ما قــل ودل: اختصاص قاضي الأمور المستعجلة... محاولة للفهم

نشر في 23-09-2018
آخر تحديث 23-09-2018 | 00:10
في سياق المراجعة القانونية للأحكام التي تمارسها محكمة النقض على محكمة الموضوع، لم أجد فيما قرأته من أحكام أو علمت بصدوره، أعظم من الحكم الذي أصدرته محكمة النقض المصرية في الثلاثينيات من القرن الماضي في القضية المعروفة بقضية البداري، وكان يترأسها في ذلك الحين «قاضي القضاة» المستشار عبدالعزيز فهمي.
 المستشار شفيق إمام خلال لقاء د. علي عبدالعال رئيس مجلس نواب مصر والوفد البرلماني المرافق له ببعض النواب القبارصة في نيقوسيا، شدد على أنه لا يمكن التدخل في أحكام القضاء مؤكداً أن مصر دولة تحترم الدستور والقانون، مشيراً إلى التناقض بين مواقف بعض الدول المطالبة بعدم التدخل في شؤون القضاء وأحكامه، وانتقادها لبعض الأحكام الصادرة من قبل القضاء المصري، والتي يرونها لا تتوافق مع إرادتهم.

ونسي أنه بهذا التصريح قد وضع مصر في مصاف هذه الدول، فصحيفة الأهرام نشرت في اليوم ذاته خبراً مفاده أن دائرة الأمور المستعجلة بمحكمة القاهرة الابتدائية أوقفت تنفيذ حكم صادر من المحكمة الإدارية العليا بمصر بعودة ضباط الشرطة الملتحين إلى الخدمة بالأقدمية السابقة، وألغت القرار الصادر من وزير الداخلية بعزلهم من الوظيفة (عدد الأهرام الصادر في 13/9/2018).

الحرية الشخصية ومتطلبات الوظيفة

ولست في هذا المقال مدافعاً عن الحرية الشخصية المكفولة للأفراد بموجب المادة (54) من دستور مصر وغيره من دساتير العالم، والتي قد يكون حكم المحكمة الإدارية العليا قد بنى عليه قضاءه السالف الذكر، أو مدافعاً عن وجهة نظر وزير الداخلية التي بنى عليها قراره بعزل الضباط الملتحين، بأن لكل وظيفة متطلباتها في الشكل والملبس، وأن إطلاق ضباط الشرطة اللحى قد يوحي بانتمائهم إلى جماعة الإخوان المسلمين التي نص القانون على اعتبارها جماعة إرهابية، أو أن لديه من المعلومات ما يفيد انتماءهم إلى هذه الجماعة بالفعل، وهو دفاع عن القرار، لا أعلم إذا كانت الحكومة قد قدمته أم لا.

بل يتمخض هذا المقال محاولة لفهم اختصاص قاضي الأمور المستعجلة في الرقابة القانونية والموضوعية للأحكام القضائية الصادرة من أعلى محكمة في البلاد، سواء كانت المحكمة الإدارية العليا أو محكمة النقض في مصر.

مراجعة الأحكام ودرجات التقاضي

مصر شأنها شأن غيرها من دول العالم تتعدد في نظامها القضائي درجات التقاضي، فالحكم الصادر من محكمة أول درجة، سواء كانت مكونة من قاضٍ واحد أو من ثلاثة قضاة، يقبل المراجعة القضائية من محكمة أعلى يطلق عليها في أغلب الدول محكمة الاستئناف، سواء بتقدير محكمة أول درجة أو تقييمها للحق المدعى به عند استخلاصها لوقائع الموضوع، أو في تطبيقها للقانون تطبيقاً صحيحاً، والحكم الصادر من هذه المحكمة يقبل بدوره المراجعة القضائية القانونية أمام محكمة أعلى ويقتصر دورها على مراجعة الحكم من حيث التطبيق السليم لنصوص القانون، دون أن تمتد رقابتها إلى استخلاص محكمة الاستئناف أو محكمة أول درجة لوقائع الدعوى، وكيف كونت عقيدتها من هذا الاستخلاص، ويطلق على هذه المحكمة في مصر محكمة النقض، وفي الكويت وأغلب الدول العربية محكمة التمييز.

عبدالعزيز باشا فهمي

وفي سياق المراجعة القانونية للأحكام التي تمارسها محكمة النقض على محكمة الموضوع لم أجد فيما قرأته من أحكام أو علمت بصدوره، أعظم من الحكم الذي أصدرته محكمة النقض المصرية في الثلاثينيات من القرن الماضي في القضية المعروفة بقضية البداري، وكان يترأسها في ذلك الحين المستشار عبدالعزيز فهمي الذي يتزين ويتجمل باسمه أحد شوارع مصر الجديدة بمصر، ويطلق الناس اسمه على المترو الذي كان يخترق شوارع هذه الضاحية الجميلة في مصر، وربما لايزال في بعض مناطقها، ولكنهم لا يعلمون من تاريخ هذا الرجل أنه صاحب أعظم وأجمل حكم وأروعه في تاريخ مصر.

