أبوقير الصباغ يهرب من الدائنين في الإسكندرية (29 - 30)

نشر في 24-06-2017
آخر تحديث 24-06-2017 | 00:02
تستكمل شهرزاد في هذا الجزء من الليالي العربية قصة خليفة الصياد الذي أعاد إلى الخليفة هارون الرشيد جاريته ومحبوبته «قوت القلوب» فحصل على مكافأة مالية ضخمة، وتزوّج وأصبح أحد الأثرياء.
شهرزاد تنتقل إلى قصة أبوقير الصباغ وأبوصير المزين، وهما صديقان من مدينة الإسكندرية، قررا مغادرة المدينة بسبب ضيق الحال.
لما كانت الليلة العشرون بعد الأربعمئة، قالت شهرزاد للملك شهريار: بلغني أيها الملك السعيد، أن التاجر «ابن فرناس»، لما جاء إليه خليفة الصياد، ظنّ أنه سائل يطلب إحساناً، وأمر غلمانه بأن يعطوه نصف درهم، فقال له خليفة: أنا ما جئت لطلب إحسانك يا سيدي، ولكني رسول أحمل إليك خطاباً. ثم أعطاه الخطاب، فلما قرأه وعلم ما فيه، وضعه على رأسه ونهض قائماً، وقال لغلمانه: أعطوا هذا الشيخ الطيب ألف دينار، وأحضروا لنا بغلتين مسرجتين، وحمِّلوا بغلة أخرى كل ما طاب من الطعام والشراب، مع شيء من الورود والرياحين. ففعلوا ما أمرهم به فوراً.

بينما كان خليفة واقفاً يحمل الكيس الذي يحوي الألف دينار، وهو لا يكاد يصدق نفسه، طلب منه ابن فرناس أن يركب البغلة المُسرجة، ويتقدمه ليدله على بيته، فارتاب في الأمر، ورفض الركوب قائلاً: أنا لا أعرف الركوب. ولكن التاجر أصر على أن يركب، فركب خليفة البغلة جاعلاً وجهه إلى مؤخرها، ثم أمسك ذيلها، وصرخ، فأجفلت ورمته عن ظهرها، فوقع على الأرض بين ضحك الحاضرين، ثم نهض فجلس بباب الدكان قائلا: والله لا أركب هذا الحمار الكبير أبداً ولو قتلتموني.

فقال له التاجر: صف لي أين بيتك وأنا أتركك، فوصفه له، ثم حمل الكيس الذي به الدنانير، وانطلق يجري هارباً. أما التاجر فتوجه إلى قصر الخلافة حيث أبلغ الرشيد أمر محظيته قوت القلوب، وأخبره بمكانها، فأرسل معه جماعة من المماليك لإحضارها من بيت خليفة الصياد، وإحضاره معها معززاً مكرماً لمكافأته على حسن صنيعه معها، فلما وصلوا إلى بيته، لم يجدوه فيه لأنه كان لا يزال هائماً على وجهه في الطرقات.

ودخل ابن فرناس على قوت القلوب، فقبل الأرض بين يديها، وهنأها بالسلامة، وطلب إليها أن تقوم فتركب معه إلى قصر الخليفة، فقالت له: أين سيدي الجديد صاحب هذا البيت؟ اشتراني بماله وأكرمني، فلا بد من مكافأته، فقال لها: إني أعطيته ألف دينار، ولم يرض أن يركب معي إلى هنا، ولا أدري أين ذهب، فقالت له قوت القلوب: ما يصح أن أغادر بيته بغير إذنه، ولا بد من إعطائه مكافأة حسنة مني، ومن الخليفة نفسه.

بينما هما يتحدثان، أقبل خليفة الصياد إلى البيت، فلما رأى المماليك على خيولهم، ومعهم سيوفهم ورماحهم، تملكه الخوف، ثم وقعت عيناه على التاجر ابن فرناس، وهو يتحدث إلى قوت القلوب، فهجم عليه قائلاً: أنت غريمي، ولا أتركك تسرق دنانيري وجاريتي. أخذ التاجر يهدئ روعه، وقالت له قوت القلوب: اطمئن يا خليفة، وتعال معنا إلى قصر الخلافة لتقبض مكافأة حسنة من الخليفة هارون الرشيد.

لما سمع كلامها، بكى من فرط تأثره، وقال لها معاتباً: هل تقصدين ذلك الزمار اللعين؟ لا حاجة لي بمكافأته... فهي دينار وفوقه مئة جلدة تقصم ظهر البعير. ضحكت قوت القلوب، ولم تزل تلاطفه وتطمئنه حتى رضي بالذهاب معهم إلى قصر الخلافة ماشياً، لأنه لا يحب الركوب.

