رسائل الحج السياسية

نشر في 10-09-2017
آخر تحديث 10-09-2017 | 00:12
 ياسر عبد العزيز لقد بذلت المملكة العربية السعودية جهوداً كبيرة خلال موسم الحج هذا العام، مرة لكي يخرج هذا الموسم بأمان وسلام، ويحقق نجاحاً، يتمثل بتمكين كل الحجاج من أداء الفريضة بسلاسة، وضمان أمنهم وسلامتهم، ومرة لكي تبتعد بالموسم ومناسكه وعباداته عن كل ما يمت إلى السياسة بصلة.

يبدو أن السعودية نجحت في إدراك الهدف الأول، كما أنها استطاعت أن تنأى بالموسم عن كل حديث أو سلوك ينطوي على فعل أو اقتراب سياسي، يخص الأوضاع السياسية الشائكة والمتقلبة دولياً وإقليمياً، ومع ذلك فثمة رسائل سياسية خرجت من الحج.

الرسالة السياسية الأولى التي خرجت من الحج تخص قدرة النظام السياسي والإداري السعودي على التخطيط الاستراتيجي، الذي يشرك كل القطاعات في إنجاز محدد، في وقت محدد، ورقعة جغرافية محددة، ومن ثم تفعيل تلك الاستراتيجية التي ثبتت نجاعتها لاحقاً.

أما الرسالة السياسية الثانية فتتعلق بقدرة تلك القطاعات نفسها على العمل متقاطعة ومتفاعلة وعلى التوازي، في خضم حدث مهيب، وتحت ضغوط هائلة، ومن دون أخطاء تقريباً.

وتأتي الرسالة السياسية الثالثة لتقول إن السعودية حرصت على التأكيد أنها لا تستغل الحج، ولا استضافتها للحجاج، ولا صيانتها للمشاعر المقدسة، والقيام على خدمتها، وتيسير السبل إليها، لأي غرض سياسي طارئ، مهما كانت الضغوط والمطالب؛ وهي قد نجحت في هذا نجاحاً واضحاً، خصوصاً في ما يخص مسألتي الحجاج الإيرانيين والقطريين.

لا يمكن تجريد موسم الحج لهذا العام من معناه السياسي، الذي يصب بوضوح في الإطار الإيماني والتعبدي؛ إذ يبرز مفهوم «لا سياسة في الحج»، كـ»سياسة في حد ذاته»، تذهب مباشرة إلى التأكيد على قرار استراتيجي بإبقاء الحج بعيداً عن المشاحنات والمماحكات السياسية، والحفاظ على قدره وموضعه ومهابته، باعتباره ركناً من أركان الإسلام.

يحق للأمير خالد الفيصل إذاً، وهو أمير منطقة مكة المكرمة، ورئيس لجنة الحج المركزية، أن يعلن نجاح موسم الحج لهذا العام، كما فعل في مطلع الأسبوع الماضي، وأن يصفه بأنه «موسم استثنائي»، وأن يشدد على التزام بلاده بخدمة جميع الحجاج من دون أي تمييز، ورفض أي تسييس للحج أو استخدامه لأغراض غير العبادة رفضاً قاطعاً.

يحق أيضاً لوزير الحج والعمرة الشاب الدؤوب الدكتور محمد صالح بن طاهر بنتن، أن يؤكد التزام المملكة بتوفير أقصى درجات الرعاية للحجاج من شتى بلدان العالم، وأن يتم ذلك بأقصى درجات الحياد.

لقد أعلن وزير الصحة توفيق الربيعة سلامة حج هذا العام، وخلوه من الأمراض الوبائية، وهو الأمر الذي أقرته منظمة الصحة العالمية، مشيدة بالتدابير التي اتخذتها السلطات السعودية لضمان سلامة الحجاج.

لكن هذا الإنجاز الضخم والمؤثر ما كان ليحدث لولا الجهود الاستراتيجية التي تم حشدها لإنجاز هذا العمل الضخم في ظل ظروف معقدة وضغوط كبيرة.

