أبو الحسن الخراساني وشجرة الدر (23 - 30)

نشر في 08-06-2018
آخر تحديث 08-06-2018 | 00:01
في الحلقة السابقة حكت شهرزاد جانباً من قصص شهدها بلاط الملوك والسلاطين والأمراء. تعرفنا إلى قصة كبير البرامكة في عصر الخلفاء العباسيين يحيى بن خالد، وبلاط الشعراء، وقصة جعفر البرمكي وسعيد بن سالم الباهلي، الذي اشتدت به الحال وضاق ذرعاً بإلحاح الدائنين، وذلك في زمن الخليفة هارون الرشيد. كذلك قصة الخليفة المأمون وهدم الأهرامات. وتستكمل اليوم قصة الوزير بن حمدون والخليفة المتوكل وأبي الحسن الخراساني وشجرة الدر، وما يدور في بلاط الملكة المصرية.
لما كانت الليلة الثمانون بعد الأربعمئة، قالت شهرزاد للملك شهريار: بلغني أيها الملك السعيد أن الخليفة قال بعد ذلك لوزيره ابن حمدون: إن هذا الشاب قد أحسن إكرامنا، وغذى أرواحنا وأجسامنا، فاستحق شكرنا وإنعامنا. ولكني منذ دخلت هذه الدار، وشهدت ما فيها من بدائع الأثاث والآنية والستائر وما إليها، لاحظت أنها كلها قد نقش عليها اسم جدي الخليفة المتوكل. وما زلت في حيرة ودهشة من هذا الأمر ووالله إن لم يخبرني بسر وصول هذه الأشياء إليه، لآخذن روحه بيدي من بين جنبيه!

قال ابن حمدون: لما سمعت ذلك الكلام من الخليفة، أدركت سر عبوسه وغضبه عند دخولنا الدار، وقلت لصاحبها: اعلم يا سيدي أن زميلي هذا هو الخليفة المعتضد، وأنا وزيره ابن حمدون. وقد وجد اسم جده الخليفة المتوكل على كثير من الأواني والتحف والأثاث والستائر هنا، ويريد أن تخبره عن سر حصولك عليها. لما سمع صاحب الدار كلامي، نهض وقبل الأرض بين يدي الخليفة، وقال له: أيدك الله يا أمير المؤمنين بنصره، إن والدي هو أبو الحسن علي بن أحمد الخراساني، وقد ورثت هذه الأشياء كلها عنه، وقد حدثني قبل وفاته بقصة حصوله عليها، وهي عجيبة غريبة. وذلك أنه كان في شبابه يبيع أنواع الجواهر واللآلئ، فبينما هو جالس يوماً في دكانه بسوق الصاغة، إذ أقبلت عليه جارية بارعة الجمال، فاتنة الدلال، وجلست عنده ساعة تتحدث إليه حتى امتلكت قلبه ولبه برقتها ورشاقتها وأدبها. ثم انتقت من اللآلئ التي عنده ما يساوي ثلاثمئة دينار وأخذتها وانصرفت من غير أن تدفع ثمنها، فخجل من مخاطبتها في هذا الشأن، وظن أنها نسيت دفع الثمن ثم أرسل وراءها أحد غلمانه ليعرف دارها. رجع الغلام بعد قليل وهو يبكي وينتحب والدم يسيل من وجهه وجسمه، وأخبره بأن الجارية هي التي ضربته حين رأته يتبع أثرها! فلما سمع كلام الغلام، علم أن تلك الحسناء ما هي إلا محتالة، وقال لنفسه: والله إن رأيتها بعد ذلك لأنتقمن منها شر انتقام.

لم تمض أيام، حتى أقبلت عليه تلك الجارية نفسها فسلمت عليه وجلست تتحدث إليه وقالت له: ما كان يصح أن ترسل ورائي غلامك في المرة الماضية لأجل مبلغ بسيط من المال. ثم أعطته كيساً به ألف دينار وقالت له: خذ الدنانير الثلاثمئة التي لك عندي، وأعطني عقداً وأساور بالسبعمئة دينار الباقية. أخذ والدي يعتذر إليها مما حصل من غلامه، ثم أعطاها اللآلئ المطلوبة وودعها عند انصرافها بكل إجلال وإكبار. وفي اليوم التالي رجعت إليه واشترت لآلئ ثمنها خمسمئة دينار، وأعطته كيساً فيه ألف دينار، وقالت له: احفظ الخمسمئة دينار الباقية لي حتى أعود.