لما وصلوا إلى القصر، كان فرح الرشيد شديداً بلقاء محظيته قوت القلوب، بعدما اعتقد أنه لن يلقاها في الدنيا، لإبلاغه نبأ موتها ومشاهدته قبرها في بستان القصر، وأمر التاجر ابن فرناس بجائزة ثمينة، ثم التفت إلى خليفة الصياد وقال له: أنت اتفقت معي على الشركة في الصيد فقط، فكيف تشاركني في هذه الجارية؟ فقال له خليفة الصياد: أنا ما شاركتك فيها، وما كان لي منها غير النظر والحديث، ودفعت لذلك ثمناً هو مئة دينار وفوقها دينار كلفني مئة جلدة كما تعلم. ضحك الخليفة وأمر له بخمسين ألف دينار، وبخلعة ثمينة من ملابس الخلفاء، كذلك أهداه بغلة وعدداً من العبيد والجواري لخدمته، وقال له: كل ما تريد يا معلمي تعال إلى هنا واطلبه مني فيكون ذلك فوراً.

قال له خليفة الصياد: هذا كثير يا زمار، لأن دينارك بمئة جلدة، وأنا لا أتحمل الجلد بقيمة هذه الدنانير كافة. عندئذ، ضحك الخليفة وطيب خاطره وشكره على مروءته وحسن خلقه، كذلك شكرته قوت القلوب.

50 ألف دينار

لما كانت الليلة الحادية والعشرون بعد الأربعمئة، قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد أن الخليفة هارون الرشيد، غضب على زوجته السيدة زبيدة غضباً شديداً، لما كان منها مع «قوت القلوب»، وبقي مدة طويلة لا يكلمها ولا يزورها، حتى أدركها السقم، ونفد صبرها، فأرسلت إليه تعتذر عن ذنبها، فلما وصلت رسالتها إلى الخليفة الرشيد وقرأها، لان قلبه ورق لحالتها، وقال لنفسه: إن الله غفور رحيم يغفر الذنوب جميعاً، وكتب إليها معلناً أنه قبل اعتذارها وعفا عنها، ففرحت بذلك غاية الفرح.

أما قوت القلوب فإنها طلبت إلى الرشيد أن يرتب لخليفة الصياد 50 ديناراً كل شهر، فأجاب طلبها فوراً، وانصرف خليفة من عندهما والدنيا لا تسعه من السرور، وبينما هو يهمّ بالخروج من باب قصر الخلافة لمحه الطواشي صندل، فعجب من كثرة الخلع والعطايا التي حصل عليها من الخليفة، وأراد مداعبته فناداه واستوقفه قائلا: أما تعطيني قليلاً من هذه الثروة الكبيرة التي صارت لك؟ أم نسيت أني أعطيت أمس مئة دينار؟ فقال له خليفة: لا ينسى المعروف إلا ابن الحرام. ثم أعطاه كيسا فيه ألف دينار وقال له: هذا هدية مني إليك جزاء معروفك معي. عندئذ، تأثر الطواشي صندل وأعجب بما تنطوي عليه نفس هذا الصياد الفقير من المروءة والكرم والاعتراف بالجميل، ثم قال له: خذ مالك يا خليفة بارك الله لك فيه، وودعه بكل إجلال وإكرام.

ولم يزل خليفة الصياد سائراً في موكبه حتى وصل إلى داره، فاستقبله جيرانه مهنئين، وأخبرهم بكل ما جرى له من أوله إلى آخره، ثم اشترى داراً كبيرة عاش فيها عيشة الأثرياء، وكتب على بابها هذين البيتين:

انظر لدار شبه دار النعيم

الهم تنفيه وتشفي السقيم

قد جمعت من كل ما يشتهي

والخير فيها كل وقت مقيم

وبعد مدة قصيرة، خطب لنفسه ابنة أحد أعيان المدينة، وكانت على حظ عظيم من الجمال والكمال، فاكتملت سعادته، وعاش معها في نعمة سابغة، وصار يحمد الله في كل وقت على ما أعطاه، ولم يزل خليفة الصياد يتردد على الخليفة هارون الرشيد وجاريته قوت القلوب، وينال عندهما حظوة كبيرة، إلى أن أتاهم جميعاً هازم اللذات ومفرق الجماعات، فسبحان من تفرد بالبقاء، ومن هو وحده الحي الذي لا يدركه الفناء.

