الإعلام... ومعضلة الموضوعية

نشر في 06-05-2018
آخر تحديث 06-05-2018 | 00:07
 ياسر عبد العزيز بات الجمهور العربي المنشغل بمتابعة التطورات السياسية في المنطقة منهكاً ومرتاباً، في ظل هذا التضارب والتدافع الإعلامي غير المسبوق، والذي بسببه تخفق القطاعات الغالبة في هذا الجمهور في معرفة الحقائق، وتحليلها، وتكوين الرأي، واتخاذ القرار.

ثمة أسباب عديدة تضافرت لتخلق هذا الوضع؛ بعضها يتعلق بملكية وسائل الإعلام، التي بات معظمها في أيدي الحكومات أو رجال الأعمال المؤيدين لها، وبعضها الآخر يتعلق بتراجع الالتزام المهني، وغياب الموضوعية في تناول القضايا والموضوعات ذات الاهتمام.

هل كانت وسائل الإعلام العربية موضوعية في طريقة تغطيتها للأحداث المثيرة التي شهدتها بلدان العالم العربي منذ اندلعت الانتفاضات في عام 2011، أم أنها أدت أدواراً سياسية وتثويرية وتحريفية غير مهنية، وضللت الجمهور؟

يفترض السائل عادة أن الموضوعية هي إحدى آليات صناعة الإعلام التي يمكن ضمان وجودها في أي ماكينة إعلامية أو الاستغناء عنها برمتها، أو هدف محدد واضح يمكن إدراكه بالكامل أو التخلي عنه تماماً، أو سمة من سمات العمل الإعلامي التي تتحلى بها وسائل إعلام معينة، وتفتقدها تماماً وسائل إعلام أخرى.

يمتلك الكثير من المثقفين والمتابعين رؤية مغلقة لا تقبل الجدل؛ مفادها أنه "لا توجد أي وسيلة إعلام موضوعية أو محايدة على الإطلاق؛ إذ تعمل كل وسيلة على تحقيق أهداف مالكها، وحتى تلك الوسائل الغربية التي تتسيد المشهد الإعلامي العالمي، فليست إلا أدوات سياسية في أيدي مالكيها، لا تحقق الموضوعية ولا ترجوها أصلاً".

يجب ألا يطرح سؤال الموضوعية على هذا النحو، بل يجب أن يطرح بطريقة أخرى؛ مفادها: إلى أي مدى اقتربت تلك الوسيلة من الموضوعية أو ابتعدت عنها في تغطيتها لحدث ما؟

فثمة اتجاهان إزاء الموضوعية في العمل الإعلامي، أولهما يرى أن "الموضوعية خرافة، وأنه قد آن الأوان لأن يصبح القائلون بالموضوعية أكثر واقعية، وأن يعترفوا بأنها شيء لا وجود له، إلاّ في أذهانهم فقط، فإذا كانت الموضوعية تتطلب أن تكون المواد الإعلامية أمينة؛ ونزيهة؛ وناطقة بالحق، فأين هي هذه التقارير؟ فلا يوجد مراسل صحافي يعرف الحقيقة كل الحقيقة، ومن ثم فليس بمقدوره أن يكتب تقريراً يضاهي الواقع بكل أبعاده".

أما الاتجاه الثاني إزاء الموضوعية، فيرى أصحابه أنها "هدف يمكن تحقيقه، ويمكن للإعلامي أن يكون موضوعياً إذا أراد، وسعى من أجل ذلك، وهو وإن لم يصل إلى الشكل الدقيق للموضوعية، الذي يتحدث عنه أصحاب الاتجاه الأول، فإنه يستطيع الوصول إلى درجة من الموضوعية، تثبت أن الموضوعية مفهوم ذو معنى، وليست خرافة على الإطلاق".

والسؤال الأساسي، الذي يطرحه أصحاب هذا الاتجاه المؤيد لإمكانية العمل من أجل تحقيق الموضوعية هو: ما موقف المراسل، تجاه تقريره الإخباري، وتجاه جمهوره؟ هل يريد أن يكون محايداً؟ هل يسعى إلى تفادي الانحيازات والتزام التوازن والإنصاف؟ فالموضوعية، يمكن أن تكون مفهوماً واقعياً، في وسائل الإعلام، على الرغم من كل العقبات التي تعترضها.

