قصة برج... في إيران!

نشر في 21-12-2017
آخر تحديث 21-12-2017 | 00:10
في قلب ميدان مدينتنا برج بُني من طين وآجر، لا يعرف له على وجه الدقة أصل ونسب، أو الهدف من بنائه، لكنه كان عنواناً ومعلماً يستدل به أهل المدينة والغرباء والوافدون الجدد، وهكذا أصبح البرج جزءاً لا يتجزأ من هوية المدينة.
 خليل علي حيدر للأديب الإيراني "خسرو شاهاني" (1929-2002) مجموعة قصصية عنوانها "وحشت آباد" صادرة في طهران عام 1969، قبل نصف قرن تقريباً.

من بين هذه القصص اختار المترجم د. "عبدالوهاب علوب" قصة عنوانها "البرج التاريخي"، ضمن كتاب أو دراسة د. علوب "حكايات إيرانية"، القاهرة 2003، نرويها باختصار وتصرف.

يقول "خسرو شاهاني"، راوياً حكاية هذا البرج: في قلب ميدان مدينتنا برج، بُني من طين وآجر، لا يعرف له على وجه الدقة أصل ونسب، أو الهدف من بنائه، كان ارتفاعه يبلغ 25 أو 26 متراً تقريباً، وكانت الثقوب بالأجزاء العليا تظهر أنه كان يستخدم في سالف الزمان لأغراض دفاعية ضد من يهاجم القرية التي تحولت اليوم إلى مدينة.

عندما كان يدب النزاع بين اثنين ويتشاتمان يستخدمان برجا وسط المدينة في سبابهما الفاحش، وكان الناس يستشهدون به في خلافاتهم المالية وغير المالية، وفي أدناه كان ثمة باب يدخله المحاربون ليقاتلوا الأعداء، أما في زماننا هذا فصار الثقب يستغل كمدخل لدورة مياه عمومية، وفي الربيع كان برج مدينتنا بمثابة مأوى للعصافير والحمام.

وكان البرج عنواناً ومعلماً يستدل به أهل المدينة والغرباء والوافدون الجدد، وهكذا أصبح البرج جزءاً لا يتجزأ من هوية المدينة.

في عصر ذات يوم رأينا رجلا على وجهه نظارة وله لحية بصحبة آخرين لهم شعر أشقر يرتدون سراويل قصيرة وينتعلون أحذية عسكرية، وكان من الواضح أنهم أجانب، وكان الخبراء الأجانب يتأملون البرج، بل أدخل الرجل البدين رأسه في الثقب السفلي الذي سبق أن ذكرنا أنه كان باباً لمرحاض عمومي، ثم أخرج رأسه ووضع منديلاً على أنفه، ثم قال شيئاً لرفاقه كأنه ينبههم لشيء. ثم وضعوا القائم والحمالة على الأرض وبدؤوا بتصوير البرج وقياسه وغير ذلك.

حين بلغ الخبر الأهالي بأن عدداً من الأجانب وكبار المسؤولين جاؤوا لرؤية البرج، هرعوا إلى وسط المدينة وتزاحموا فوق بعضهم كأنهم نمل أو جراد. كانوا يريدون أن يكون فخر اكتشاف مجاهل البرج من نصيبهم قبل أن يكون من نصيب الرؤساء والوفد الأجنبي، في حين أننا ظللنا نرى البرج سنين ونمر بجواره ولم تكن تحدونا رغبة حتى للنظر إليه. وما إن رفع الرجل البدين ذو النظارة واللحية، والذي فهمنا فيما بعد أنه رئيس هذه البعثة الآثارية وقائدها، وكانوا ينادونه بلقب "بروفيسور"، عينيه ناظراً إلى البرج، حتى ارتفعت مع حركته عيوننا واشرأبت رؤوسنا للنظر إلى شرفة البرج، وحين خفض رأسه خفضنا رؤوسنا أيضاً وبصورة جماعية!

ظل "البروفيسور" ورفاقه يلتقطون الصور للبرج لبعض الوقت، في حين أخذنا نناقش عظمة البرج وسبب مجيء الوفد الأجنبي وتاريخ بناء البرج، ورحنا نتفاخر بأن "كترا" اكتشف هذا البرج، وقال آخر إن الملك "دارا" عندما فرّ أمام الإسكندر المقدوني، دفن كنزا تحت تراب هذا البرج في طريق فراره، وقال ثالث إن هذا البرج بناه أحد أئمة الشيعة الأطهار، بل آمن عدد بأن حضرة الإمام مدفون تحت هذا البرج، وأن هذا البروفيسور ذا اللحية، رأى الإمام في المنام بأوروبا وجاء الآن للتحقق من الأمر، وغير ذلك كثير.

وانتشرت شائعات أدت بعدد من الناس إلى دخول البرج منذ منتصف تلك الليلة وما تلاها، وحفروا يبحثون أسفل البرج عن الكنز، وبلغ الأمر أن وضع مسؤولو المدينة عدداً من الحراس حول البرج بغية الحفاظ عليه من معاول الباحثين عن الكنز.

