زمرد وعلي شار «المفلس» (28 - 30)

نشر في 13-06-2018
آخر تحديث 13-06-2018 | 00:01
تواصل شهرزاد سرد حكايات الليالي العربية، وتتنقل بين القصور والجواري والتجار الذين غدر بهم الزمان. تحكي في هذه الحلقة عن دعبل الخزاعي وقصته مع مسلم بن الوليد والجارية الشاعرة، التي عرفها من أشعارها. كذلك تسرد قصة التاجر علي شار وزمرد، التي احتالت على دلالها، كي تباع إلى شار بعدما أفلس وغدر به الزمان.
لما كانت الليلة الخامسة والتسعون بعد الأربعمئة، قالت شهرزاد للملك شهريار: يحكى أيها الملك السعيد، أن الخليفة هارون الرشيد، دعا إليه يوماً بعض الشعراء والندماء والظرفاء، وقال لهم: أريد أن أعرف من قائل هذا البيت:

بت في درعها وبات رفيقي

جنب القلب طاهر الأطراف.

سكتوا جميعاً، ثم قال دعبل الخزاعي: أنا أروي لأمير المؤمنين قصة هذا البيت، وهي أني كنت منذ سنتين جالساً عند باب الكرخ مع بعض الإخوان، فمرت بنا جارية لم أر أحسن منها وجهاً ولا أعدل قداً. ففتنني جمالها، وأنشدت قائلاً لها:

دموع عيني بها انقضاض

والنوم عني له انقباض

فالتفتت إلي التفاتة الغزال، ورمتني بنظرة أورثتني الخبال، وأجابتني قائلة:

هذا قليل ممن دعته

بلحظها الأعين المراض

فأدهشتني بسرعة جوابها، وعذوبة منطقها، وقلت لها:

فهل سبيل إلى انعطاف

إلى الذي دمعه مفاض؟

فافتر ثغرها عن لؤلؤ مكنون، ورمتني بسهام الجفون، وأنشدت قائلة:

ما دام في الحب ذا وفاء

فما على قربه اعتراض!

قال دعبل الخزاعي: لما سمعت منها هذا التصريح، اشتد الشوق في قلبي الجريح، وأردت امتحان قريحتها الصافية، فقلت لها مغيراً الوزن والقافية:

أترى الزمان يسرنا بتلاق

ويضم مشتاقاً إلى مشتاق؟

ففطنت إلى قصدي، وأجابت قائلة:

ما للزمان وللتحكم في الهوى

أنت الزمان فمر تفز بعناق

فلم أتمالك نفسي بعد ذلك، وتناولت يدها فقبلتها، وقلت لها: إن منزلي لا يصلح لاستقبالك، ولا صبر لي على الحرمان من جمالك ودلالك، فاتبعيني إلى منزل صديقي مسلم بن الوليد، وهناك ننال من الأنس والمنادمة كل ما نريد. قالت: حباً وكرامة. ومشت في أثري حتى وصلنا إلى دار مسلم، فدخلت عليه وأخبرته بقصة الجارية الشاعرة من أولها إلى آخرها، فأبدى إعجابه بشعرها، ودعانا إلى قضاء يومنا في ضيافته، وأعد مجلساً لطيفاً، جمع فيه ما لذ وطاب من الطعام والشراب، وآلات الطرب، والورود والرياحين.

وكان يملأ الأقداح بالراح ويسقينا ويشرب معنا وينادمنا، إلى أن نال منا الشراب، فقال لي مسلم بن الوليد: إن يومنا قد طاب، ولم يبق عندي مزيد من الشراب، وعند جاري فلان نوع جديد فريد منه، فحبذا لو جئتنا من عنده بما نستكمل به أنسنا وحظنا. فقلت له: حباً وكرامة. ثم غادرت الدار، وتوجهت إلى منزل ذلك الجار. فلما أبلغته رسالة مسلم بن الوليد، قال لي: والله ما عندي من الشراب قديم ولا جديد. فرجعت من عنده خالي اليدين، متخاذل الساقين...

