في تجويف رأسك

نشر في 28-12-2017
آخر تحديث 28-12-2017 | 00:19
 حسن العيسى لا تنظر إلى الأمام، حدق للخلف، حدق من قعر مقلتي عينيك حتى نهاية تجويف رأسك، حدق وتوقف فهذا هو الكون اللامتناهي متمدد بكل أبعاده بين هاتين النقطتين، كل التاريخ كل الأشخاص كل الأشياء، كل المكان والزمان يتربعون في تجويف رأسك، تغمض عينيك أو تفتحهما لن تختلف الحكاية. كل أمر حدث هو في مكانه الصحيح أو غير الصحيح، لا فرق بين الاثنين، أقارب أصدقاء ومعارف، الذين ماتوا مازالوا جالسين في هذا التجويف يضحكون وتضحك معهم، الموت لم يطرق أبوابهم، لا تراهم فقط في الأحلام حين يغيب الزمن، تراهم الآن في تجويف رأسك... والآن ينقضي ويعود ماضياً، هم كانوا فيه أحياء، خسارة لابد منها... لا تستعجل الأمور، ستلحق بهم، لكنك لن تعرف أنك معهم بدون تجويف رأسك، الذي لن يكون تجويفاً خاصاً بك، وإنما سيكون تجويف رأس شخص آخر، إن كان سيذكرك ويذكرهم معك، بالمناسبة، إن كان يكترث بك وبهم.

ما بين قعر عينيك وآخر نقطة في جمجمة رأسك هو مكان مسرح حي هو دار سينما، بروجيكتر السينما يعود يكرر بكرة العرض على شاشة الذكريات مرة تلو الأخرى، تشاهد لقطات جميلة، لقطات حب وشوق ولوعة فراق مؤلمة وتستبد بك أشواق الفيلم... وتحدث نفسك: آآآخ... لو أقفز حاجز الزمن، لو أقفز "خلفا در" ما قبل عشرين، ثلاثين... لا أكثر "أربعين" سنة، قبل الزواج، قبل الأطفال والأنجال، قبل أن أكون هرماً، وقبل أن يهرم وطنك وينقلب مكانك، لو تركوا ذلك "المكان" على حاله يتكثف به الزمن، نزوره حقيقة وليس بدار سينما جوف رأسك... سنشعر فيه بدفء الماضي، بجمال الأمس ولو لم يكن جميلاً إلا أنه أجمل من اليوم... لم يكن هناك تويتر ولا واتساب يرميان بك في السجن في لحظة سرحان كتابية، ولم تكن هناك صدور ضيقة تختنق لكلمة وكلمتين... لو يمكن القفز فوق حاجز الضوء... ونعود للحظات عشق قديم... بريء... أبداً... لم يكن بريئاً كان جمراً من الرغبات المحرمة... لكن الصياغ الكتابي برياء العفة الشرقية يملي أن نكتب عن براءة العشق لتلك الأيام.

لنعد "إليهم" قلبوا المكان وعبثوا بالزمان... ظنوا أنهم يخلقون حضارة من الأسمنت والزفت والسيارات، فشيدوا خراباً من الشكل والزخارف البشعة وبنوا عمارات عالية من البعد والتغريب... لا لوم عليهم... لم يكن في جوف رؤوسهم شاشة عرض تعرض فيلماً وثائقياً تعليمياً عن الحضارة والتقدم الحقيقيين... فتاهوا وسقطنا في خواء اليوم.

في جوف رأسك أحلام وأوهام كلها تقول "لو ولو ولو" من دون نهاية... لو لم يحدث ذاك... لما حدث هذا... وتمر داخل جوف رأسك لقطة سريعة لسؤال قدري: ماذا لو ولدت في الدنمارك أو في أي من دول الشمال السعيدة بحاضرها؟! كيف يمكن أن تكون لحظة الآن في دول ليس بها أنظمة ولا جماعات تتدخل وتحشر نفسها في جوف رأسك وتملأ وجدانك وكونك بالحظر والقمع والممنوع؟! وتصادر كل خلية بجوف هذا الرأس لتعيد تشكيلها كما تريد، وكما تملي عليها أوهامها... لكن تعود "لو" لتسأل ماذا لو ولدت في اليمن أو الصومال أو جنوب السودان أو أي مكان بائس...؟! لتقنع نفسك، آخر الأمر، بصدفة الحظ السعيد بأن جوف رأسك وجد في مكان وزمان تدرس في مدارسه الإلزامية مادة وحيدة عنوانها "احمدوا ربكم لا ينقصكم شيء"... ليقذف بك من جديد لكون دون نهاية يقبع في جوف رأسك يتمدد للماضي وأحلامه، فلا يوجد فيه زمن يمضي ونتحدث فيه مع الأموات، ويقولون لنا لا تصدقوا أننا متنا... نحن مختبئون لا أكثر... مختبئون في جوف رؤوسكم ما بين قعر عيونكم وآخر نقطة خلف جماجمكم... فناموا... الليل أجمل من النهار صدقونا.

back to top