 

أبوقير وأبوصير

قال الملك شهريار لشهرزاد، بعدما سمع منها قصة خليفة الصياد، وما جرى له مع هارون الرشيد في مدينة بغداد: هذه والله قصة عجيبة، فقالت له: ما هي يا مولاي بأعجب من حكاية أبي قير وأبي صير، فقال لها: بالله قصي عليَّ حكايتهما، فقالت: يُحكى أيها الملك السعيد، أنه كان في مدينة الإسكندرية، في أقصى الديار المصرية، رجل صباغ اسمه أبو قير، وله جار في السوق يعمل مزيناً واسمه أبو صير.

وكان الأول نصاباً كذاباً صاحب شر، لا يستحي من العيب، ومن عادته إذا أعطاه أحد قماشاً ليصبغه أن يأخذ أجره مقدماً، ثم يبيع القماش وينفق ثمنه والأجر الذي أخذه من صاحبه، فإذا جاءه صاحب القماش ليأخذه مصبوغاً، قال له: تعال غداً قبل طلوع الشمس فأسلمه لك مصبوغاً أحسن صبغة، وحينما يرجع إليه في هذا الموعد يعتذر إليه بأنه شغل عن صبغ قماشة بضيوف كانوا عنده، ويضرب له موعداً آخر لتسليمه له.

ولكنه يخلف وعوده أيضاً، ويستمر هكذا في ضرب المواعيد، وإخلافها، وهو في كل مرة يأتي بحيلة جديدة للاعتذار، فيزعم يوماً أن زوجته كانت طول الليل تعاني آلام المخاض، ويزعم يوماً آخر أن المولود مات!

لما كانت الليلة الثانية والعشرون بعد الأربعمئة، قالت شهرزاد للملك شهريار: بلغني أيها الملك السعيد، أن ذلك الصباغ المسمى بأبي قير، كان إذا نفد صبر صاحب القماش، وطلب منه أن يرده إليه مصبوغاً أو غير مصبوغ، يعمد إلى آخر حيلة عنده للتخلص منه، فيقول له: والله يا أخي، أنا ما أخلفت كل مواعيدي لك إلا لخجلي من أن أخبرك بالحقيقة، وهي أنني بعدما صبغت قماشك صبغة لا نظير لها، نشرته على الحبل أمام دكاني كما هي عادتي، فسرقه لص خبيث من أولاد الحرام من غير أن أشعر بذلك.

وكان أكثر أصحاب الأقمشة المفقودة يصدقونه وينخدعون ببكائه أمامهم، فيما كان بعضهم لا يصدقه ويرفع أمره إلى القاضي، ولكنه يصرّ أمامه على ادعائه ويحلف الأيمان المغلظة مؤكداً صدق زعمه، ثم يبكي ويندب حظه، فيرق له قلب القاضي ويخلي سبيله.

ولما شاع أمر أبي قير الصباغ، وصار مضرب الأمثال في الكذب والمماطلة وأكل أموال الناس بالباطل، امتنع أهل الحي عن معاملته، خوفاً على أقمشتهم من الضياع، فصار بعد ذلك يفتح دكانه في الصباح، ثم يتركه ويجلس في دكان المزين أبي صير المواجه له، ليتفادى مقابلة أصحاب الأقمشة التي أخذها وباعها.

وإذا لمح زبوناً غريباً عن الحي أمام دكانه أسرع إليه ورحب به، وأخذ منه قماشة وأجر صبغه، ووعده بتسليمه إياه في صباح اليوم التالي، فإذا جاء الزبون المسكين في هذا الموعد، ضرب له موعداً آخر، أو أخفى نفسه في دكان جاره المزين كي لا يقابله.

في البحر

اتفق بعد سنوات مضت على هذه الحالة، أن أخذ أبو قير قماشاً ليصبغه ثم أضاعه كعادته، وكان القماش لرجل وجيه بينه وبين القاضي قرابة وصداقة، فلما ضاق ذرعاً بمواعيد أبي قير الكاذبة، شكاه إلى القاضي، فأرسل الأخير بعض أعوانه إلى دكان أبي قير لتفتيشه وإحضار قماش قريبه منه، وقال لهم: إن لم تجدوا القماش المطلوب في الدكان، فأغلقوه وهاتوا مفتاحه لي، فلا أسلمه إلى ذلك الصباغ المماطل حتى يحضر القماش الذي أخذه.