وليس عجبي من أمر هذا الجار الشحيح، بأشد من عجبي لثقة مسلم به، وما كدت أصل إلى دار مسلم حتى وجدت الباب مغلقاً، فتعجبت من ذلك، وأخذت أطرق الباب، فلم يرد علي أحد، مما زادني عجباً وغضباً. ثم أفقت من سكرتي، وأدركت غلطتي. فأخذت أصيح وأشتم مندداً بخداع مسلم لي واحتياله علي. فلما ألححت في ذلك، صاح بي من الداخل: ويل لك أيها الأحمق أليست الدار داري، والمجلس مجلسي؟ وهل نسيت أنت القائل:

بت في درعها وبات رفيقي

جنب القلب طاهر الأطراف

قال دعبل: لما سمعت كلامه يا أمير المؤمنين، كدت أنفجر من الغيظ والندم، ولم يسعني إلا أن أنصرفت خائب الآمال. وما زلت أشعر بالأسف الشديد، والحنق على مسلم بن الوليد، كلما تذكرت تلك الحال، وكيف ظفرت بذلك الجمال، ثم فقدته بالخديعة والاحتيال.

ضحك الرشيد، وقال له: هذا جزاء من فرط في ما بين يديه، ولم يحرص عليه. ثم أمر له بمنحة جزيلة، وأمر للشعراء، والندماء والحاضرين بمثلها، فخرجوا من عنده شاكرين مسرورين.

زمرد

لما كانت الليلة السادسة والتسعون بعد الأربعمئة قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد أنه كان في ذلك الزمان وسالف العصر والأوان تاجر من التجار في بلاد خراسان اسمه مجد، وله مال كثير وعبيد ومماليك وغلمان، إلا أنه بلغ من العمر ستين سنة ولم يرزق ولداً وبعد ذلك رزقه الله تعالى ولداً فسماه علياً. لما نشأ الغلام صار كالبدر ليلة التمام. ولما بلغ مبلغ الرجال وحاز صفات الكمال ضعف والده بمرض الموت فدعا بولده وقال له: يا ولدي إنه قد قرب وقت المنية وأريد أن أوصيك بوصية فقال له: وما هي يا والدي فقال له: أوصيك أنك لا تعاشر أحداً من الناس وتجنب ما يجلب الضر واليأس وجليس السوء فإنه كالحداد إن لم تحرقك ناره يضرك دخانه وأنشد:

ما في زمانك من ترجو مودتـه

ولا صديق إذا خان الزمان وفى

فعش فريداً ولا تركن إلى أحـد

ها قد نصحتك في ما قلته وكفى

فقال: يا أبي سمعت وأطعت ثم ماذا أفعل؟ فقال: افعل الخير إذا قدرت ودم على صنع الجميل من الناس واغتنم بذل المعروف فما في كل وقت ينجح الطلب.

يا ولدي شاور من هو أكبر منك سناً ولا تجعل في الأمر الذي تريده وارحم من هو دونك يرحمك من هو فوقك، ولا تظلم أحداً فيسلط الله عليك من يظلمك وانشد:

أقرن برأيك غيرك واستشر

فالرأي لا يخفى على الاثنين

فالمرء مرآة تريه وجـهـه

ويرى قفاه بجمع مرآتـين

فهذه وصيتي لك فاجعلها بين عينيك والله خليفتي عليك ثم غشي عليه فسكت ساعة واستفاق فاستغفر الله وتوفي إلى رحمة الله تعالى. بكى عليه ولده وانتحب ثم أخذ في تجهيزه على ما يجب ومشيت في جنازته الأكابر والأصاغر وصار القراء يقرؤون حول تابوته وما ترك من حقه شيئاً إلا وفعله ثم صلوا عليه وواروه التراب.

حزن عليه ولده علي شار حزناً شديداً وعمل عزاءه على عادة الأعيان واستمر حزيناً على أبيه إلى أن ماتت أمه بعده بمدة يسيرة ففعل بوالدته مثل ما فعل بأبيه. ثم بعد ذلك جلس في الدكان يبيع ويشتري ولا يعاشر أحداً من خلق الله تعالى عملاً بوصية أبيه.

