ خليل يتأمل غرفـة الجلوس والمفروشات البسيطة: «صـوفات» تطوى تتحوّل مـن أسرّة إلى مقاعد للجلوس. الحيطان الرمادية تخلو من أي صورة فنية أو حتى سورة قرآنية تدل على هوية وانتماء أهل البيت الديني. كــل شـيء كـان يدل على تواضـع الحال: مـن التلفزيون القديم، إلـى الإضاءة الخفيفة، وصولا إلى طاولة الطعام التـي كنت قـد اشتريتها أنا وشقيقتي مـن محلـة الأوزاعي، وكنا نتفاخر بأنها إنجازنا النوعي.

تعرفت علـى خليل كرميل فـي مستشفى الجامعة الأميركيـة فـي بيروت خلال السنوات الأخيرة مـن الحرب. كان موظفـاً جديـداً شاركني العمل نفسـه، إنما فـي طابق آخـر، فيما كنـت أمارس وظيفتـي بملل بعـد سنوات مـن تخرجي في الجامعـة. تخرّجت بإجازة فـي الصحافة والإعلام، وكان عليّ أن استمر في عملي «ككاتب» يهتم بالأعمـال المكتبية وسـط بيئـة مـن الأطبـاء والممرضــات والممرضين والمرضى وأهلهـم. كـان مكاناً تصب فيه كل مشـاكل الجرحى والمرضـى وأهـاليهم... وضـع يفترض ويتطلب قدرة عالية على تحمل الضغوط. ولما كان صديقي الوافد حديثاً إلى المستشفى عاطفياً، سريع العطـب قليل الخبـرة، قررت دعمه وتزويـده بكلّ وسيلة ممكنـة. أحببته لعمق وتنوع ثقافته، كـان شاعراً، هاوياً ومهتماً بالمسرح والسـينما، يتأثر جداً عنـد مشاهدة فيلم أجنبــي، فيخرج متقمّصاً شخصية البطل!!

وقع خليل فـي غرام ممرضة جميلة فراح يكتب لها قصائد غزلية على أوراق المختبر والوصفات الطبية. فرحت له وبحبه الأول، وأطلقت عليها لقب «يوغوسلافيا» لجمالها السلافي الأبيض الناصع. نصحته بأن يخرج معها في موعد بعيداً عـن العمل فـي أي مقهى قريب. تردّد فـي البداية، لكنه تشجع لاحقاً واصطحبها إلى أحد مقاهي شارع الحمــرا. المضحك فـي الأمـر، انها كاشفته بأنها متزوجة ولديها أولاد، وهي سعيدة في حياتها الزوجية. بلع صديقي «الموس». تحولت « يوغوسلافيا» إلى طرفة، وامتنع صديقي عن استهلاك المزيد من أوراق المستشفى لكتابة الشعر.

«سأعلمك لعبة كرة السلة»، قلت له مرة ونحن نتمشى على الملعب الأخضر في حرم الجامعة الأميركية بعد نهار عمل شاق. «أنت تقرأ كثيراً، ويجب أن تمارس الرياضة».

صارت عادتنا أن نقصد الملعب الأخضر للعب كرة السلة. جميل الإحساس بالتفوق الذي تشعر به وأنت تدرّب مبتـدئاً. خلال اللعب، كنت اسخر منه كثيراً، رغم جدية تدريبي له. «أنت تتحرك كقطعة خشبية يا رجل»، وهو يبتسم تلك الابتسامة البيروتيـة الناعمـة التـي تعكس موقفاً محايداً. لم أكن أتوقع أن هذا الشاب، الذي ولد وشبّ في منطقة عائشة بكار، سيساندني في اخطر محنة واجهتها في حياتي كلهـا، ولاحقاً سيســافر إلــى الخليج – بعد استقالته مـــن الجامعة – للعمل فـي مجال الإخـراج والتلفزيون. أشعل أخي سيجارته الخامسة ونفخ الدخان في الهواء كأنه يحاول طرد الهموم عنه.

back to top