دونالد ترامب وإضعاف القوة الأميركية الناعمة

نشر في 14-02-2018
آخر تحديث 14-02-2018 | 00:07
تكمن أقوى مصادر القوة الناعمة الأميركية في انفتاح عملياتها الديمقراطية، وحتى عندما تخفض السياسات غير الصحيحة من جاذبيتها، فإن قدرة أميركا على انتقاد نفسها وتصحيح أخطائها تجعلها جذابة للبلدان الأخرى على مستوى أعمق.
 بروجيكت سنديكيت إن الأدلة واضحة للغاية، فقد أدت رئاسة دونالد ترامب إلى إضعاف قوة أميركا الناعمة، وأشار استطلاع أجرته مؤسسة غالوب مؤخرا في 134 بلدا إلى أن 30 في المئة فقط من المستجيبين لهم موقف إيجابي تجاه الولايات المتحدة تحت قيادة ترامب، وهو انخفاض بنحو 20 نقطة مئوية منذ رئاسة باراك أوباما.

وأشار مركز بيو للأبحاث إلى أن الصين- بدعم من 30 في المئة- وصلت تقريبا إلى التكافؤ مع الولايات المتحدة، وفي المؤشر البريطاني "سوفت باور 30" (القوة الناعمة 30)، تراجعت أميركا من المركز الأول في عام 2016 إلى المركز الثالث في العام الماضي.

وقال المدافعون عن ترامب إن القوة الناعمة غير مهمة، وأعلن ميك مولفاني مدير مكتب الميزانية في البيت الأبيض "ميزانية القوة الصلبة"، حيث خفض تمويل وزارة الخارجية والوكالة الأميركية للتنمية الدولية بنسبة 30 في المئة، وبالنسبة إلى أولئك الذين يتصرفون تحت شعار "أميركا أولا"، كل ما يفكر فيه بقية العالم هو ذو أهمية ثانوية. هل هم على حق؟

تقوم القوة الناعمة على الجاذبية لا على الإكراه (العصي) أو المال (الجزر)، فهي تحتضن الناس بدلا من إجبارهم، وعلى المستوى الشخصي يدرك الآباء الحكماء أن قوتهم ستكون أكبر وستستمر لفترة أطول إذا كانوا يمثلون القيم الأخلاقية السليمة لأطفالهم، ولن يعتمدوا فقط على الضرب أو العقوبات أو التهديد بأخذ مفاتيح السيارة.

وقد فهم القادة السياسيون منذ زمن طويل فوائد السلطة الناشئة عن القدرة على تحديد جدول الأعمال أو إطار النقاش، وإذا كنت قادرا على جذب الآخرين للحصول على ما تريد فلن تكون مضطرا لإجبارهم على القيام بشيء يرفضونه، وإذا كانت الولايات المتحدة تمثل القيم التي يريد الآخرون اتباعها، يمكنك الاقتصاد في العصي والجزر، إضافة إلى القوة الصلبة، يمكن أن تكون الجاذبية قوة مضاعفة.

وإن القوة الناعمة لأي دولة تنشأ من ثلاثة مصادر: "ثقافتها (في الأماكن التي هي جذابة للآخرين)، ومن قيمها السياسية (عندما ترقى إلى مستوى من هم في الداخل والخارج)، ومن سياستها الخارجية (حين تكون لديها مشروعية وسلطة أخلاقية مع بعض التواضع والوعي بمصالح الآخرين)، فالطريقة التي تتصرف بها الحكومة داخل البلاد (على سبيل المثال، حماية الصحافة الحرة)، وفي المؤسسات الدولية (التشاور مع الآخرين والتعددية)، وفي السياسة الخارجية (تعزيز التنمية وحقوق الإنسان) يمكن أن تؤثر على بلدان أخرى، وفي كل هذه المجالات عكس ترامب جاذبية السياسات الأميركية.

