سرّ الصندوق الأسود (27 - 30)

نشر في 12-06-2018
آخر تحديث 12-06-2018 | 00:01
في الحلقة السابقة تعرفنا إلى جانب من حكايات التجار والشطار واللصوص الأذكياء، وكيف كان مصيرهم. كذلك حكاية الأديب الذكي، الذي أراد كشف حقيقة الشيخ وعلاقته بمريديه وصبيانه، فيجد أن الشيخ هام بامرأة لم يعرفها إلا من حمارها. وفي هذة الحلقة تواصل شهرزاد سرد حكايات الليالي العربية، عن قصة التاجر أيوب وابنه غانم. كذلك تحكي عن علاقة الملك بزوجة الفلاح، الذي كاد أن يغويه الشيطان إلا أنه رجع فتاب وأناب، بعدما لقنته الزوجة درساً قاسياً.
لما كانت الليلة الثالثة والتسعون بعد الأربعمئة قالت شهرزاد للملك شهريار: بلغني أيها الملك السعيد أن ملكاً من الملوك، خرج يوماً وهو متنكر لتفقد أحوال رعيته، ووصل إلى قرية عظيمة، فدخلها وطرق باب دار فيها ليطلب قليلاً من الماء يروي به عطشه. فتحت له الباب امرأة رشيقة القوام، وجهها كالبدر ليلة التمام، وردت عليه السلام بأدب واحتشام. ثم جاءت له بالماء، في إناء بديع الرواء فشرب حتى ارتوى، ولكنه في الوقت نفسه بنار حبها انكوى. فكشف لها شخصيته، ثم صرح لها بما في نيته.

كلام الملك

لما سمعت المرأة كلامه، وفهمت قصده ومرامه، قالت لنفسها: لو أنني واجهته برفض، ومحافظتي على عرضي، لم أسلم أنا وزوجي من شره، لأنه ملك حاكم بأمره. ثم دعته إلى الدخول في الدار، وطلبت إليه الجلوس للانتظار، ريثما تبدل ملابسها، ثم ترجع لتؤانسه ويؤانسها. وأعطته كتاباً ليتسلى بالاطلاع عليه، إلى أن ترجع إليه.

شكر واعتذار

وأخذ الملك يقرأ في ذلك الكتاب، فإذا به يبشر أصحاب العفة بجزيل الثواب، وينذر الفساق بأشد العذاب. فتاب إلى الله وأناب، وندم على ما أقدم عليه، وجرت الدموع من عينيه، وما كادت ترجع إليه، حتى نهض واقفاً على قدميه، واستأذن في الانصراف من الدار، وهو يكرر الشكر والاعتذار.

ولما حضر زوجها بعد ذلك، وأخبرته بما هنالك، لم يصدق أن الملك بعد أن خلا بها في الدار، عدل عما اتخذه من قرار، فهجر زوجته، وكشف لها بذلك نيته. ولم يزل يمعن في هجرها، حتى نفد صبرها، ولم تجد فائدة من محاولاتها استرضاءه، لأن هذه المحاولات كانت تزيد غضبه واستياءه. شكت الأمر إلى أهلها، وأخبرتهم بقصتها مع الملك من أولها إلى آخرها. فتوجه بعضهم إليه، ولما مثلوا بين يديه، احتالوا لقص حكاية زوجها عليه، فقالوا له: أيها الملك العادل، إن لنا قريباً استأجر منا أرضاً ليزرعها، وبعد أن زرعها سنين عدة، تركها عنده بلا زراعة فإن لم يكن يريد زرعها، فليردها إلينا.

زراعة الأرض

لما سمع الملك كلامهم، أدرك قصدهم ومرامهم، وأرسل إلى زوج قريبتهم وقال له: ما الذي منعك من زراعة الأرض التي عندك؟ فقال له الزوج: بلغني أن هذه الأرض دخلها الأسد واتخذها عريناً له. ففهم الملك أنه يعنيه وقال له: ترك الأسد أرضك كما دخلها، فارجع إلى زراعتها، مطمئناً إلى طيب تربتها وحسن منبتها. وثق بأن الأسد لن يطمع فيها، بل هو من الآن حارسها وحاميها. ثم أمر له ولأقارب زوجته بمكافأة حسنة، فانصرفوا من عنده شاكرين فرحين.