لما توجهوا إلى الدكان، لم يجدوا فيه أثراً لأي قماش، ولا أي شيء له قيمة، ورجعوا إلى القاضي، حيث أخبروه بذلك، فأمر بالقبض على أبي قير لحبسه إن لم يحضر القماش المطلوب، وكان أبو قير في تلك الساعة متخفياً عند جاره المزين أبي صير في دكانه، فلما علم بما حدث، تملكه الخوف، ثم أخذ يفكر في طريقة ينقذ بها نفسه من الحبس، فلم يجد سبيلاً إلى ذلك إلا مغادرة الإسكندرية كلها، والفرار إلى أي بلد آخر لا يعرفه فيه أحد، كي يعيش هناك.

ثم عرض الفكرة على جاره المزين أبي صير، وأخذ يغريه بالسفر معه، عسى أن يوسع الله عليه في الرزق، بدلاً من الكساد الذي يعانيه في الإسكندرية، ولم يزل يلح عليه، ويمنيه بالأماني، حتى قبل أن يسافر معه.

لما كانت الليلة الثالثة والعشرون بعد الأربعمئة، قالت شهرزاد للملك شهريار: بلغني أيها الملك السعيد أن المزين أبا صير لما سمع كلام جاره الصباغ النصاب أبي قير، قال لنفسه: إن صنعتي تصلح لكل مكان، وأمضيت سنين هنا في الإسكندرية وأنا أعاني الفقر لانصراف الناس عني إلى المزينين الجدد، وعلى كل حال لن أكون بعد سفري أسوأ حالا مني الآن، وسأتفرج على بلاد الله، وتتحسن صحتي بتغيير الهواء.

لما عزما على السفر، قال أبو قير الصباغ لأبي صير المزين: صرنا أخوين يا جاري العزيز، ولا فرق بيننا، فلنقرأ الفاتحة متعاهدين على أن نكون شريكين في السراء والضراء، وكل ما نربحه ننفق منه وندخر بعضه لوقت الحاجة. قرأ أبو صير معه الفاتحة وعاهده على ذلك، ثم أغلق دكانه وسلم مفتاحه إلى صاحبه بعدما أخلاه من كل ما كان فيه، وتوجها إلى الميناء، فوجدا سفينة كبيرة تهم بمغادرته، وفيها 120 راكباً غير البحارة ورئيسهم، فنزلا فيها وليس معهما أي شيء من الزاد، ثم أقلعت من الميناء ومضت تشق طريقها في البحر.

بعد نحو ساعة، قام أبو صير المزين فأظهر نفسه لرئيس البحارة، وعرض عليه أن يكون حلاق السفينة، فقبل مسروراً لأن الحلاق الذي اتفق معه على ذلك لم ينفذ هذا الاتفاق. وبعدما حلق للقبطان، حمل أبو صير عدته وطاسته ومشي بين الركاب، وصار يحلق لكل من يرغب في ذلك، فلم تمض ساعة حتى كان جمع منهم بضعة دراهم، وشيئاً كثيراً من الطعام، فرجع إلى زميله الصباغ أبي قير ووضع الطعام أمامه قائلا: كل حتى تشبع. وكان أبو قير شعر بجوع شديد، فما كاد يرى الطعام أمامه حتى هجم عليه كأنه السبع الضاري، ثم تناول طاسة أبي صير وشرب كل ما فيها من ماء عذب أنعم به عليه من حلق لهم من الركاب، وبعد ذلك تجشأ، ثم تمدد في موضعه، وما لبث قليلا حتى راح في نوم عميق.

تركه أبو صير نائماً وقام قاصداً القبطان رئيس السفينة، وجلس معه يحدثه ويسليه بما يحفظ من حكايات ونوادر وفكاهات، ثم روى له حكايته من أولها إلى آخرها وكيف اتفق مع زميله الصباغ أبي قير على مغادرة الإسكندرية، طلباً للرزق في مدينة أخرى من بلاد الله، ولم يذكر له شيئاً عن نصب زميله وكذبه واحتياله، بل وصفه بأنه شيخ طيب القلب، ضعيف البنية، في حاجة إلى الرعاية والعناية.

دوار البحر

لما سمع القبطان كلامه، قال له: لا تحمل هماً أنت وزميلك، ما دمتما معي في هذه السفينة، وفي كل يوم تعال أنت وهو عندي هنا لنتناول طعام العشاء معاً، فالخير كثير عندنا والحمد لله. شكره أبو صير على أريحيته وكرمه.

