«الحلم والأوباش»

نشر في 21-05-2018
آخر تحديث 21-05-2018 | 00:00
 فوزية شويش السالم "الحلم والأوباش" رواية للكاتب الصيني مو يان، الحائز جائزة نوبل للآداب 2012. كتابة مو يان تتداخل فيها حياة الأموات والأحياء، والماضي والحاضر بشكل حلميّ غامض متناقض، ليس من السهل تفكيكه، يتمازج الماضي المندثر مع الواقع الحي بواقعية سحرية غرائبية، تضع القارئ بوسط متاهة الغياب والتساؤل. تصدمه الحقائق المنزلقة بشكل مفاجئ ما بين الحقيقة والحلم. ورغم سهولة لغة السرد وبساطتها فإن متاهاتها مخفية في بطانتها، لذا فإن قراءة أعمال مو يان تتطلب وعياً وانتباهاً من قارئها، لأنها تستدرجه للوقوع في فك ألغاز أحلامه.

الجميل والجيد في الكتابات الصينية واليابانية والكورية والهندية، وكل الكتابات الآتية من الشرق الأقصى، أنها تغرف من تراثها القديم وفلسفتها الخاصة بعقائد قومياتها وتقاليدهم ومعتقداتهم الدينية، الآتية من الكونفوشية والبوذية والطاوية، مما كشف للعالم وقدم له ثقافة عميقة ثرية مختلفة تمام الاختلاف عنه.

الكتابات الآتية من الصين أغلبها تعود للغوص والبحث عن الجذور، كأنها تخاف أو تشتاق وتحن لماضيها الذي كان، والذي يتهدده المحو التام الممثل بوحش العولمة الآكل الأخضر واليابس، ولن يوجد أثر لهذا الماضي وشكل وتراث وحكايات هذا العالم المندثر إلا بين ضفاف صفحات روايات كتبها كُتاب، ربما لن يتبقى منهم إلا تراب عظامهم.

كل ما قرأته من الروايات اليابانية والصينية، بشكل خاص، أغلبها يحكي وينقل تفاصيل عوالم في طريقها للانقراض، والكتاب يسجلون ذاكرتهم ووعيهم بماضيهم، وما يرونه من تغيرات تقرض وتأكل ما عرفوه وعاشوه فيها، لهذه العوالم الأسطورية الموشكة على نهاياتها، ولن يتبقى منها إلا ماض غرائبي أسطوري بوسط عالم يرتدي يونيفورم عولمة حداثية مستنسخة.

"الحلم والأوباش" تحكي عن عائلة الصبي شوكن، الذي يحلم بأحلام قابلة للتحقق، يعيش مع أبيه وأمه وجده وجدته في حياة ريفية بسيطة في خمسينيات القرن الماضي، عندما كانت الأرياف بعيدة عن التعليم والحياة المدنية، ويأتيهم المبشر موريا، المسؤول عن المدرسة الجديدة، ليسجل ابنهم فيها، المدرسة تُغلق بعد موت المدرس المسلول الوحيد فيها، يتزوج موريا من امرأة مخلطة الدماء، ثم بعد سنتين يموت موريا، وكذلك تموت زوجته من بعده بفترة وجيزة، وهي تلد ابنتها التي ستتولى رعايتها عائلة الصبي شوكن، وتصبح الطفلة صديقة له، ثم تفتح المدرسة أبوابها من جديد، ويعاود الدراسة فيها الصبي والبنت، وعندما حلت المجاعة العظيمة بالصين، وهلك على أثرها الملايين، قررت البنت أن تذهب للعمل بدلا من أمها، التي ضُبطت مسروقات حبوب الصويا معها، وابتكرت البنت طريقة بابتلاع الحبوب ثم تستفرغها عند عودتها إلى البيت، وتقوم الأم بغسلها ثم بطبخها لهم، تصبح معدة الفتاة من كثرة ترجيع الحبوب متسعة يندلق منها الطعام، وعندما يقرر شوكن أن يتزوجها، يعود إلى المنزل ليجد جثتها المسجاة منفوخة بعد انتشالها من النهر.

الرواية قد يبدو ملخصها في منتهى السهولة والبساطة، لكنها في الواقع عميقة وصعب تبين ملامحها ومداركها، باختلاط الأموات بالأحياء فيها، بشكل مموه يصعب إدراكه، إذ لم يركز القارئ كامل انتباهه في القراءة.

وهذا مقتطف منها: "إذا كان والدك لا يعمل مراقب أغذية، فمن أين لك بفطائر من هذا النوع؟

فقلت له ولهم: أختي تعمل في مطحنة القرية، ولشدة ذكائها، ابتكرت طريقة يصعب على الجن إتيانها في سرقة الحبوب، طريقة مختلفة عما اعتادته العاملات هناك من إخفاء الحبوب في الجيوب أو أعناق الجوارب، وهو ما لا يفلت من رقابة العين الساهرة، فكانت أختي تقصد مكاناً معتماً قبيل انتهاء نوبة عملها، فتلتهم في معدتها كمية معتبرة من الحبوب، ثم تمضي في طريق العودة، تتبختر كطاووس، وإذ تدخل البيت تسرع إلى إناء مليء بمياه نقية، وتلتقط عصا الطعام الخشبية الرفيعة، فتضعها في جوفها لتهيج المعدة، وسرعان ما تلفظ حمولتها، وكانت الكمية الملفوظة تتفاوت في النوع والكم، حسب طاقة الابتلاع والمصادفة الطيبة، فمرة تكون هناك بازلاء، أو ربما بعض القمح أو الذرة، الكمية الملفوظة تمر بعملية شطف جيدة، ثم تسحق في هاون الثوم، تمهيدا لخلطها بالخضار وطبخها في نهاية الأمر".

ما يلفت النظر في الرواية هو بساطتها الشديدة وتعقيدها معا، منتهى التناقض ما بين السهولة والتعقيد، لكنها في الحالتين تحمل مشاهد في غاية التوهج الإنساني، الذي يميز شكل كتابة مو يان.

back to top