ثم انصرفت بعدما أفهمته بنظرتها وإشارتها أن قلبها تعلق بحبه، وأنها لا تقدر على فراقه. بقي بعد انصرافها ذاهل اللب شارد الفكر، ولم يسعه إلا أن أغلق دكانه ورجع إلى داره حيث أمضى ليلته ساهراً، ولم يذق أي طعام ولا شراب لشدة وجده وهيامه بتلك الجارية الغنية الحسناء!

وفي اليوم التالي، رجعت الجارية إلى أبي الحسن الخراساني، فحيته أحسن تحية، وجلست تحدثه بأحاديثها العذبة الشهية، ثم انتقت جواهر ولألئ قيمتها ألف دينار. وأرته عقداً قالت إنها اشترته من أحد جيرانه بخمسمئة دينار هي كل ما معها، وقد أعجبها عند هذا الجار عقداً آخر لكنها لم تشأ أن تأخذه قبل دفع ثمنه.

لما سمع أبو الحسن كلامها، أرسل أحد غلمانه فأتى بذلك العقد من جاره، ثم أعطاها إياه قائلاً لها: سأدفع له ثمنه الآن، إلى أن تحضري أنت الثمن حينما تشائين. أخذت العقد والجواهر الأخرى، شاكرة له أريحيته وكرم طباعه. ثم نظرت إليه وتنهدت مظهرة أنها لا تقوى على فراقه. فاتقدت في قلبه نيران العشق، وأمسك يدها فقبلها وقال لها: والله إن فراقك ليعز عليّ... فأشارت عليه بأن يصحبها ليعرف محل إقامتها، وقبل هو ذلك والدنيا لا تسعه من السرور!

سوق الصاغة

لما كانت الليلة الواحدة والثمانون بعد الأربعمئة، قالت شهرزاد للملك شهريار: بلغني أيها الملك السعيد أن الجارية لما صحبها أبو الحسن الخراساني ليعرف محل إقامتها، أخذت في طريقهما بسوق الصاغة، تتفرج على ما هناك من جواهر ومصوغات وتحف، وكلما لفتتها قطعة منها، نظرت إلى أبي الحسن وتنهدت، فيأخذ هو القطعة على حسابه من صاحب الدكان ويعطيها إياها، إلى أن بلغ ثمن ما أخذته أكثر من خمسمئة ألف دينار. ثم واصلت سيرها وهو يتبعها إلى أن وصلا إلى قصر الخليفة المتوكل، فمدت يدها إليه وصافحته مودعة قائلة: هنا محل إقامتي. وفي غد أجيء إليك إن شاء الله. وذهبت كالسهم، وتركته واقفاً لا يكاد يعي أمراً لفرط ما أصابه من الذهول.

وأمضى أبو الحسن ليلته ساهراً يفكر في أمره مع تلك الجارية، وما إن أقبل الصباح، وطلع بنوره ولاح، حتى سارع إلى دكانه، وأخذ يرقب الطريق في انتظار قدومها، ولكنها لم تحضر حتى انقضى النهار، وإنما حضر إليه زملاؤه التجار الذين أخذت منهم الجواهر، وطالبوه بثمنها، فأمهلهم إلى اليوم التالي. ثم أغلق الدكان ورجع إلى داره، وقد اشتد قلقه وحزنه، وأصفر وجهه وضعف جسمه مع حرمانه من النوم والطعام!

ولما انقضت سبعة أيام على هذه الحال، هدده التجار بالشكوى منه إلى الوالي، فلم يسعه إلا أن باع دكانه وأملاكه لسداد الدين الذي عليه لهم.

ثم لزم داره سقيماً عليلاً. وكادت والدته تموت حسرة وغماً لما أصابه وجاءت له بأكبر الأطباء كي يعالجوه من مرضه، ولكنهم جميعاً عجزوا عن معرفة ما به.

علمت والدته من أحد غلمانه بما كان من أمره مع تلك الجارية، فدخلت عليه وأخذت تقبله وهي تبكي وتنتحب، ثم قالت له: لماذا لم تخبرني يا ولدي بأمر تلك الجارية وما جرى لك معها؟

راحت تواسيه وتمنيه إلى أن أذهبت عن قلبه اليأس، واستطاع النهوض من فراشه، ومشى معها متوكئاً على ساعدها، حتى وصلا إلى حجرة كبيرة في الدار لم يكن دخلها منذ طفولته، ففتحت بابها، ودخلت وهو يتبعها، ثم أشارت إلى أكياس مرصوصة كالبنيان، وهي كثيرة لا يحصى عددها، وقالت له: هذه الأكياس كلها تركها لك والدك، وفي كل منها مئة دينار. فخذ ما تشاء، وافتح لنفسك أكبر دكان في سوق الصاغة. ومتى تم شفاؤك بأذن الله أزوجك أجمل فتاة في المدينة، وتعيش أسعد عيشة.

