هل يدرك الاتحاد الأوروبي أن الشعبوية أحد عوارض الإخفاق؟

نشر في 09-06-2018
آخر تحديث 09-06-2018 | 00:00
جانب من الانتخابات الإيطالية
جانب من الانتخابات الإيطالية
تستعد أوروبا لمرحلة جديدة من التقلبات السياسية بعدما اتفق الحزبان الشعبويان الإيطاليان حركة النجوم الخمسة والرابطة على تشكيل حكومة معاً. وهكذا، عقب أيام من الغموض أخاف الأسواق، تجد إيطاليا، التي تشكّل ثالث أكبر اقتصاد في منطقة اليورو والثامن حول العالم، نفسها خاضعة لحكم حزبين شعبويين عبّرا سابقاً عن شكوك كبيرة حيال عضوية إيطاليا في منطقة اليورو، فضلاً عن معارضتهما سياسات الاتحاد الأوروبي بشأن الهجرة.

إيطاليا دولة تقاطعت فيها أزمتا الاتحاد الأوروبي الكبريان خلال السنوات الماضية، فقد عانت سأماً اقتصادياً طويل الأمد تفاقم خلال سنوات أزمة منطقة اليورو، فضلاً عن أزمة هجرة متنامية في البحر الأبيض المتوسط. وفي كلتا الحالتين، تبنت حركة النجوم الخمسة والرابطة وجهة نظر إيطاليين كثر بأن الاتحاد الأوروبي لم يخفق في تقديم المساعدة فحسب، بل آذى إيطاليا عمداً عندما فرض عليها إصلاحات اقتصادية اقتصاصية وتركها لتتخبط وحدها من دون أي مساعدة وسط أمواج اللاجئين التي تدفقت إلى شواطئها.

يُفترض بكل هذا، في الأحوال المثالية، أن يدفع نخب الاتحاد الأوروبي إلى تركيز اهتمامها على جهود تجديد حوكمة أوروبا الاقتصادية بالكامل وإدارتها حدودها الخارجية، مع السعي إلى تطوير سياسات أكثر استدامة وإنصافاً. تمثّل إيطاليا اليوم الحدود الأخيرة لأزمة الحوكمة في الاتحاد الأوروبي، إذ تشكّل إيطاليا، التي كانت إحدى الدول المؤسِّسة للاتحاد الأوروبي، رابع أكبر بلد في هذا الاتحاد وتتمتع بمجتمع مؤيد للوحدة الأوروبية تقليدياً. إلا أنها تواجه اليوم تحديات سياسية حقيقية يعتبرها ناخبوها مرتبطة أشد ارتباط بعضويتها في الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو.

رغم ذلك، يبدو أن الائتلاف الشعبوي في روما يولّد نوعاً مختلفاً من ردود الفعل، حيث سارع المعلقون في مختلف أنحاء أوروبا إلى تصوير الشراكة بين حركة النجوم الخمسة والرابطة على أنها حلقة إضافية في مسيرة الشعبوية الطويلة في الديمقراطيات الغربية. فبعدما أدت هزيمة مارين لوبان في الانتخابات الرئاسية الفرنسية السنة الماضي إلى كثرة الكلام عن تراجع موجة الشعبوية على الأرجح، جاءت حكومة إيطاليا الجديدة المحتملة لتنصف مَن أكّدوا أن الشعبوية، مناهضة الليبرالية، وحتى الاستبدادية لا تزال تمثّل مشكلة أوروبا الرئيسة اليوم.

لا نستطيع أن ننكر بالتأكيد أننا نمر اليوم بفترة امتحان للديمقراطية الليبرالية في أجزاء كثيرة من أوروبا، أما نظام أفكار الشعبوية العقائدي، فيقوم على فهمه الديمقراطية كنمط للتمثيل السياسي مباشر وأكثري يتخطى الضوابط المؤسساتية بإرادة كثيرين مثل المنظمين المستقلين، والمصارف المركزية، والقضاء. ولا شك في أن هذه الشعبوية قد تتحول إلى خطر يهدد الديمقراطية، إذا قوّض الشعبويون في السلطة المؤسسات الليبرالية ومكّنوا ولادة ديمقراطية غير ليبرالية قد تتراجع بمرور الوقت لتتحوّل إلى نظام استبدادي انتخابي واضح.

لكن الشعبوية اليوم لا تُعتبر إشارة إلى حاجة ملحة إلى التغيير السياسي، بل تُستخدم كعذر ملائم لتجاهل المطالب الاجتماعية واعتبارها غير منسجمة مع الديمقراطية الليبرالية.