أكثر من مليوني حاج اجتمعوا لأداء الشعائر في تلك الرقعة المحددة بين عرفات ومنى والمزدلفة والمسجد الحرام، لكن هذا الأمر تم بيسر وسلاسة ملحوظين.

لكي يتم هذا الإنجاز تم حشد أكثر من 55 ألفاً من جميع القطاعات العاملة، سواء كانت عسكرية أو شرطية أو مدنية أو طبية أو تطوعية.

بوصفه أستاذاً في علوم الحاسب، استطاع وزير الحج أن يسخر تجليات تكنولوجية معقدة من أجل الإشراف على حركة الحجاج وتنظيم أدائهم لمناسكهم.

تقول أدبيات الحج لهذا العام إن المملكة استهدفت التحول من مفهوم خدمة الحجيج إلى صناعة الضيافة، بما يقتضيه هذا من ضمان التيسير والسلامة والسلاسة.

لذلك، فقد كان هناك تعاون وتنسيق واضحين بين قطاعات العمل الإداري، والطيران، والجوازات، والدفاع المدني، والمواصلات الداخلية، والأمن، الذي نجح في الحد من عمليات الحج من دون تصريح، فاستطاع أن يخف الضغوط عن الحجاج النظاميين، وأن ييسر لهم أداء الفريضة.

على هامش هذا الموسم الناجح تم عقد «ندوة الحج الكبرى»، تحت عنوان «الحج منبر السلام من بلد الله الحرام»؛ وهي الندوة التي افتتحها وزير الحج والعمرة، وترأس لجنتها التنظيمية باقتدار الدكتور هشام عباس، وترأس لجنتها العلمية بدأب الدكتور يوسف الفقي.

في اختيار موضوع الندوة وعنوانها دليل واضح على الوعي البالغ لدى القائمين على التنظيم بأهمية أن تبرز صورة الحج كعامل جوهري في تحقيق السلام، وما السلام إلا نتيجة مباشرة لكل فعل لا يتوسل سبل التضاغط والتدافع والمشاحنة، بقدر ما يعتمد مفاهيم التفاهم والحوار والإخلاص إلى المعنى الأعلى الذي أراده الخالق حين فرض على المسلمين تلك الفريضة.

بحضور استثنائي، نجح الدكتور خالد الفرم، أستاذ الإعلام السياسي، في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، في إدارة المحور الخامس لندوة الحج الكبرى، تحت عنوان «تطبيقات الإعلام الرقمي وأثرها في خدمة الحج ونشر السلام».

في ذلك المحور بالذات، ظهرت القدرة الكبيرة على الاستفادة من التجليات التقنية الحديثة، وتسخيرها لخدمة أداء الفريضة، وأيضاً لخدمة مفهوم السلام باعتباره غاية من الغايات التي أرادها الإسلام وحض عليها.

يصعب جداً أن تثمر ندوة تقام على هامش أداء فريضة وشعائر روحية استثنائية، حصاداً علمياً مؤثراً يمكن أن يُستفاد منه وأن يُبنى عليه.

لكن المداخلات والأوراق العلمية والعروض المنهجية التي شهدتها الندوة أثبتت أن التنظيم الجيد والإصرار، يمكن أن يثمرا امتزاجاً فريداً بين الطابع الروحاني الذي يهيمن على أداء المشاركين، وبين التزامهم بكل مقتضيات البحث العلمي، وصولاً إلى نتائج دقيقة ومحكمة يمكن أن تعزز مفاهيم السلام من خلال فريضة الحج.

لم يقتصر العرض العلمي خلال الندوة على دور التطبيقات التقنية التي تستخدمها وزارة الحج والعمرة في خدمة ضيوف الرحمن، لكنها شملت أيضاً بحث دور أدوات الإعلام الرقمي في توعية الحجاج، ودور وسائل الإعلام الرقمي في نشر ثقافة السلام وإرساء قيمه وتعزيزه.

إنه موسم حج ناجح، يمكن أن يكون أنموذجاً لمواسم أخرى مقبلة، ينعم فيها الحجاج بأداء الفريضة في أجواء من السلامة والسلام.

* كاتب مصري

back to top