انحراف

استمر على ذلك مدة سنة، وبعد السنة دخلت عليه النساء بالحيل وصاحبنه حتى مال معهن إلى الفساد وأعرض عن طريق الرشاد وشرب الراح بالأقداح أو رواح، وقال في نفسه: إن والدي جمع لي هذا المال وأنا إن لم أتصرف فيه فلمن أخليه؟

وما زال علي شار يبذل في المال إناء الليل وأطراف النهار حتى ذهب ماله كله وافتقر حاله وتكدر باله وباع الدكان والأماكن وغيرها. ثم بعد ذلك، باع ثياب بدنه ولم يترك لنفسه غير بدلة واحدة. فلما ذهبت السكرة وجاءت الفكرة وقع في الحسرة وقعد يوماً من الصبح إلى العصر بغير إفطار، فقال في نفسه: أنا أدور على الذين كنت أنفق مالي عليهم لعل أحداً منهم يطعمني في هذا اليوم. فدار عليهم جميعاً وكلما طرق باب واحد منهم أنكر نفسه وتوارى منه حتى أحرقه الجوع ثم ذهب إلى سوق التجار.

وجد في السوق حلقة ازدحام، فقال في نفسه: يا ترى ما سبب اجتماع هؤلاء الناس؟ والله لا أنتقل من هذا المكان حتى أتفرج على هذه الحلقة. ثم تقدم فوجد جارية خماسية معتدلة القد فاقت أهل زمانها في الحسن والجمال والبهاء والكمال.

وكانت تلك الجارية اسمها زمرد، فلما نظرها علي شار تعجب من حسنها وجمالها وقال والله لا أبرح حتى أنظر القدر الذي يبلغه ثمن هذه الجارية وأعرف من يشتريها. ثم وقف بجملة التجار فظنوا أنه يشتري لما يعلمون من غناه بالمال الذي ورثه من والده، ثم إن الدلال وقف على رأس الجارية وقال: يا تجار يا أرباب الأموال من يفتح باب السعر في هذه الجارية سيدة الأقمار الدرة السنية زمرد السنورية بغية الطالب ونزهة الراغب، فافتحوا الباب فليس على من فتحه لوم ولا عتاب. فقال بعض التجار علي بخمسمئة دينار.

وقال آخر: وعشرة. فقال شيخ يسمى رشيد الدين وكان أزرق العينين قبيح المنظر: ومئة. وقال آخر: وعشرة. قال الشيخ: بألف دينار. فحبس التجار ألسنتهم وسكتوا فشاور الدلال سيدها فقال: أنا حالف أني لا أبيعها إلا لمن تختاره. فشاورها فجاء الدلال إليها وقال: يا سيدة الأقمار إن هذا التاجر يريد أن يشتريك. فنظرت إليه فوجدته كما ذكرنا فقالت للدلال: لا أباع لشيخ أوقعته الهموم في أسوأ حال.

لما سمع الدلال قولها قال لها: والله أنك معذورة وقيمتك عشرة آلاف دينار. ثم أعلم سيدها أنها ما رضيت بذلك الشيخ فقال: شاورها في غيره، فتقدم إنسان آخر وقال: علي بما أعطى فيها الشيخ الذي لم ترض به. فنظرت إلى ذلك الرجل فوجدته مصبوغ اللحية، فقالت: ما هذا العيب والريب وسواد وجه الشيب.

فتقدم تاجر آخر وقال: شاورها على الثمن الذي سمعته. فشاورها فنظرت إليه فوجدته أعوراً فقالت: هذا أعور. فقال لها الدلال: يا سيدتي انظري من يعجبك من الحاضرين وقولي عليه حتى أبيعك له. فنظرت إلى حلقة التجار وتفرستهم واحداً بعد واحد فوقع نظرها على شار.

نظرته نظرة أعقبتها ألف حسرة وتعلق قلبها به لأنه كان بديع الجمال وألطف من نسيم الشمال، فقالت: يا دلال أنا لا أباع إلا لسيدي صاحب هذا الوجه المليح والقد الرجيح وانشدت:

أبرزوا وجهك الجميل

ولاموا من افتـتـن

لو أرادوا صيانـتـي

ستروا وجهك الحسن.

