إيمان الرياحي: مسايرة المستجدّات الفكرية والتقنية للتخلّص من البيداغوجية

• تطبيقات نتائج العلوم المعرفية تسهم في تحسين القدرات الذهنية

نشر في 22-07-2018
آخر تحديث 22-07-2018 | 00:07
من الركائز الأساسية في النهوض بالمُجتمعات الإنسانية وتطور العقليات، الاهتمام بالعلم وإيجاد بيئات مواتية للمواهب العلمية وتوفير المقومات الضرورية في عملية تنمية القدرة على التفكير والخروج من حالة التلقي السلبي والاستهلاك المعرفي الذي يعمِّق أزمة التخلف ويزيدُ من حجم الفجوة الحضارية بيننا وبين الأمم المتقدمة. وأحد الحقول المعرفية، الذي يحظي باهتمام في البيئات الغربية، العلوم المعارفية التي تُدرس في الجامعات الغربية كعلم مستقل. حول هذا المفهوم المعرفي وآفاق تطوره ورهاناته المستقبلية كان لـ«الجريدة» حوار مع الباحثة التونسية إيمان الرياحي، وهي أستاذة متميزة في الفلسفة درست بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية في تونس، كذلك في جامعة اكس أون بروفانس، ولها محاضرات وفرضيات منشورة حول المسارات الذهنية لدى الفلاسفة. تعد راهناً رسالة دكتوراه في فرنسا حول حقيقة ومنطقيّة الصورة في المدرسة الفتغنشتاينية: من القضيّة اللغويّة إلى المعارفيّة، وناشطة في مخبر المعارفية واللغة والتربية بمرسيليا.
ما هي المجالات التي تشتغلُ عليها العلوم المعارفية ولماذا الاهتمام بهذا الحقل المعرفي الجديد في البلدان الغربية؟

تشير العلوم المعارفية إلى تخصص علميّ يجمع بين حقول معرفيّة عدة، هي أساساً العلوم العصبية وعلم النفس المعرفي وفلسفة الذهن والذكاء الاصطناعي والألسنية والأنتروبولوجيا. أمّا هدفها فواحد وهو دراسة الذكاء وطريقة تمثلنا للعالم وللأشياء. يُفهم هذا الذكاء من جهة أولى في معناه الطبيعي والحيوي، أي دراسة الفكر في علاقته بالعقل البشري أو السلوك الحيواني، ومن جهة ثانية يسعى العلماء إلى خلق ذكاء مادي وغير حيوي وله علاقة بالآلات، ممّا يمكّنهم من مقارنة الدماغ بالحاسوب والعكس بالعكس. لذلك ينكبّ الباحثون في هذا الاختصاص على رسم نماذج للإدراك وللذاكرة وللانتباه والتخيّل وللسلوك.

ظهرت المعرفية أساساً في الولايات المتحدة الأميركية ثمّ كندا وأخيراً في أوروبّا، وها قد شرعت تتّخذ موقعاً بارزاً في العالم وتكتسبُ اهتماماً متزايداً في السنوات الأربعين الأخيرة.

هل تعتقدين بأنَّ هذا الاختصاص يجدُ بيئة مواتية في العالم العربي ونحنُ نعاني غياب الثقافة العلمية وتفشي الأسلوب التلقيني في قطاع التعليم؟

لا نكاد نعثر في العالم العربي على انشغال فعلي بهذا الميدان، ذلك لافتقاره إلى متخصصين في هذا المجال كعلم مستقل. مردُ ذلك عدم وجود أقسام جامعية مخصّصة له وحده، في حين نجد في دار المعلمين العليا في باريس مثلاً قسماً خاصاً بالعلوم المعارفية يدرس العلوم الإعلامية والعلوم العصبية والمنطق والإبستمولوجيا المطبّقة. أمّا في العالم العربي، فيبقى هذا المجال ملتبساً وغامضاً وغير واضح المعالم وغير معمّم بالقدر الكافي، فلا يكفي أن تكون المعارفية مجرّد مقاربة في علم النفس أو الألسنية بل لا بدّ من الانشغال بها كعلم جديد. ولا يكفي أن يجتمع بعض المتخصصين في مجالات متنوعة كي نسمي هذا الجمع بالعلم المعارفي، بل لا بد من أن تتوافر مخابر فعلية مجهزة بتقنيات الكشف عن الدماغ ومراقبة المراكز العصبية المرتبطة بالتفكير، خصوصاً تقنية التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي. يمكن أن تستدعي مراكز التجديد البيداغوجي أو مراكز البحث العلمي أو الجامعات خبراء في هذا العلم ويمكن أن تعمل على إصدار مجلاّت ودوريات تعنى بالمعارفية وتكثّف من المادّة الفكرية حولها. لا بدّ من أن يساير العقل العربي المستجدات الفكرية والتقنية كي لا يبقى حبيس تصورات بيداغوجية تقليدية قائمة على التلقين وعلى وسائل كلاسيكية في الفهم والتعلّم والتواصل.

