«القارئ»... القراءة ثمن الحياة!

نشر في 14-03-2018
آخر تحديث 14-03-2018 | 00:00
 طالب الرفاعي في المناهج الغربية لمادة الكتابة الإبداعية للقصة القصيرة أو الرواية، تُعطى أهمية كبيرة للسطر الأول، والفقرة الأولى، والصفحة الأولى، والصفحات التالية. فذلك السطر وتلك الصفحات هي اللقاء الأول بين القارئ والنص. ولأنها كذلك، فهي الطعم الذي سيأخذ القارئ لعوالم وأجواء الرواية، ويكون وبالاً على الكاتب إن كان ذلك اللقاء باهتاً أو متخبطاً في التقديم الصحيح للنص الروائي، فبعض القراء يرمي بالعمل بعد قراءة الصفحات الأولى والنفور منها.

إن قارئ الرواية، ومع قراءة الأسطر الأولى لرواية «القارئ»، ترجمة تامر فتحي، عن دار روافد للنشر والتوزيع، والتي نُشرت طبعتها الألمانية الأولى عام 1995، يدرك، ودون كثير من العناء، أنه أمام نص مبدع، وأنه يسير خلف كاتب مُحنَّك يعرف كيف يُشيّئ ويلوِّن أجواء عمله.

برنهارد شلينك (Bernhard Schlink)، روائي ألماني من مواليد 1944. وقد درس شلينك القانون «وأصبح قاضياً في المحكمة الدستورية في الدولة الاتحادية بشمال الراين وستفاليا عام 1988، وفي عام 1992 صار أستاذاً للقانون العام وفلسفة القانون في جامعة هومبولت في برلين».

ولأن أي نص إنما يحوي جزءا أو أجزاء من حياة كاتبه؛ تصريحاً كان ذلك أو تلميحاً، فإن رواية «القارئ»، تقول بالضرورة جزءاً من حياة وتجربة المؤلف شلينك.

كل رواية تقوم على فكرة أساسية، فكرة تُقال أو تُكتب بجملة أو بسطر أو بفقرة، لذا فإن رواية «القارئ» تقوم على فكرة أن السيدة «شميتز»، تفضِّل الإدانة والسجن على أن ينفضح أمرها بأنها امرأة جاهلة لا تعرف القراءة والكتابة، وإن كانت الفكرة قد تبدو للوهلة الأولى صعبة التحقق على أرض الواقع. فحين يُدان إنسان بمحاكمة كبيرة، ويرى بشكل واضح أنه سيُساق إلى السجن المؤبد، فقلة قليلة، إن لم نقل نادرة، تلك التي تفضِّل الإبقاء على حفظ سرها، والتضحية بعيش حياتها، على أن تقول صراحة الجملة التي ستنقذ حياتها: إنني امرأة أجهل القراءة والكتابة.

الروائي يختار نموذجاً بشرياً نسائياً مختلفاً، نموذجاً يُفتّح عين القارئ على سلوك إنساني يستحق التوقف عنده، فهل الجهل بالقراءة والكتابة فضيحة تعادل التضحية بالحياة؟

رواية «القارئ» في أجزائها الأولى تقدم علاقة حميمة بين امرأة وشاب مراهق، وواضح من الأسطر الأولى النَفَس الكلاسيكي للمؤلف، إن على مستوى حضور المكان، أو على مستوى التمكن من صنعة الكتابة، وأخيراً على مستوى ضمير المتكلم. فالشاب المراهق يرى الأمور من زاويته الخاصة، وهي زاوية بقدر ما تحمل له اكتشاف ما يحيط به من حياة، فإنها تأخذه ليكتشف سر متعة الجسد، وعلى يد امرأة خبرت الحياة، لذا تعامله بكلمة: «يا ولد». مع ملاحظة أن النص يأتي في زمن لاحق لزمن الحكاية، ودون تحديد الفترة الزمنية التي تفصل بين زمن القص وزمن الحكاية، والتي لا تتضح إلا في الصفحات الأخيرة للرواية.

الرواية مضفورة بشكل آسر، فهي وبقدر ما تقدم كشفاً لعلاقة الشاب بالمرأة، فإنها تقدم كشفاً لشاب يتلمس معرفة الحياة، وليس بأقدر من امرأة على الإمساك بيد شاب لتأخذه لدرب الحياة عبر لذة الجسد، لذا يصل الأمر به إلى حد القول: «شعرتُ كما لو أننا نقول وداعاً. كنتُ لا أزال موجوداً، لكني رحلت بالفعل. كنتُ أحنُ لأمي وأبي وأختي وأخي، وأشتاق للمرأة». وهنا ما يستحق الوقوف عنده، فهل حين يكتشف الشاب/الرجل متعة جسده ووصله بالمرأة، هل يكفي ذلك لأنه يأخذه من كل ما حوله وحتى أسرته؟

الرواية تعيش مراحل تطول العلاقة بين المرأة بالشاب، مروراً بكل منعطفاتها. لكن اللافت للنظر أن الشاب يبقى مسكونا بهذه العلاقة ومتتبعاً لأخبار السيدة التي فتَّحت عينيه على متعة الحياة، ليعيش لاحقاً وهو طالب المحاماة مرار محاكمة امرأته الأحب، ويبقى واقفاً بمشاعره وقلبه إلى جانبها، وحتى وداعها المؤلم للحياة.

رواية «القارئ»، رحلة في أعماق النفس الإنسانية في علاقة الرجل بالمرأة، وفي علاقة المرأة بالحياة، وفي تكلفة الصدق مع النفس الباهظة جداً.

back to top