ولحسن الحظ أميركا أكبر من ترامب أو حكومته، وخلافا لأصول القوة الصلبة (مثل القوات المسلحة)، فإن العديد من موارد الطاقة الناعمة منفصلة عن الحكومة ولا تتفاعل إلا جزئيا مع الأهداف التي حددتها، وفي مجتمع ليبرالي لا تستطيع الحكومة السيطرة على الثقافة، والواقع أن عدم وجود سياسة ثقافية رسمية يمكن أن يكون في حد ذاته مصدرا للجاذبية، كما أن أفلام هوليوود مثل "ذي بوست"، التي تعرض النساء المستقلات وحرية الصحافة، قادرة على جذب الآخرين، وكذلك الأعمال الخيرية للمؤسسات الأميركية أو فوائد حرية البحث في الجامعات الأميركية.

والواقع أن الشركات والجامعات والمؤسسات والكنائس وغيرها من المنظمات غير الحكومية تخلق قوتها الناعمة الخاصة التي يمكن أن تدعم أو تتعارض مع أهداف السياسة الخارجية الرسمية، ومن المرجح أن تصبح كل هذه المصادر الخاصة للقوة الناعمة ذات أهمية متزايدة في عصر المعلومات العالمي، وهكذا فإن الحكومات لديها أسباب أكثر للتأكد من أن إجراءاتها وقراراتها تهدف إلى بناء وتعزيز قوتها الناعمة، بدلا من إضعافها أو تبديدها عبثا.

فالسياسات الداخلية أو الخارجية الزائفة والمتكبرة وغير المبالية بآراء الآخرين، أو المبنية على مفهوم ضيق للمصالح الوطنية، يمكن أن تقوض القوة الناعمة، فعلى سبيل المثال كان الانخفاض الحاد في جاذبية الولايات المتحدة في استطلاعات الرأي التي أجريت بعد غزو العراق في عام 2003 هو نتيجة رد الفعل على إدارة بوش وسياساتها لا على الولايات المتحدة عموما.

ولم تكن حرب العراق أول تدبير للسياسات الحكومية، مما قلل من شعبية الولايات المتحدة، وفي السبعينيات احتج الكثير من الناس في جميع أنحاء العالم ضد الحرب الأميركية في فيتنام، وعكس موقف أميركا في العالم عدم شعبية هذه السياسة، ومع تغير هذه السياسة وتلاشي ذكريات الحرب استعادت الولايات المتحدة جزءا كبيرا من القوة الناعمة المفقودة سابقا، وبالمثل في أعقاب حرب العراق تمكنت الولايات المتحدة من استعادة قوتها الناعمة في معظم مناطق العالم (وإن كانت بدرجة أقل في الشرق الأوسط).

ومع ذلك يقول المتشككون إن صعود القوة الناعمة الأميركية وهبوطها لا يهم كثيرا، لأن الدول تتعاون مع بعضها من أجل مصالح ذاتية، ولكن هذه الحجة تتجاهل نقطة مهمة: التعاون هو مسألة درجة، ويتم تحديد هذه الدرجة من مستوى الجاذبية أو الرفض، وعلاوة على ذلك فإن آثار القوة الناعمة للبلاد تمتد لتشمل الجهات الفاعلة غير الحكومية، على سبيل المثال، عن طريق تشجيع أو إعاقة تجنيد المنظمات الإرهابية، وفي عصر المعلومات لا يعتمد النجاح على أي جيش سينتصر فحسب، بل أيضا على من ستفوز قصته. وتكمن واحدة من أقوى مصادر القوة الناعمة الأميركية في انفتاح عملياتها الديمقراطية، وحتى عندما تخفض السياسات غير الصحيحة من جاذبيتها، فإن قدرة أميركا على انتقاد نفسها وتصحيح أخطائها تجعلها جذابة للبلدان الأخرى على مستوى أعمق، فعندما كان المحتجون في الخارج يتظاهرون ضد حرب فيتنام كانوا غالبا ما يرددون أغنية "ستكون لنا الغلبة" وهو نشيد حركة الحقوق المدنية الأميركية. ولا شك أن أميركا ستتغلب على هذا الوضع، ونظرا إلى التجارب السابقة فإن هناك أملا في أن تستعيد الولايات المتحدة قوتها الناعمة بعد ترامب.

* جوزيف س. ناي

* أستاذ في جامعة هارفارد ومؤلف كتاب "مستقبل السلطة".

«بروجكت سنديكيت، 2018»

بالاتفاق مع «الجريدة»

القوة الناعمة تقوم على الجاذبية لا على الإكراه أو المال فهي تحتضن الناس بدلاً من إجبارهم
back to top