دراسات استشرافية

ما علاقة هذا الحقل المعرفي بالدراسات الاستشرافية وما يدور حول تفوق الذكاء الاصطناعي على العقلية البشرية في المستقبل؟

فهم الذكاء وآليات اشتغال الدماغ يمكن من تطوير القدرات العقلية. وتسهم تطبيقات نتائج العلوم المعرفية في تحسين القدرات الذهنية، بل تستفيد منها العلوم الجينية المتطورة لتحسين الصحّة البدنيّة والنفسيّة ولمواجهة الإعاقة ولتأخير الشيخوخة والموت وتجنب الإحساس بالألم وتحسين جودة الفكر والحياة. حتى أن ريموند كرزويل المتخصص بالذكاء الاصطناعي وعلم المستقبل، مدير قسم الهندسة لدى «غوغل» يؤكّد أن مع حلول عام 2030 سيصبح بالإمكان ربط أدمغة الأفراد على نحو مباشر بشبكة الإنترنت وسيغدو بالإمكان التحكّم فيها عن طريق القصدية والفكر.

لذلك تهدف هذه العلوم إلى تحقيق النجاعة بكثير من الجرأة وتستشرف المستقبل من دون أن تخاف من التداخل بين الذكاء المصطنع وبين الذكاء الطبيعي. حتى أننا نتحدث اليوم عن مرحلة «ما بعد الإنسانية» وعن ثورة «الإنسانية المتحوّلة» وعن «الآلات الروحية». ويخصّص مخبر «تكنولوجيا النانو- التقانة الحيويّة- تكنولوجيا المعلومات والاتّصالات- المعارفيّة» ميزانيّة طائلة لتحقيق هذه الأهداف العلميّة المرجوّة من الاختصاصات المتعدّدة بل تعمل الجمعية المابعد إنسانيّة العالميّة منذ عام 1998 على نشر الثقافة العلميّة المتطوّرة القائلة بإمكانية تحسين البيولوجيا البشرية وبجدوى أنسنة الآلة. لكن، ثمة في المقابل تيارات فكرية فلسفية إنسانيّة روحية وإيتيقية ناقدة لهكذا توجهات علمية.

تُضخُ المواد المتنوعة في المنابر الإعلامية والمنصات الإلكترونية غير أنَّ ما يُنشر حول العلوم والفلسفة شحيح جداً. من المسؤول في رأيك عن المناخ المتخم بكل ما يناقض المبادئ العلمية والمعرفية؟

يسود الاعتقاد بأنّ الفلسفة مجال نخبوي، ما يفسّر ندرة حضور المتخصصين فيها في الفضاءات العامّة المشتركة الفعليّة والافتراضيّة. لكن بحث الفلاسفة في أمور علمية أو قيميّة دقيقة لا يمنعهم مطلقاً من تبسيط وتوضيح وجهات نظرهم المهمّة، ولا يحول دونهم ودون الانفتاح على الرأي العام. بل إنّ من أولى انشغالاتهم اليوم النظر في مقتضيات الواقع الراهن بما فيه من تحوّلات ومستجدات متسارعة في مجالات شتّى. وتعدّ التطوّرات العلميّة بلا أدنى الشكّ من أهمّها. والدليل على تصالح المتفلسفين مع واقعهم هو الانفتاح على الإعلام وحضورهم المتواصل في القنوات الفضائية، إذ يتواتر ظهور الفيلسوف الكندي المعاصر تشارلز تيلور والمفكر ميشال أونفراي والفيلسوف ووزير التربية السابق لوك فيري في البرامج التلفزيونية والإذاعية، وقد كان الأخير محرّراً بارزاً في مجلات دورية وإخباريّة. ألم يدعُ إدوارد سعيد المثقفين ذات مرّة إلى كسب رهان التواصل والإعلام؟ في تقديري سيكون تكثيف حضور المتخصصين في الفلسفة بفروعها كافة في الفضاء العمومي بالعالم العربي مسؤولية مشتركة بينهم وبين الإعلاميين. ليكن التثقيف العلمي إذاً رهاناً اتّصالياً مشتركاً.

انفتاح الاختصاصات

عن مدى إسهام العلوم المعرفية في تغيير طبيعة العقلية المبرمجة على التوصيف، تقول إيمان الرياحي: إن «العقل العلمي يجمع بين التحليل والتركيب. يختلف المنهج الأول عن الثاني، ولكنّه لا يتناقض معه. هذا ما ترسّخه الثورة المعارفية المعاصرة التي تشجع على انفتاح الاختصاصات على بعضها البعض وترسخ ثقافة الجماعات العلميّة والبحث المتعدّد والعمل المشترك. إنّها تبعاً لذلك تتجاوز كل توصيف أحاديّ محدود ومكرور. المعارفيّة استثمار عمليّ ناجع قائم على قبول الفرضيات العلميّة الطريفة والاستثنائيّة والمغايرة، وهذا يقتضي طبعاً الإيمان بمرونة الفكر التي ستسير بنا قدماً نحو إنسانية أفضل».

لا يكفي أن تكون المعارفية مجرّد مقاربة في علم النفس أو الألسنية بل لا بدّ من الانشغال بها كعلم جديد
back to top