قضية البداري

فقد التزمت محكمة النقض، في ثلاثينيات القرن الماضي بالحكم الذي أصدرته برئاسة المستشار عبد العزيز فهمي، وهي أعلى محكمة في البلاد، في هذه القضية، بحدود ولايتها واختصاصها، وبالقانون الذي حددهما، حين حجبت نفسها عن مراجعة حكم محكمة الجنايات القاضي بإعدام شقيقين اتُّهما بقتل مأمور مركز البداري، بعد ترصدهما له وتربصهما به في الذرة عدة أيام، إذ استخلصت من هذه الوقائع أن القتل كان مع سبق الإصرار.

وحجبت محكمة النقض نفسها عن هذه المراجعة القضائية للحكم الصادر من محكمة الجنايات، فيما قدره من عقوبة الإعدام للقاتلين، لأن المحكمة التي أصدرته طبقت القانون تطبيقاً صحيحاً من حيث تقديرها للعقوبة، التي يقضى بها وحدها في جرائم القتل العمد مع سبق الإصرار والترصد، إذ استخلصت المحكمة هذا الظرف المشدد من الوقائع.

العدل فوق القانون

ولكن محكمة النقض بالرغم من رفضها تمييز الحكم أهابت بأولي الأمر (الملك وقتها) التدخل لإصلاح خطأ قضائي، وقع فيه الحكم يخرج إصلاحه عن حدود اختصاص المحكمة، لأن العدل فوق القانون وحماية العدالة هي رسالة القضاء الأولى، يقول المولى عز وجل "وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل".

وفي ظلال العدل الذي هو أسمى الغايات وأنبلها قصداً، يصدر قضاة المحاكم حكمهم والمتهم وديعة بين أيديهم ليحكموا في أمره بالعدل الذي هو أعز المقدسات وأغلاها، وهم فيما يصدرونه من حكم مدينون لربهم، ولأنفسهم بما يعتقدون أنه الحق الخالص.

تعذيب المتهمين

وقد بررت محكمة النقض طلبها تدخل الملك باستخدام سلطته الدستورية في العفو عن العقوبة بأن محكمة الجنايات قد خانها التوفيق في استخلاص الوقائع التي بنت عليها حكمها القاضي بالإعدام، لأنها لم تلتفت إلى أن المأمور كان يعامل القاتلين معاملة وصفتها المحكمة بأنها "إجرام في إجرام" إذ كان يربطهما في زرائب الخيل ويقص شاربيهما، ويرتكب فيهما ما يمثل جناية هتك عرض.

ووصفت محكمة النقض في أسبابها الرائعة في صياغة الأحكام والبلاغة الأدبية، الحالة التي كان عليها المتهمان مع هذا التعذيب، في بيانها للخطا القضائي الذي وقع فيه الحكم الصادر بالإعدام، رغم ما ثبت لديها من تعذيب المتهمين، فبالنسبة إلى استخلاص هذه المحكمة لسبق الإصرار تقول محكمة النقض في هذه الأسباب بأن "من أوذي واهتيج ظلماً وطغياناً، وكان ينتظر أن يتجدد إيقاع هذا الأذى الفظيع به، لاشك أنه إذا اتهجت نفسه إلى قتل معذبه فإنها تتجه إلى هذا الجرم موتورة مما كانت منزعجة منه، واجمة مما سيكون، والنفس الموتورة المنزعجة هي نفس هائجة أبداً لا يدع انزعاجها سبيلاً لها للتبصر والسكون حتى بحكم العقل - هادئاً ومتزناً ومتروياً- فيما تتجه إليه الإرادة من الأغراض الإجرامية التي تتخيلها قاطعة لشقائها".

وقد استجاب الملك لهذا النداء الإنساني وخفف عقوبة الإعدام.

قاضي القضاة

يحضرني هذا الحكم الذي أصدره قاضي قضاة مصر المستشار عبدالعزيز فهمي، وهي التسمية التي سمي بها، بسبب أحكامه العظيمة التي أصدرها والتي خلدت اسمه وذكره، وكيف التزم بأحكام القانون الذي حدد ولايته بقصر اختصاص محكمة النقض على تمييز الحكم لخطأ في القانون، وحظر عليه تمييز الحكم لخطأ قضائي في استخلاص الوقائع في موضوع الخصومة القضائية.

يحضرني هذا الحكم في كل مرة أرى فيها قاضياً من قضاة الأمور المستعجلة يوقف تنفيذ حكم صادر من محكمة النقض أو من المحكمة الإدارية العليا، وهما أعلى محكمتين في البلاد، خارج حدود ولايته واختصاصه المقررين له بالقانون، وهو الاختصاص الذي سوف نلقي الضوء عليه. في المقال القادم، إن كان في العمر بقية.

back to top