جدل في ... «الصلب والترائب» (1-2)

كيف تناول سيد قطب في "تفسير الظلال" الآيات ذات الصلة بالعلوم الطبيعية المختلفة والآيات الجغرافية والكونية، وبخاصة أنه لم يكن مندفعاً باتجاه "الإعجاز العلمي" في تفسير القرآن الكريم؟

تساءل د. فضل حسن عباس "أحد أبرز علماء السنّة في الأردن وأحد العلماء المعدودين في علوم التفسير"، (1932-2011)، كما تقول موسوعة الويكيبيديا: "ترى في أي اتجاه سيسير "صاحب الظلال" وهو يتحدث عن الإشارات الكونية في القرآن؟ أيسير مع هؤلاء الذين يرقصون طرباً، ويفرحون جذلاً، حينما يستشفون من قرب أو بعد اتفاق قضية علمية مع آية من كتاب الله، ولو كانت نظرية لا تزال، ليثبتوا أن القرآن كتاب الله، ومن هنا جاء يقرر تلك المسائل العلمية قبل أزمنة بعيدة، أم مع أولئك الذين يرفضون كل الرفض، ويأبون كل الإباء أن تفسر آي القرآن بشيء من مسائل العلم، ولو كانت حقائق ثابتة، ولا يسمحون بأن يستشهد بآية من كتاب الله على مسألة ما، ولو كان ذلك دون المساس بالتفسير، بحجة أن القرآن لم يأت بشيء من هذا؟!".

(المفسرون مدارسهم ومناهجهم، دار النفائس، عمان، 2007، ص370).

غير أن سيد قطب أورد في "الظلال" الكثير من الاستشهادات العلمية تعزيزاً لوجهة نظره في تفسير بعض الآيات، وبخاصة في القضايا الكونية وخواص المواد الطبيعية والجمل والولادة وغير ذلك.

ويعرض د. صلاح الخالدي قائمة بالكتب العلمية التي استعان بها مفسر الظلال، فيقول د. الخالدي: "وأهم الكتب العلمية التي استقى منها مادته العلمية هي:

1- الله يتجلى في عصر العلم: وهو كتاب ألفه نخبة من العلماء الأميركيين في شتى التخصصات العلمية، وترجمة للعربية الدكتور الدمرداش في عبدالمجيد سرحان.

2- العلم يدعو للإيمان: كتاب ألفه كريسي موريسون بعنوان (الإنسان لا يقوم وحده) رداً على كتاب لجوليان هاكسلي من الداروينية الحديثة بعنوان (الإنسان يقوم وحده)- وقد ترجمه الى العربية محمود صالح الفلكي بعنوان "العلم يدعو للإيمان".

وقد نقل من هذين الكتابين نقولات كثيرة في الظلال، وهو في هذه النقول لا ينسى أن يقف ليُعقب على بعضها- في الهامش- وليُصوب ما فيها من أفكار باطلة أو تعبيرات مرفوضة.

3- الله والعلم الحديث لعبدالرزاق نوفل، وقد رجع إليه ونقل منه كثيراً- في الطبعة الأولى من الظلال وهو يفسر الأجزاء الأخيرة من القرآن.

4- مع الله في السماء للدكتور أحمد زكي.

5- عقائد المفكرين في القرن العشرين لعباس محمود العقاد.

6- الكون الغامض للسير جيمس جينز.

7- الإنسان ذلك المجهول لألكسيس كاريل.

8- الإسلام والطب الحديث للدكتور عبدالعزيز إسماعيل".

(في ظلال القرآن: دراسة وتقويم- مدخل الى ظلال القرآن، جدة - دار المنارة، 1986، ص172)

وكلها كما يلاحظ القارئ من الكتب العلمية الشعبية المبسطة المكتوبة لعامة القراء غير المتخصصين في مجالات العلم، كما أنها تحمل في الغالب وجهة نظر قريبة وربما مطابقة للتفسيرات الدينية المسيحية والإسلامية، وكثيراً ما ترد اقتباسات منها في المنشورات والخطب المسيحية والإسلامية على حد سواء، فما كل الأميركيين مثلاً يتبنون نظرية التطور أو آراء فرويد أو التفسيرات المادية لظهور الكون، ولكن حركة النشر العلمية والأدبية في أوروبا وأميركا واسعة وتشمل كتب المؤمنين والملحدين والمتشككين والمحايدين على حد سواء، ولا غرابة في أن يختار مفسرو "الكتاب المقدس" أو "القرآن الكريم"، من الكتب والآراء العلمية ما يدعم مناهجهم في التفسير.

أما منهج صاحب "تفسير الظلال"، كما يبين د. الخالدي، فقد "أورد سيد قطب في الظلال مادة علمية استشهد بها في تفسير الآيات العلمية في القرآن، كما استعان بالعلم الحديث، وأنباء الاختراع، وآخر المكتشفات العلمية في توضيح معنى الآية، وفي توسيع مدلولها، وفي إعطائها بعداً تفسيرياً معاصراً، وتسجيل ما فيها من إعجاز علمي معاصر. وهو إيراده لهذه المادة إنما أوردها للاستشهاد فقط، ولم يربط تصديقه بمدلول الآية، وإيمانه بإيحاءاتها بهذا الاكتشاف العلمي، أو بما يقوله العلماء المعاصرون، لأنه حاشا للمؤمن أن يصدق قول الله بقول البشر!!".