غير أن التركيز المفرط في الكثير من المناظرات السياسية، والإدارية، والصحافية على خطر الشعبوية الذي يهدد الديمقراطية الليبرالية يغفل عن وجه أكثر أهمية بعد من هذه القصة، وهو أن نهوض الشعبوية في معظم الحالات يتغذى على إخفاق سياسي حقيقي وعلى ردود فعل الشعب الشرعية بامتياز تجاهه. ويصح ذلك خصوصاً في إطار التكامل القاري الذي يعكس خللاً متفاقماً في التوازن بين الوسط المزدهر والمحمي نسبياً في دول أوروبا الجنوبية والغربية ودول الأطراف التي تزداد عجزاً وتتحمل أعباء التكيّف مع المشقة الاقتصادية وأزمة الهجرة.

إخفاق سياسي

ومرة أخرى لا تكمن الفكرة الرئيسة في أن الشعبوية لا تشكّل تحدياً للديمقراطية الليبرالية في أوروبا، بل في أن النجاح الانتخابي الذي تحققه الأحزاب الشعبوية لا يشكّل بالضرورة أو حتى بشكل رئيس خطراً يهدد الديمقراطية في مطلق الأحوال. يعكس نهوض الشعبوية غالباً إخفاقاً سياسياً واضحاً واستياء عاماً لا يستطيع الاتحاد الأوروبي والنخب الوطنية تحمّل كلفة تجاهلهما. وفي نهاية المطاف، يعتقد قليلون حقاً أن حركة النجوم الخمسة والرابطة تتمتع بالقدرة أو الرغبة لإنشاء ديمقراطية غير ليبرالية في إيطاليا، هذا البلد الذي يملك تركيبة مؤسساتية متصلّبة إلى أبعد الحدود تحطم أي جهود لتركيز السلطة.

اعتادت نخب الاتحاد الأوروبي والمعلقون، الذين يتبعون الاتجاه السائد، منذ زمن طويل صبغ كل مَن يتحدون النظام الأوروبي بصبغة «الشعبوية» و»معارضة الليبرالية»، ومن الأسهل بالتأكيد طرح أفكار فلسفية مماثلة عن مستقبل الديمقراطية الليبرالية من بروكسل، وبرلين، أو لاهاي بدل الإقرار بأن المشاركة في بنى التعاون الخاصة بالاقتصاد وسياسة الهجرة ستصبح قريباً في أجزاء كثيرة من أوروبا واهيةً سياسياً واجتماعياً، ما لم يعمد الاتحاد الأوروبي إلى تطبيق إصلاحات جدية في عمله في مجالَي الوحدة وتشاطر الأعباء.

يُعتبر التحدي الحقيقي، الذي يواجهه الاتحاد الأوروبي بسبب الائتلاف الشعبوي في إيطاليا، تحدياً للسياسة لا للديمقراطية، لكن دمج الأولى بالثانية سمح دوماً لنخب الاتحاد الأوروبي وحكومات جوهر أوروبا الشمالي بتحويل الحوار بعيداً عن واجباتها مع حفاظها في الوقت عينه على مكانتها الأخلاقية العالية كمدافع عن معايير الديمقراطية الليبرالية. وعلى غرار الاشتراكية في القرن التاسع عشر والشيوعية في القرن العشرين، لا تُستخدم الشعبوية اليوم كإشارة إلى ضرورة تغيير السياسة بل كعذر ملائم لتجاهل المطالب الاجتماعية واعتبارها غير منسجمة مع الديمقراطية الليبرالية.

نظراً إلى حجم اقتصادها، واستياء شعبها من النخب المحلية والأوروبية، وإلحاح أزمة الهجرة على شواطئها، تمثّل إيطاليا أكبر امتحان تواجهه حتى اليوم مناورة التجاهل والإلهاء، التي تعتمدها النخب لتحوّل النقاش من الاستياء الشعبي إلى مناظرة مراوِغة وعقيمة غالباً عن «مستقبل الديمقراطية». لذلك، ينشأ هنا السؤال المهم: هل يدرك الاتحاد الأوروبي المخاطر في الوقت المناسب ويعالج الإخفاقات السياسية الحقيقية التي تمثّل محور السأم الديمقراطي الحالي في أوروبا؟

● أنجيلوس كريسوجيلوس - شازام هاوس

back to top