بورتريه سيزان

نشر في 05-11-2017
آخر تحديث 05-11-2017 | 00:00
 فوزي كريم لم تنعم لندن بسيزان منفردا منذ فترة طويلة. قد يطل أحيانا من المعارض الموسعة حول "الانطباعية" أو "ما بعد الانطباعية، التي ينتسب إليها. الآن، في "غاليري البورتريت الوطني" (NPG)، يأتينا ملء الكف في معرض "بورتريه سيزان"، الذي يضم 50 لوحة بورتريه.

ذهبتُ إليه في صباح افتتاحه، قبل يومين، وفي رأسي حفنة أسئلة مُستثارة من زمن بشأن طبيعة لوحته، التي أطلعني دارسوه على أنها رائدة المدرسة الحديثة في الفن الغربي، التي بدأت مع "تكعيبية" بيكاسو وبراك. عليَّ وعلى غيري أن نفهم هذه النقطة مسبقاً، لكي نستوعب ميزة لوحته. لكن، يحذرنا النقاد على ألا نتوقف عند قيمتها كجذر لحركة تشكيلية مهمة قادمة، بل أن نستوعب لوحته كقيمة تشكيلية في ذاتها أيضاً.

هناك مَن يعتبر أن كل لوحة لسيزان عبارة عن بورتريه، لشخص بعينه، أو لمشهد طبيعي، لأنه في كليهما لا يرغب في محاكاة الطبيعة أو الشخص، عبر انعكاسات الضوء، كما يرغب "الانطباعيون"، بل هو يرغب في إعادة خلق أو تكوين الطبيعة أو الشخص كما تراهما عيناه على قماشة الكانفس، عبر ضربات فرشاته. إنه يحتاج إلى أن يجلس أمام مَن يرسمه كثيرا من المرات، لا لكي يحقق المقدار المطلوب من الدقة في الشبه، بل لكي يحقق توازنات العناصر المتداخلة للشكل، بين الأجزاء المكونة للشخص والأجزاء المكونة لما يحيطه، على سطح الكانفس.

أحياناً كثيرة يبدو البورتريه غير مقنع، وكأن هناك تشويها متعمدا، أو تكوينا لم يكتمل. وفواكهه الأثيرة لديه دون جاذبية، تلك التي نجدها في تاريخ الفن، والتي تثير الشهية، بفعل القرابة مع الفاكهة الطبيعية خارج الكانفس. إن لوحته توفر أكبر قدر من القطيعة مع مصادرها الخارجية. وهذا ما أثار ﮔوﮔان، ثم ماتيس من بعده، ثم بيكاسو وبراك، اللذين وجدا في لوحته عناصر "التكعيبية"، حيث تبدو هذه العناصر التي تُشكل اللوحة وكأنها مرئية من زوايا عدة. هذا الضرب من الهارموني جديد تماماً على اللوحة الحديثة.

في الكثير من أعمال البورتريه، والمبكرة منها خاصة، نرى سيزان يستخدم سكين الرسم، لا الفرشاة. هنا نجد بقع اللون ذات الحواف الحادة، خفقات وشظايا لونية، تصل الرأس الجامد بما يحيطه. هذه البقع أقرب إلى التجريد، وكأنها تريد أن تذوب الشخوص في ضربات السكين أو الفرشاة، وتشتت قدرتك على لمّ شتات التشكيل، الذي ألِفتَه في لوحة جيله والأجيال التي سبقته. إن الشخص الذي يعرضه لك بالطريقة التي أوضحتها لا يُخفي حكاية، أو عناصر من مشاعر ومكونات سيكولوجية. إنه حاضر دون ما هو بشري، كتفاحته الحاضرة دون انتساب للطبيعة.

في جولتي عبر اللوحات الخمسين كانت هذه الخواطر تتجاذبني، غير مقنعة حيناً، ومقنعة أحياناً كثيرة. إن أولى الملذات هي هذا الكمّ الوافر من لوحات لم أبصر أغلبها من قبل إلا في الكتب. والثانية هي هذا النمو لأسلوب سيزان، الذي استوعبت قدراً منه، منذ نشأته كفنان في مدينته الجنوبية Aix-en-Provence، ثم إقامته الباريسية ولقائه بالانطباعي بيسارو، الذي كان بمثابة أستاذه، ثم مرحلة نضجه التي قطعها في مقاطعته التي استقر بها حتى وفاته. مرحلة النضج في المعرض، التي نتبيَّن فيها عناية فائقة بالتماسك الذي يتسم بخصائص فن العمارة، تغطي قرابة نصفه الثاني، وفيها يتمكن المشاهد من استيعاب خصائصه أكثر. اللذة الثالثة، هي تأميل النفس بتوفير فرصة ثانية لتأمل اللوحات من جديد.

ينتسب سيزان (1839 ـ 1906) لعائلة رخية الحال، حيث كان أبوه مصرفياً، فرض عليه دراسة القانون، لكن الولد العاق فضَّل بمشقة الانصراف إلى الرسم. بعد وفاة الأب ورث ما جعله ينصرف إلى النفس والرسم دون مشقة إلى آخر حياته. على أنه كان طوال حياته خشن الطباع، ويفضل العزلة، ولم يتمتع بنعمة الشهرة التي يطمع بها كثيرون.

back to top