بعد ذلك، قضى أبو صير نحو ساعتين وهو يتنقل بين الركاب والبحارة، يحلق لهم، ويمازحهم ويسليهم بأحاديثه، وحصل منهم على كثير من أنواع الطعام المختلفة التي يحملونها معهم، كالجبن والزيتون والبطارخ والخبز وغيرها، كذلك ملأ طاسته من الماء الحلو الذي يحتفظون به للشرب منه خلال السفر في البحر الملح.

وحمل ذلك كله ورجع إلى زميله الصباغ أبي قير، فوجده ما زال نائماً وقد علا شخيره، فأيقظه، وقال له: إن الله سبحانه وتعالى حنن علينا قلوب أهل السفينة، وحصلت منهم على هذه المقادير من الطعام والماء العذب، عدا الدراهم التي أخذتها منهم أجراً على الحلاقة. وقد تفضَّل القبطان فدعاني أنا وأنت إلى تناول العشاء معه كل يوم ما دمنا مسافرين في البحر على سفينته، فالرأي عندي أن نحتفظ هنا بما جئت به من طعام وشراب، ثم تقوم معي الآن فنذهب إلى ذلك القبطان، حيث نتعشى عنده، ونقضي بعض الوقت في الحديث والمسامرة، ثم نعود إلى موضعنا هذا فننام.

قال له أبو قير: لا أقدر أن أقوم من مكاني هنا، لأني أشعر بأن رأسي يدور من السفر في البحر، اذهب أنت إلى القبطان لتتعشى عنده، وأتركني هنا لأستريح وإذا شعرت بالجوع فإني آكل مما عندنا. فقال له أبو صير: لا أريد إلا راحتك، ولكني أخشى أن تعود إلى النوم فيفوتك الأكل، وعلى هذا يحسن أن تأكل الآن على قدر طاقتك، وإذا وجدتك نائماً بعد عودتي أيقظتك لتتم أكلك.

قال له أبو قير، هذه مشورة حسنة، ثم وضع الطعام بين يديه، وأخذ في القضم والبلع بشراهة، وكأنه لم يأكل منذ عام، أو يأكل آخر طعام.

جلس أبو صير يتفرج عليه ودهشته تزداد كلما رآه يأكل الرغيف على لقمتين، ويأتي عليه في طرفة عين، ويحملق بعينيه فيما بين يديه حملقة الغول، وينفخ شدقيه كأنه ثور جائع وقع على كومة فول.

فيما هما كذلك جاء أحد البحارة، يدعوهما إلى العشاء عند القبطان، فأصر أبو قير على البقاء، وقال له أبو صير: أنت وما تشاء. ثم تركه ومضى مع البحار إلى القبطان، فوجد عنده مائدة منصوبة، وعليها أكثر من 20 لوناً من ألوان الطعام، ومعه بعض أعوانه المقربين، وكلهم جالسون في انتظاره ورفيقه.

لما رآه القبطان مقبلاً وحده رحب به وقال له: أين رفيقك؟ أجابه أبو صير: إنه شعر ببعض التعب من السفر في البحر لأنه لم يعتد عليه، فآثر البقاء في موضعه للراحة. فقال القبطان: لا بأس عليه إن شاء الله، وسيزول عنه ما يشعر به من الدوار عما قريب. ثم أجلسه إلى جانبه على المائدة، وأخذ الجميع يأكلون ويشربون، وأبو صير يحدثهم ويسليهم بما يحفظ من النوادر والأشعار، وهم يبدون إعجابهم بما يرويه، ويعزمون عليه بأطايب الطعام والشراب.

وبعدما انتهت السهرة، وهمَّ أبو صير بالرجوع إلى زميله أبي قير، أعطاه القبطان صحناً كبيراً جمع فيه من ألوان الطعام الذي أكلوه، كما أعطاه كوزاً ملأه بالماء العذب المُصفى، وقال له: خذ هذا لرفيقك ليأكل ويشرب متى شاء. فشكره على حسن كرمه، وحمل الصحن ورجع إلى حيث ترك زميله، فوجده نام، بعدما أتى على كل ما تركه عنده من طعام!

وهنا أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وإلى حلقة الغد

خليفة الصياد يحصل على مكافأة مالية ضخمة من الرشيد بعدما أعاد إليه «قوت القلوب»

أبوقير يقنع زميله المزين أبوصير بالبحث عن الرزق بعيداً عن الإسكندرية

المزين ينجح في الحصول على طعام وفير بعدما أصبح حلاق السفينة
back to top