وذات يوم رأينا عددا من الإعلانات مذيلة بتوقيع حضرة المحافظ ملصقة على أبواب المدينة تدعو الأهالي إلى التبرع لصيانة البرج، بعد أن تأكدت عراقته وثبتت أهميته التاريخية، وقد تم فتح حساب بنكي لاستقبال التبرعات لمواصلة الاهتمام بهذا البرج الذي هو من مفاخر أجدادنا الأقدمين.

وبدأ ترميم البرج بأموال المتبرعين الشرفاء والمواطنين، إلا أن حصيلة المال كانت قليلة، وتكاليف الترميم باهظة، وذات يوم رأينا إعلاناً آخر ملصقا على أبواب المدينة وجدرانها، وبعد مقدمة تحمل معنى الإعلان الأول نفسه، تضمن الإعلان الجديد أنه لما كانت مسألة ترميم البرج باهظة التكاليف، تقرر بموافقة مجلس المدينة والمحافظة بدءاً من اليوم إضافة ريالين إلى سعر السكر القوالب (القند)، وريالين إلى سعر السكر المبلور وثلاثة ريالات لكيلو الخبز وأربعة ريالات لكل لتر من الكيروسين والبنزين، على أن يتم إنفاق العائد على ترميم برج الافتخار والحفاظ عليه. ولا شك أن هذه الزيادة في الأسعار مؤقتة ثم تعود الأسعار إلى ما كانت عليه بمجرد الانتهاء من أعمال ترميم البرج.

وفي اليوم التالي فوجئنا بارتفاع أسعار اللحوم ثم ارتفعت سائر أسعار السلع والإيجارات وتذكرة الأتوبيس وسائر الخدمات.

تمت عملية ترميم "برج الافتخار"، وتأسست له إدارة جديدة ولجان، وبدأت هذه اللجنة تخطط للمزيد من الرسوم وبخاصة بعد أن ذاع صيت برجنا العظيم في كل مكان، وتوافد الناس زمراً إلى مدينتنا لزيارة البرج، فارتفعت أسعار الفنادق وغيرها بعد أن أصبحت البلدة سياحية، وكنا نشعر أن هذا البرج قد جلب علينا المتاعب ولكن في المقابل، كان كثيرون يتمنون لو كان هذا البرج في مدنهم.

وذات يوم شاع في المدينة أن البرج هبط ومال بمقدار أربعة أصابع، فصرنا نزوره مراراً ونتجرع الحسرات على اعوجاجه، وفي النهاية فرضت رسوم ومبالغ جديدة لدعم البرج، ووقع العبء الأكبر هذه المرة على ملاك المساكن الخاصة ممن تزيد مساحة بيوتهم على خمسين متراً.

وبعد فترة ضرب زلزال المدينة وحدثت تصدعات بالمنطقة الوسطى من "برج افتخارنا"، ومن ثم استدعاء لجنة مختصة لمعاينة البرج وتقدير ميزانية لترميمه، وكنا من جانبنا أعددنا أنفسنا لدفع رسوم وضرائب جديدة. وصلت اللجنة وبدأت عملها في تفحص البرج الشامخ المتصدع، وكانت مفاجأة! فبعد شهر من الدراسة أعلنت اللجنة أن هذا البرج ليس البرج الذي شيد في زمن النبي دانيال، وأن عمره لا يزيد على سبعين سنة أو ثمانين، ولا مجال لأن يكون "برج الافتخار". كأن ذلك الآثاري والمستشرق الأوروبي (الرجل البدين الملتحي ذو النظارة) تشابهت عليه الأبراج. أما البرج المقصود الذي كانت اللجنة تنقب عنه فموجود بمدينة الظلمات، ولعل علماء الآثار مشغولون حالياً بكشف محتمل لبرج الافتخار بتلك المدينة... كأن ماء بارداً صب على رؤوسنا، فقد البرج عزته وهيبته وجمعت الإدارة والتنظيمات والمكتب متاعها وكل متعلقات البرج ورحلت وعاد برج افتخارنا سيرته الأولى، فصار مأوى للكلاب الضالة ومرحاضاً عمومياً، وفي وقت الشجار أيضاً صار مرجعاً للطرفين في السباب، وازدادت التصدعات في وسطه يوماً بعد يوم وازداد ميلاً، وعادت العصافير والحمام تتخذ من ثقب ماسورة جداره الداخلي والخارجي أعشاشاً لها. ومع ذلك لم تلغ الرسوم والضرائب التي فرضت فبقيت بمعدلاتها نفسها ولا نزال ندفعها، وبقيت الأسعار الحكومية وغير الحكومية التي رفعت في سبيل البرج على حالها، ولا نزال لا ندري هل وفق علماء الآثار والمستشرقون في كشف برج الافتخار بمدينة الظلمات أم لا؟

انتشرت شائعات كثيرة حول البرج معظمها تكوّن من روايات لا أصل لها
back to top