لما سمع أبو الحسن كلام والدته، بكي من شدة تأثره، وقال لنفسه: لعل الجارية حينما تعلم بأني فتحت دكاناً للجواهر أكبر من الأول، تحدثها نفسها بزيارتي، وحينئذ أشرح لها شدة حبي لها ورغبتي في الزواج بها. ثم أمضى بقية يومه في الحمام وإعداد أفخر الملابس لنفسه ولغلمانه، ونام في تلك الليلة نوماً هادئاً مريحاً. واستيقظ في الصباح وقد عاد إليه نشاطه واسترد عافيته كما كانت وزيادة . وغادر الدار ومن خلفه عشرة غلمان يحمل كل منهم كيساً فيه ألف دينار.

لما وصل إلى سوق الصاغة، ورآه التجار أقبلوا عليه مسلمين مهنئين بالشفاء. ولم تمض ساعات حتى كان اشترى أكبر دكان للجواهر في السوق، وملأه بأنواع اللآلئ والتحف النادرة، ثم جلس ومن حوله غلمانه يبيعون ويشترون، إلى أن انقضى النهار، فأغلق الدكان ورجع إلى الدار، حيث أقام حفلة عظيمة دعا إليها أكابر التجار.

غرام موصول

بقي أبو الحسن الخراساني شهراً كاملاً على هذه الحال، ولكن الجارية لم تأت إليه، ولم يستطع أن يسلو غرامها، ولما خاطبته والدته في أمر زواجه، لم يتمالك نفسه إزاءها، وأخذ في البكاء، ثم صرح لها بأنه ما زال مغرماً بتلك الجارية، ولا يستطيع الوصول إليها. فقالت له: إن المال عندك كثير، فابذل منه بسخاء على مماليك الخليفة وجواريه الأخريات، وبذلك يمكنك الوصول إلى ما تريد. فقال لها: سمعاً وطاعة.

ثم أخذ في العمل بمشورتها، وكلما جاء مملوك أو جارية من مماليك الخليفة وجواريه لشراء الجواهر، أعطاهما كل ما يريدان، بأرخص الأثمان، أو رفض أن يأخذ أي ثمن، قائلاً: هذه هدية بسيطة لأجل التعرف والصداقة، ولم تمض على ذلك أيام حتى شاع أمر كرمه وهداياه النفيسة بين المماليك والجواري في قصر الخليفة، فصاروا يقصدون دكانه كل يوم «زرافات ووحدانا، وأصبحوا جميعاً أصدقاء له وخلانا».

المحظية شجرة الدر

لما كانت الليلة الثانية والثمانون بعد الأربعمئة، قالت شهرزاد للملك شهريار: بلغني أيها الملك السعيد، أن الشاب صاحب الدار قال للخليفة المعتضد ووزيره ابن حمدون بعد ذلك: حدثني والدي أبو الحسن الخراساني بأنه ظل سنة كاملة يواصل بذل هداياه وعطاياه لمماليك الخليفة المتوكل وجواريه، ذلك كله والجارية التي يحبها لم يظهر لها أي أثر. ولم يكن يعرف اسمها ولا وظيفتها في القصر.

ولما نفد صبره، وحيرة أمره، اصطفى من بين المماليك الذين صادقهم مملوكاً لطيفاً اسمه مقبل، وأفضى إليه بكل ما كان من أمره مع تلك الجارية، ثم وصفها له وصفاً دقيقاً، فقال له مقبل: قد عرفتها، إنها شجرة الدر محظية الخليفة.

وهي لم تغادر القصر منذ أوصلتها إليه، لأن الخليفة لقيها حينذاك مصادفة وهي في طريقها إلى مقصورتها، ووجد معها من الجواهر واللآلئ ما لا يقدر على شرائه غير الملوك، فأخذته الغيرة عليها، وحرم عليها مغادرة القصر، ووضع عليها حراسة شديدة، وليس في القصر من يستطيع دخول مقصورتها غيري. كنت أعلم أن قلبها متعلق بشخص قابلته خارج القصر، وأنه الذي أعطاها تلك الجواهر، ولكني كنت أظن أنه من الأمراء أو الوزراء. أما الآن وقد وقفت منك على هذا السر، فإني أوصيك بكتمانه، وفي غد إن شاء الله تعالى أرجع إليك بما يسرك.