التاجر أيوب وابنه غانم

لما كانت الليلة الرابعة والتسعون بعد الأربعمئة قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد أنه كان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان تاجر من التجار له مال وله ولد، كأنه البدر ليلة تمامه فصيح اللسان اسمه غانم بن أيوب. ولما توفي خلف له مالاً جزيلاً، ومن جملة ذلك مئة حمل من الخز والديباج ونوافج المسك، ومكتوب على الأحمال «هذا بقصد بغداد»، وكان مراده أن يسافر إلى بغداد فلما توفاه الله تعالى ومضت مدة، أخذ ولده هذه الأحمال وسافر بها إلى بغداد.

وكان ذلك في زمن هارون الرشيد. ودع الابن أمه وأقاربه وأهل بلدته قبل سيره، وخرج متوكلاً على الله تعالى. وكتب الله له السلامة، حتى وصل إلى بغداد وكان مسافراً بصحبة جماعة من التجار فاستأجر له داراً حسنة أنزل فيها تلك الأحمال والبغال والجمال، وجلس حتى استراح وسلم عليه تجار بغداد وأكابرها وأكرموه وتلقوه بالترحيب وأنزلوه على دكان شيخ السوق وباع، فربح في كل دينار دينارين. فرح غانم وصار يبيع القماش شيئاً فشيئاً ولم يزل كذلك سنة، وفي أول السنة الثانية جاء إلى ذلك السوق فرأى بابه مقفولاً فسأل عن سبب ذلك فقيل له أنه توفي واحد من التجار وذهب التجار كلهم يمشون في جنازته، فمشى معهم وبعد الجنازة وفي عودته رأى ثلاثة عبيد يحملون صندوقاً وقال أحدههم: يا أخوتي نحن تعبنا من المشي والشيل والحط وهذا الوقت نصف الليل، ولم يبق فينا قوة لدفن الصندوق ولكننا نجلس هنا ثلاث ساعات لنستريح. تركوا الصندوق وذهبوا لقضاء حاجتهم وغابوا.

لما خلا لغانم المكان وعلم أنه وحده، اشتغل سره بما في الصندوق، وقال في نفسه: يا ترى أي شيء في الصندوق؟ أخذ حجراً وضرب القفل فكسره وكشف الغطاء، ونظر فرأى صبية نائمة ونفسها طالع ونازل إلا أنها ذات حسن وجمال وعليها حلي من الذهب وقلائد من الجواهر تساوي ملك السلطان ما يفي بثمنها مال. لما رآها غانم بن أيوب عرف أنهم تغامزوا عليها، وعالج فيها حتى أخرجها من الصندوق. فلما أفاقت سألت: من جاء بي من بين الستور والخدور، ووضعني بين أربعة قبور؟ هذا كله وغانم واقف على قدميه. فقال لها: يا سيدتي لا خدور ولا قصور ولا قبور، ما هذا إلا عبدك غانم بن أيوب ساقه إليك الملك وعلام الغيوب حتى ينجيك من هذه الكروب ويحصل لك غاية المطلوب. وسكت، فلما تحققت الأمر قالت: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله. والتفتت إلى غانم وقد وضعت يديها على صدرها وقالت له بكلام عذب: أيها الشاب المبارك من جاء بي إلى هذا المكان فها أنا قد أفقت؟ فقال: يا سيدتي ثلاثة عبيد خصيون أتوا وهم حاملون هذا الصندوق. ثم حكى لها ما جرى وكيف أمسى عليه المساء حتى كان سبب سلامتها، وإلا كانت ماتت بغصتها. ثم سألها عن حكايتها وخبرها فقالت له: أيها الشاب الحمد لله الذي رماني عند مثلك فقم الآن وحطني في الصندوق واخرج إلى الطريق وأوصلني إلى بيتك، فإذا صرت في دارك يكون خيراً وأحكي لك حكايتي وأخبرك قصتي ويحصل لك الخير من جهتي. فرح وخرج إلى البرية وقد شعشع النهار وطلعت الشمس بالأنوار وخرج الناس ومشوا فاكترى رجلاً ببغل وأتى به إلى التربة فحمل الصندوق بعدما حط فيه الصبية، ووقعت محبتها في قلبه وسار بها وهو فرحان لأنها جارية تساوي عشرة آلاف دينار وعليها حلي تساوي مالاً جزيلاً. وصل غانم بن أيوب إلى داره بالصندوق وفتحه وأخرج الصبية منه، ونظرت فرأت هذا المكان محلاً مليحاً مفروشاً بالبسط الملونة المفرحة، ورأت قماشاً محزوماً وأحمالاً وغير ذلك فعلمت أنه تاجر كبير صاحب أموال، ثم كشفت وجهها ونظرت إليه فإذا هو شاب مليح، فلما رأته أحبته.

