الخطابة والكتابة

نشر في 16-10-2018
آخر تحديث 16-10-2018 | 00:05
 ناصر الظفيري يأتي متأهبا لإلقاء كلمة في جمهور من المهتمين والمتابعين. القاعة شبه ممتلئة. يقترب من المقاعد الأمامية. يجلس تاركا الأعين التي تنظر إلى منصة الإلقاء خلفه. غالبا يكون قد رتب الورقة حيث كتب كلمته، ووضعها في جيبه، خشية أن تضيع أفكاره المرتبة سلفا. هو يعرف المناسبة التي سيتحدث فيها، ويعرف لماذا اختاروه للمشاركة في الأمسية، هو الكاتب الذي أصدر عددا من الكتب وشارك، كتابة، في كثير من المحافل الصحافية. ألقى مجموعة من زملائه كلماتهم، التي تباينت بين مؤثرة صفق لها الجمهور، وأخرى مرَّت سريعا دون أن تترك أثرا. جاء دوره، وقرر، ثقة بنفسه، أن ينسى الورقة التي كتبها، ويعتمد على فن الخطابة وملكتها، معتقدا أنه تمكَّن منها جيدا.

فجأة انتبه أنه يواجه الأعين المحدقة به، منتظرة ما سيقوله. حاول أن يبتعد بعينيه عن التركيز مباشرة في هذه الأعين. نظر إلى آخر القاعة، ثم عاد بعينيه إلى منتصفها. ارتج، وتاهت أفكاره. كان الوضع لا يشبه الحديث الذي يجيده بشكل أكثر من جيد بين أقرانه وضيوفه. هذه الأعين تكاد تنهشه، وتذهب بكل جُملة يجمع كلماتها في ذهنه. وسط همهمة الجمهور التي يسمعها، كانت الجُمل ذاتها تتكرر بين عقله ولسانه. قال شيئا، وليته لم يقل!

الذي لم ينتبه إليه "خطيبنا"، أن الخطابة فن يختلف كليا عن فن الكتابة، أو تبادل الحديث مع الزملاء. الخطابة ملكة خاصة قد يجيدها شخص لم يكتب في حياته كتابا، ويفشل فيها كاتب له عدد من الكتب. الخطابة فن يحتاج إلى حضور ذهني متقد، وتسلسل أفكار مرتبة في ذهن مدرك، كمن يقرأ من ورقة أو شاشة واضحة أمامه. ومن لا يجيدها عليه أن يلجأ إلى الورقة التي كتبها مسبقا، ويركز عينيه فيها، مبتعدا قدر الإمكان عن أعين الجمهور المرعبة.

لقاء الجمهور أمر ليس سهلا، كان شعراء كبار يمتلكون ملكة الشعر، لكنهم يفشلون في إلقاء شعرهم للعامة. حين ألقى سعدي يوسف شعره ذات يوم، أشفق عليه درويش، فتناول النصوص منه، وطلب منه أن يلقيها نيابة عنه. هذا يحدث للبعض وهم يعتمدون على نصوص مكتوبة. ويحدث ذلك أيضا مع أساتذة كنا نعرف مستواهم العلمي وتاريخهم البحثي، ونتابع كتبهم القيمة، لكنهم يفشلون في إيصال المعلومة لطلبتهم في فصل لا يتجاوز عشرين طالبا.

سبب هذه المقالة، هو ما حدث في تأبين إسماعيل فهد إسماعيل، حيث تقدَّم مجموعة من زملائنا الكُتاب، الذين نعرف قدرتهم وموهبتهم الكتابية، للمشاركة في التأبين، لكننا فوجئنا بمستوى الخطاب الذي لا يليق بالمناسبة، ولا بالفقيد الكبير. فكما كان الترتيب للمناسبة جيدا، توقعنا أن تسمو الكلمات إلى مستوى الحدث. للأسف، كانت بعض الخطابات مثيرة للسخرية، وبعضها مثيرا للشفقة.

الخطابة وملكة الحضور الشفاهي أمر مهم جدا للكاتب الذي يحرص على الموازنة بين ما يكتبه وما يتحدث به.

back to top