لما سمع أبو الحسن كلام المملوك مقبل، لم يتمالك نفسه، وأخذ يقبله ويبكي من شدة الفرح. ثم أهدى إليه كثيراً من الجواهر النادرة والحلل الفاخرة. وبقي طوال يومه وليلته مشغول البال، ولم يذق للنوم طعماً. وما كاد يفتح دكانه في اليوم التالي ويجلس فيه على عادته، حتى كان المملوك مقبل أول من أقبل عليه، فنهض واستقبله مرحباً وقلبه شديد الخفقان، وعيناه تدمعان. فقال له مقبل: أبشر يا أبا الحسن، إن الجارية شجرة الدر تحبك أكثر مما تحبها، وكادت تموت لشدة فرحها حينما أفضيت إليها بحقيقة حالك. وقد جئت لك معي بحلة من حلل الخليفة التي يرتديها في القصر، وبشيء من بخوره الخاص.

وسأحتال الليلة لإدخالك إلى القصر بعد أن تلبس هذه الحلة، وتبخر نفسك بهذا البخور، ثم أوصلك إلى مدخل مقاصير المحظيات، فتمضي وحدك بين صفيها، وتضع على باب كل مقصورة حبة من الفول كما هي عادة الخليفة، وبذلك لا يشك أحد هنا في أمرك. فإذا قطعت الممر الذي تقوم فيه هذه المقاصير على جانبيه، فعرج على الممر الذي تجده عن يمينك، وأمض فيه حتى تصل إلى نهايته، فتجد في الصدر حجرة بابها من الأبنوس المطعم بالجواهر، فادفعه بيدك وأدخل غير خائف، وهناك تجد حبيبتك شجرة الدر في انتظارك!

فقال أبو الحسن لمملوك مقبل: بشرك الله بكل خير. وأعطاه هدية أعظم من هدية أمس، وقام فأغلق دكانه ليتأهب للقاء مالكة قلبه ولبه، واتفق معه على أن يتقابلا عقب صلاة العشاء عند شاطئ النهر الذي أقيم عليه القصر، بعد أن يرتدي حلة الخليفة ويبخر نفسه ببخوره.

وفي الموعد المحدد، كان المملوك مقبل في انتظار أبي الحسن، وأخذه إلى باب سري للقصر من جهة النهر، فأدخله منه ولم يزل يقوده من ممر إلى أخر حتى أوصله إلى مدخل مقاصير المحظيات. فقال له: إن الدخول إلى هنا ليلاً لا يكون إلا للخليفة ومحظياته. فادخل ولا تخف، أية محظية قد تراك الآن لن يخالجها شك في أنك الخليفة نفسه.

وما كاد أبو الحسن يدخل إلى الممر الذي به صفان من المقاصير، حتى أدركه الخوف وشعر بتخاذل ساقيه، لكنه سرعان ما تشجع وقوى قلبه أن تذكر قرب لقائه بحبيبته، فأخرج حبات الفول التي زوده بها المملوك، وأخذ يضع حبة بباب كل مقصورة عن يمينه ويساره، ولما وصل إلى نهاية الممر، أراد أن يعرج إلى الممر الذي وجده عن يمينه تنفيذا لتعليمات المملوك، ولكنه سمع ضجة قريبة صادرة من الممر الذي إلى اليسار، فكاد قلبه ينخلع من شدة الرعب والفزع، ووقف مرتعداً وهو يحملق بعينه إلى سرب من الجواري أقبلن نحوه من ذلك الممر وهن يحملن الشموع ويتضاحكن، والخليفة المتوكل نفسه يمشي بينهن، يشاركهن الضحك والمداعبات!

ولم يسع أبا الحسن إلا أن تحامل على نفسه وتراجع محاذراً إلى الممر الأول الذي جاء منه، ثم تمدد على الأرض وهو يدعو الله ألا يراه الخليفة أو إحدى الجواري. ولم تمض دقيقة حتى وصل موكب الخليفة إلى تقاطع الممرات الثلاث، فوقف هناك وأشار إلى الممر الذي تمدد فيه أبو الحسن، وصاح قائلاً: أين حبات الفول، لنضعها على أبواب هذه المقاصير أولاً؟ فأيقن أبو الحسن بالهلاك، ونطق بالشهادتين استعداداً للقاء الموت.

ولكن الخليفة ما لبث أن واصل كلامه فقال: فلندخل أولاً عند شجرة الدر لتمضية السهرة، وعند الخروج أضع حبات الفول على أبواب المقاصير. ثم انطلق في موكبه قاصداً مقصورة شجرة الدر!

وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح.

بن حمدون يكشف سر حصول الخراساني على الجواهر واللآلئ

المملوك مقبل يقود أبا الحسن الخراساني إلى شجرة الدر

الخليفة يراقب مقصورة الملكة بحبات الفول
back to top