ويضيف د. الخالدي أن هدف سيد قطب من إيراد هذه المادة العلمية "أن يخاطب العلماء بلغتهم، ويجعلها وسيلة للمفتونين بالعلم الحديث، وأقوال أقطابه من الغربيين، وسيلة لهم لدخول عالم القرآن الرحيب، وتلقي إيحاءاته مباشرة ولهذا يقول: "ونحب أن ننبه أننا إذ نقتطف ما نقتطف إنما نخاطب الماديين العلميين بلغتهم.. وليس هذا إقراراً منا بصحة كل ما نستشهد به، وسلامة منهجه التفكيري والتعبيري في القضية التي نعرضها...". (ص172)

إن هذه الفقرة من كلام سيد قطب، تظهر بوضوح أسلوب "الاقتطاف" و"الانتقاء" الذي يعمد إليه الإسلاميون في سائر المجالات العلمية المتعلقة بتفسير النصوص والتعليم الدينية، وتبين الفقرة كذلك حدود سلطان العلم والبحث والاكتشاف العلمي على تفكير سيد قطب وتصوراته عن معاني بعض الآيات.

فهو على الأرجح ينظر باستعلاء الى هذا المسعى الجاهلي الذي كما يقول البعض يحاول "مزاحمة" منهج الوحي! والأرجح كذلك أن التيار الديني لا يقر أساساً بصحة المنهج العلمي وحجته، رغم المليارات التي تنفق في هذا المجال.

ومن الآيات القرآنية التي يستعين المفسرون المعاصرون بالعلوم والمكتشفات الحديثة لفهمها تلك المتعلقة مثلا بتكوين الجنين في الرحم، ودور الذكر والأنثى في تشكيل هذا الكائن، فقد ورد في سورة الطارق، الآيات (5-7) من القرآن الكريم "فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ* خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ* يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ".

فما الصلب في الذكر؟ وما الترائب في الأنثي؟ وما الذي يخرج منهما فيؤدي إلى تشكيل الجنين؟ وما علاقة الصلب والترائب بما بات معروفاً اليوم، من علوم الطب والتشريح والحمل والولادة؟

فهذه العلوم تشير مثلا إلى "البويضة"، كخلية جنسية أنثوية متخصصة في النبات والحيوان، وأن مكان إنتاج هذه الخلية، أي البويضة، هو مبيض الأنثى الملاصق أو القريب من الرحم، أما الخلية التناسلية في الذكر فهي الحيوان المنوي، وتقول الموسوعة العربية إن الحيوان المنوي "خلية ذات صفات خاصة، تنشأ في الخصية، ثم تنفصل عنها وأخيراً تفارق جسم صاحبها عند الإمناء، والحيوان المنوي هو الذي يلقح الخلية التناسلية في الأنثى- أي البويضة- وبذلك تحمل الأنثى ويتكون فرد جديد".

و"الصلب" في قاموس لسان العرب من الظهر، وكل شيء من الظهر فيه فقار فذلك الصُلب، ويقال للظهر صُلب وصَلَب وصالب. وفي الحديث النبوي "إن الله خلق للجنة أهلاً، خلقها لهم، وهم في أصلاب آبائهم".

أما "الترائب" وهي موضع القلادة من الصدر، وقيل هو ما بين الترقوة إلى التندوة، وقيل الترائب عظام الصدر، وقيل ما فوق الثديين والترقوتين، وقيل الترائب اليدان والرجلان والعينان، ومفرد الترائب تريبة.

كيف فسرت المراجع القديمة هذه الآيات من سورة الطارق؟

يقول تفسير الطبري: "اختلف أهل التأويل في معنى الترائب وموضعها، فقال بعضهم: الترائب: موضع القلادة من صدر المرأة. وقد "سئل عكرمة عن الترائب، فقال: هذه، ووضع يده على صدره بين ثدييه". وقال الطبري عن ابن زيد: "الترائب الصدر، وهذا الصُلب، وأشار إلى ظهره. وقال آخرون: الترائب: ما بين المنكبين والصدر. وقال آخرون: هو اليدان والرجلان والعينان. وبعض التراث يعتبر الصلب والترائب في الرجل!

وفي الطبري: "قال آخرون في تفسير يخرج من بين الصلب والترائب، أنه يخرج من بين صُلب الرجل ونحره". ويقول: حدثني محمد بن إسحاق، هو عصارة القلب ومنه يكون الولد.

ويقول الطبري في النهاية: "الصواب في ذلك عندنا قول من قال: هو موضع القلادة من المرأة، حيث تقع عليه من صدرها، لأن ذلك هو المعروف في كلام العرب، وبه جاءت أشعارهم. فيفهم من تفسير الطبري أن "الماء" الذي يتكون منه الجنين يخرج من ظهر الرجل وعظام صدره، وربما من أطرافه".

ولا إشارة إلى الحيوان المنوي بالطبع أو بويضة المرأة، بل إن ماء الرجل، كما قد يفهم من التفسير، هو وحده الذي يشكل الجنين.

ويقدم تفسير ابن كثير تفسيراً أوضح فيقول: "وقوله تعالى "خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ" يعني المني يخرج دافقاً من الرجل ومن المرأة فيتولد منهما الولد بإذن الله عز وجل.

ولهذا قال "يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ"، يعني صُلب الرجل وترائب المرأة وهو صدرها، عن ابن عباس، صلب الرجل وترائب المرأة أصفر رقيق لا يكون الولد إلا منهما، وكذا قال سعيد بن جبير وعكرمة وقتادة والسدى وغيرهما".

هكذا فهم الأقدمون هذه الآيات وعملية التلقيح وتكون الجنين... فماذا عن فهم المسلمين المعاصرين؟