التوقف عن الكتابة (2-2)

نشر في 06-06-2018
آخر تحديث 06-06-2018 | 00:00
 طالب الرفاعي ذكرتُ في مقالي السابق موقف الكاتب الأميركي الأشهر "فيلب روث-Philip Milton Roth" من الكتابة وقوله في إحدى مقابلاته: "في معظم المهن هناك بداية ووسط ونهاية، أما مع الكتابة فدائماً هناك بداية". كما بيّنتُ في مكان آخر من المقال إعلان الكاتب نفسه في عمر الثمانين توقفه عن الكتابة، وقوله المر: "الكتابة ليست عملاً شاقاً لكنها كابوس". ولقد تلقيتُ الكثير من الردود على المقال، سواء على صفحتي في "تويتر"، أو بالاتصال المباشر من بعض الزملاء. وكان السؤالان المحوريان هما: هل هناك عمر محدد للكتابة؟ وكيف يمكن أن يستشعر الكاتب أنه ما عاد يعطي جديداً إبداعياً على مستوى الشكل والمضمون، وأنه يجب عليه التوقف احتراماً لفكره وقلمه، وتاريخه الطويل عند القارئ؟

حقيقة لا أمتلك رداً شافياً على السؤالين، فليس هناك من معادلة واضحة لعمر الكتابة. فحالة كل كاتب تُعتبر كوناً قائماً بذاته، لا يشبه إلا نفسه. فهناك كتّاب يبقى مجدهم مقترناً بعملهم الأول، ويبقى هذا العمل كابوساً يلاحقهم طوال حياتهم الإبداعية، خاصة تلك الأعمال التي تحظى بجوائز. لكن، ومن واقع اطلاعي وخبرتي، فإنه يمكنني القول بأن نتاج مجموعة ليست بالقليلة من أشهر كتّاب العالم يشير إلى أنهم كتبوا أهم أعمالهم أثناء فترة شبابهم الكتابي. وأعني بذلك أن أهم الأعمال يأتي في المرحلة الوسطى، بين البدايات وآخر الأعمال. فواقع حياة الإنسان يقول بشكل واضح إن الإنسان في مرحلة شبابه أكثر ما يكون حماساً واندفاعاً حيث الأحلام تبدو مغرية كأجمل ما يكون، ويبدو الإمساك بها ممكناً كأوضح ما يكون. ولذا يجتهد الكاتب الشاب، بشكل إرادي ولا إرادي، لترجمة هذه المشاعر للوصول إلى الأحلام، وتجاوز كل الصعاب والعقبات التي تقف بطريقه. كما أنه في غمرة اندفاعه لا يلتفت لعنصر العمر، بمعنى أنه يرى خوض المغامرة وكأنه خوض لنهر الحياة. لكن في مرحلة لاحقة، وبعد أن تنشب أنياب الواقع القاسية والجارحة مخالبها في لحم تجارب حياته، وبعد أن تدمي قلبه، يهدأ قليلاً، ويدخل ما يشبه التساؤل أو حتى الانكسار في أعماله. فتظهر أعماله أكثر احتراماً لقوانين الواقع. لكن في مراحله المتأخرة، يبدو وكأنه ينطق بحكمة الحياة، حتى لو كتب على ألسنة أبطالٍ شباب، فهو يحركهم من خلفية تجاربه، وبما يجعل حركتهم انعكاساً لحركة الإنسان في سيره على درب الحياة الصعب والمترب، واندفاعه المحموم وغير المدروس لنيل مراده. وكأن الكاتب يطمح إلى ترجمة وعرض ما مرَّ به من تجارب ووعي وانكسار وانتصار للحقيقة. لذا فليس هناك عمر محدد للكتابة. فقد يكتب كاتب عملاً مبدعاً في بداية حياته، ويكتب آخر أجمل أعماله في مرحلة متقدمة من عمره.

أما فيما يخص السؤال الثاني: كيف يمكن أن يستشعر الكاتب أنه ما عاد يعطي جديداً؟ وأنه يجب عليه التوقف احتراماً لفكره وقلمه، وتاريخه الطويل عند القارئ. فهذا شأنٌ صعب جداً لسببين؛ الأول هو أن الكاتب بعد أن عاشر الكتابة في مختلف مراحل عمره، وأصبحت هي حياته وأنفاسه التي يحيا بها، يصعب عليه جداً أن يبتعد عنها، وأن يعيش حياة جديدة لا يعرفها ولا اعتادها. فماذا يفعل إنسان اعتاد طوال عمره الكتابةَ ولا شيء غيرها؟ أما السبب الثاني فهو أن قراء ومحبي الكاتب يقفون في منطقة الحرج، فمنْ تراه يكون قاسياً ويصارحه بقوله: "أنتَ كبرت، وما عدت قادراً على تقديم أعمال جيدة؟" ومنْ يجرؤ على الدنو منه ومصارحته: "لتترك الكتابة لغيرك من أجيال الشباب، فما تكتبه بالرغم من خبرتك ما عاد يجاري رتم اللحظة الراهنة!".

البعض يشبّه مصارحة الكاتب بتقدمه في العمر وعجزه عن الكتابة وكأنه إطلاق رصاصة الرحمة عليه. فهذه الرصاصة بالرغم من الهدف النبيل من ورائها تبقى رصاصة مؤلمة وقاسية جداً.

back to top