لما سمع الدلال ما أنشدته من الأشعار في محاسن علي شار تعجب من فصاحتها وإشراق بهجتها فقال له صاحبها: لا تعجب من بهجتها التي تفضح شمس النهار ولا من حفظها رقائق الأشعار، فإنها مع ذلك تقرأ القرآن العظيم بالسبع قراءات وتروي الحديث بصحيح الروايات، وتكتب بالسبعة أقلام وتعرف من العلوم ما لا يعرفه العالم العلام، ويداها أحسن من الذهب والفضة فإنها تعمل الستور الحرير وتبيعها فتكسب في كل واحدة خمسين ديناراً أو تشتغل الستر في ثمانية أيام. فقال الدلال: يا سعادة من تكون هذه في داره ويجمعها من ذخائر أسراره.

ثم قال له سيدها: بعها لكل من أرادته. فرجع الدلال إلى علي شار وقبل يديه وقال: يا سيدي، اشتر هذه الجارية فإنها اختارتك. وذكر له صفاتها وما تعرفه وقال له: هنيئاً لك إذا اشتريتها فإنه قد أعطاك من لا يبخل بالعطاء. فأطرق علي شار برأسه ساعة إلى الأرض وهو يضحك على نفسه ويقول في سره: أنا لي هذا الوقت من غير إفطار ولكن أختشي من التجار أن أقول ما عندي مال أشتريها.

نظرت الجارية إلى إطراقه وقالت للدلال: خذ بيدي وامض بي إليه حتى أعرض نفسي عليه وأرغبه في أخذي فإني لا أباع إلا له. أخذها الدلال، وأوقفها إزاء علي شار وقال له: ما رأيك يا سيدي؟ فلم يرد له جواباً، فقالت الجارية: يا سيدي وحبيب قلبي مالك لا تشتريني، فاشترني بما شئت وأكون سبب سعادتك. فرفع رأسه إليها وقال: هل الشراء بالغصب، فأنت غالية بألف دينار. فقالت له: يا سيدي اشترني بتسعمئة قال: لا. قالت: بثمانمئة قال: لا فما زالت تنقص من الثمن إلى أن قالت له: بمئة دينار. قال: ما معي مئة كاملة. فضحكت وقالت له: كم تنقص مئتك؟ قال: ما معي لا مئة ولا غيرها، والله لا أملك لا أبيض ولا أحمر من درهم، ولا حتى دينار، فانظري لك زبوناً غيري.

لما علمت أنه لا يملك شيئاً، قالت له: خذ بيدي على أنك تقبلني في عطفة. فعل ذلك، فأخرجت من جيبها كيساً فيه ألف دينار وقالت زن منه تسعمئة في ثمني وأبق المئة معك تنفعنا. فعل ما أمرته به واشتراها بتسعمئة ودفع ثمنها من ذلك الكيس ومضى بها إلى الدار. لما وصلت إلى الدار وجدتها قاعاً صفصفاً لا فرش بها ولا أوان فأعطته ألف دينار وقالت له: امض إلى السوق واشتر لنا بثلثمئة دينار فرشاً وأواني للبيت. ففعل، ثم قالت له: اشتر لنا مأكلاً ومشروباً، وانشدت:

زر منتحب ودع كلام الحـاسـد

ليس الحسود على الهوى بمساعد

حق صحيح كـل مـا عـينـتـه

ولسوف أبلغه برغم الحـاسـد

لم تنظر العينان أحسن منـظـراً

من عاشقين على فـراش واحـد

متعانقين عليهما حللي بالـرضـا

متوسدين بمعصـم وبـسـاعـد

وإذا تألفت القلوب على الـهـوى

فالناس تضرب في حـديد بـارد

يا من يلوم على الهوى أهل الهوى

فهو المراد وعش بذاك الواحـد.

وأدركت شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

شار تنكّر لوصية الأب ووقع في حبائل النساء فخسر ماله وتجارته

زمرد تحتال على الدلال وتهب مالها للتاجر الذي غدر به الزمان
back to top