تبقى الموضوعية هدفاً صعب التحقيق في العمل الإعلامي، لأنها تستلزم توافر عدد من الآليات؛ مثل: الإحاطة الكافية واللازمة بالموضوع، ومراعاة الدقة إلى أقصى درجة ممكنة، وتحقيق الإنصاف والحياد والتوازن.

وتستلزم الموضوعية كذلك وضوح الرسالة، حتى في أوقات الخطر، وشمولية المعالجة، وعدم إهمال السياق، وإسناد الآراء والمعلومات لمصدر موثوق؛ وذا صلة، والعمل لمصلحة الحقيقة، وليس لأي جهة أو اعتبار آخر.

وتقبل الموضوعية عدم القدرة على إقصاء الأيديولوجيا في بعض الأحيان، لكنها تلزم بضرورة الإحاطة برأي الطرف الآخر على الدوام، وتنادي بعدم الاقتصار على نقل آراء الأطراف المنخرطة في القصة، ولكن كذلك آراء هؤلاء الذين يملكون رأياً فيما يحدث.

وبذلك تصبح الموضوعية في العمل الإعلامي "نوعاً من المعالجة المهنية والثقافية والأخلاقية للمادة الإعلامية، بحيث تتوافر فيها أبعاد الموضوع كلها، والاتجاهات المطروحة حياله، بطريقة متوازنة، تستند إلى حجج منطقية، وتتميز بالدقة، والإنصاف في العرض. وتفصل الآراء عن العناصر الخبرية، وتنسبها بوضوح وصراحة إلى أصحابها، وتتجرد من الأهواء والمصالح الخاصة، وذلك في إطار من التعمق والشمولية، يراعي السياق، وعلاقة الخاص بالعام، وربط الجزء بالكل، شرط أن تعكس المادة الإعلامية أولويات الاهتمام عند الجمهور".

يضع التعريف السابق معظم وسائل الإعلام العربية التي انخرطت في تغطية التطورات السياسية التي وقعت في السنوات الثماني الأخيرة في بلداننا في موقف صعب للغاية، خصوصاً أنها تحولت في معظمها إلى وسائل تتبنى التعتيم والإنكار، أو التهوين والتقليل، أو الكذب والتضليل، أو المبالغة والتثوير والتأجيج، كما بات أغلبها جزءاً من مواقف الأطراف وإحدى أدوات الدعاية بل صنع السياسة.

لا يبدو أن ثمة وسيلة إعلامية استطاعت أن تتصدى لتغطية التطورات السياسية العربية التي جرت في السنوات الثماني الفائتة على النحو الأمثل فيما يتعلق باستيفاء متطلبات الموضوعية وآلياتها، لكن هناك بعض وسائل الإعلام العربية وغير العربية التي استطاعت أن تقترب بتغطيتها من هذا المفهوم، وأن تستوفي بعض تلك الآليات.

تظل المنافسة بين وسائل الإعلام ذات التركيز التحريري السياسي متعلقة باتساع التغطية وتواترها وعمقها من جهة، وبدقتها وحيادها وموضوعيتها من جهة أخرى؛ لذلك فإن الجمهور العربي الذكي لم يكن ليقبل بتسليم نفسه لوسيلة واحدة من الوسائل مهما امتلكت من المهارة والقدرة ليتزود من خلالها بالأخبار والتحليلات عن التطورات الحادة التي تقع في بلد تلو الآخر، بل عمل على "موازنة" انحيازات بعض القنوات عبر مشاهدة انحيازات قنوات أخرى. وإلى أن نمتلك وسيلة إعلام عربية قادرة على استيفاء القدر الأكبر من آليات الموضوعية، سنبقى مضطرين للتنقل بين عدد من الانحيازات الإعلامية للوصول إلى تقييم أكثر موضوعية لما يحدث حولنا، أو اللجوء لبديل أجنبي ناطق بالعربية، ولا يزال أكثر قدرة من وسائلنا على الاقتراب من مفهومي الموضوعية والحياد.

الموضوعية ليست خرافة، لكنها هدف يستحق أن نسعى من أجل تحقيقه، ولا يعني إخفاقنا في ذلك أن نغرق في الانحيازات.

* كاتب مصري

back to top