عندما أقبل الليل قام غانم بن أيوب وأوقد الشموع والقناديل فأضاء المكان وأحضر آلة المدام، ثم نصب الحضرة وجلس هو وإياها. وكان يملأ ويسقيها وهي تملأ وتسقيه وهما يلعبان ويضحكان وينشدان الأشعار وزاد بهما الفرح وتعلقا بحب بعضهما بعضاً، فسبحان مؤلف القلوب، ولم يزالا كذلك إلى قريب الصبح وعندما غلب عليهما النوم نام كل منهما في موضعه إلى أن أصبح الصباح. قام غانم بن أيوب وخرج إلى السوق، واشترى ما يحتاج إليه من خضرة ولحم وخمر وغيره، وأتى به إلى الدار وجلس هو وإياها يأكلان حتى اكتفيا، وبعد ذلك أحضر الشراب فقال لها: يا سيدتي ائذني لي بقبلة في فيك لعلها تبرد نار قلبي؟ فأنشدت:

سألت من أمر ضنى

في قبلة تشفي السقم

فقـال لا لا أبــدا

قلت له نعم نـعـم

فقالت خذها بالرضا

من الحلال وابتسـم

فقلت غصباً قـال لا

ألا على رأس علـم

فلا تسل عما جـرى

إلا على رأس علـم

فلا تسل عما جـرى

واستغفر اللـه ونـم

فظن ما شئت بـنـا

فالحب يحلو بالتهـم

لما سمع ذلك، انطلقت النيران في مهجته وهي تتمنع منه وتقول: ما لك وصول إلي. ولم يزالا في عشقهما ومنادمتهما وهو في بحر الهيام وأما هي فإنها ازدادت قسوة وامتناعاً، وحكت حكايتها قالت: أنا محظية أمير المؤمنين. لما رباني في قصره وكبرت نظر إلى صفائي وما أعطاني ربي من الحسن والجمال فأحبني محبة زائدة وأخذني وأسكنني في مقصورة وأمر لي بعشر جوار يخدمنني، ثم أعطاني ذلك المصاغ الذي تراه معي. وسافر الخليفة يوماً من الأيام إلى بعض البلاد فجاءت سيدة القصر إلى بعض الجواري التي في خدمتي وقالت: إذا نمت يضعون البنج في أنفي أو في شرابي وأخذت جارية البنج منها وهي فرحة لأجل المال ولكونها كانت في الأصل جاريتها. ثم جاءت إلي ووضعت البنج في جوفي فوقعت على الأرض وصار رأسي عند رجلي ورأيت نفسي في دنيا أخرى .ولما تمت حيلتها حطتني في ذلك الصندوق وأحضرت العبيد سراً وأنعمت عليهم وعلى البوابين، وأرسلتني مع العبيد في تلك الليلة وفعلوا معي ما رأيت، وكانت نجاتي على يديك وأنت أتيت بي إلى هذا المكان وأحسنت إلى غاية الإحسان وهذه قصتي.

أخذ يعاتب نفسه، ويتفكر في أمره وصار متحيراً في عشق التي ليس له إليها الوصول، فبكى من شدة الغرام ولوعة الوجد والهيام وصار يشكو الزمان وما له من العدوان فسبحان من شغل قلوب الكرام بالمحبة ولم يعط الأنذال منها وزن حبة، وأنشد:

قلب المحب على الأحباب متعوب

وعقله مع بديع الحسن منهـوب

وقائل قال لي ما المحب قلت له

الحب عذب ولكن فيه تـعـذيب.

وأدركت شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

سيدة القصر تخفي محظية الأمير في الصندوق وتريد دفنها حية

أيوب بن غانم يغافل العبيد ويفتح الصندوق ويحرر الجارية
back to top