مقاضاة «الدولة الإسلامية»... مسيرة العراق المتخبطة نحو المصالحة

نشر في 06-05-2017
آخر تحديث 06-05-2017 | 00:00
على مسافة قريبة من الموصل التي تحررت حديثاً، كُلّف قاضيان بمعاقبة أنصار «الدولة الإسلامية» الذين ارتكبوا الجرائم وبمساعدة الضحايا على تحقيق العدالة. لكن نظراً إلى غياب الطرق التي تسمح بجمع الأدلة، قد تتحول هذه العملية قريباً إلى مهزلة حقيقية وتؤدي إلى نشوء جولة جديدة من العنف. «شبيغل» الألمانية عادت من العراق بتقرير مشوق حول مسيرة العدالة في بلد ينوء تحت وطأة الارهاب.
مرّت شاحنة كبيرة في بلدة قرقوش وفيها نحو 50 رجلاً مكبّلاً ومعصوب العين. صرخ رجل أثناء مرورهم: «قتلة! مغتصبون»! توقفت الشاحنة أمام محكمة التحقيق: في هذا المكان سيُحاكَم عدد من مناصري «الدولة الإسلامية» المزعومين في منطقة الموصل.
اجتمع ضحايا «الدولة الإسلامية» بالقرب من السجناء: رجال هزيلون ونساء محجبات من الموصل خسروا أفراداً من عائلاتهم ومنازلهم وجميع أملاكهم خلال آخر سنتين ونصف من الاحتلال الذي فرضه النظام الإرهابي. كانوا يتشبثون بوثائقهم التي تشكّل دليلاً على الفظائع التي عاشوها.
لم يسبق أن تواجه مناصرو «الدولة الإسلامية» وضحاياها بهذه الطريقة يوماً. راح سكان الموصل يحدّقون بصمت بالرجال المقيّدين على الأرض.
يترأس قاضيان التحقيقات في هذه القضايا. يدير سعدون يامي جلسات الاستماع وسيقدّم ملفاته إلى المحكمة الجنائية التي ستصدر الحكم لاحقاً. أما زميله يونس الجميلي، فيتولى إرسال تقارير الضحايا إلى الوزارة المعنية في بغداد كي تحدد التعويضات المناسبة.

يمكن اعتبار «محكمة نينوى المتحدة» نسخة مصغّرة من العراق كونها بدأت تستيقظ من كابوسها الأخير. سيساهم عمل القضاة في تحديد مدى قدرة سكان الموصل على استرجاع حياة طبيعية. لكن هل يمكن تحقيق العدالة طالما لم تُهزَم «الدولة الإسلامية» عسكرياً بالكامل؟

مواجهة واعترافات

جلس سعدون يامي وراء مكتبه وراح يملأ المحابر. ثم فتح أحد مساعديه الباب ودفع أول سجين إلى الغرفة. كان الرجل الأربعيني مرهقاً وحافي القدمين. جثا على ركبتيه ثلاث مرات متلاحقة أمام المكتب. فصرخ به يامي: «انهض! ما الذي تعلّمتَه من هؤلاء الأغبياء؟ ما اسمك؟ أين اعتقلوك؟ ما سبب وجودك هنا؟».

أجاب الرجل: «اسمي ياسر س. أنا عامل وقد سلّمتُ نفسي طوعاً للجيش في الموصل. عملتُ مع «الدولة الإسلامية» طوال أربعة أشهر وكنت أكسب 130$ في الشهر وأحرس محطة كهرباء بكل بساطة. لقد أعطوني سلاح كلاشينكوف. أنهيتُ شهرين من التدريب العسكري وحضرتُ حصصاً دينية طوال عشرة أيام».

«لماذا سلّمتَ نفسك؟».

«أصبتُ بضربة جوية واضطررتُ للذهاب إلى المستشفى. ثم اختبأتُ من «الدولة الإسلامية». كنتُ متعباً. لم أشارك في أي معركة».

سأله يامي: «متأكد أنك لا تكذب؟».

أجاب السجين: «لا. لم يجبرني أحد على قول هذا الكلام. أنا نادم على ما فعلتُه».

بدا وكأنه تدرّب على قول ذلك الكلام. وضع ياسر س. بصمته تحت إفادته. فتنهّد القاضي وألقى بالتقرير جانباً فيما سيق السجين إلى خارج الغرفة.

غادر أيضاً محامي مقاتلي «الدولة الإسلامية» الذي كان أنيقاً وبدا وكأنه يشعر بالملل أثناء جلوسه على الكنبة لضمان سيادة القانون. لم يتكلّم هذا الأخير مع أي من المتهمين.

«محكمة نينوى المتحدة» ليست محكمة التحقيق الوحيدة التي تستجوب مناصري «الدولة الإسلامية» في العراق، لكن يقول القاضيان إنهما الوحيدان اللذان يحققان بقضايا الموصل. احتُجِز آلاف الأعضاء المنتمين إلى «الدولة الإسلامية» في أنحاء البلاد واعتُقل حوالى ألف شخص في هذه المنطقة منذ استرجاع الموصل. لكن تشتبه السلطات بأن عدداً موازياً هرب من المدينة من دون التعرّف إلى أحد منهم.

أنشأت قوات الأمن العراقية شبكة متماسكة للتعرف إلى مناصري «الدولة الإسلامية» وتحرص على التعاون مع مخبرين في الموصل. حين تحررت المنطقة، نشروا حواجز على طول طرقات الهرب حيث يستعملون قواعد بيانات وطنية للتحقق من الأشخاص الذين يحاولون الهرب واستجوابهم. كل من يتم اعتقاله يصل في النهاية إلى مكتب يامي.

لكن تتكرر الأخطاء نفسها دوماً ويُحتجَز أشخاص أبرياء. يقول يامي: «تكون أسماء المشبوهين متشابهة أحياناً ولا نعتقل في النهاية الأشخاص المطلوبين». في بعض القضايا، تُوَجّه الاتهامات أيضاً ضد أشخاص أبرياء عمداً أو سهواً.

نهج عقيم

عمل يامي سابقاً في محكمة الموصل المدنية ويتذكر بكل وضوح ما حصل حين استولت «الدولة الإسلامية» على المدينة وحوّلت المحكمة التي كان يُصدِر فيها شهادات ولادة إلى محكمة شرعية. ركب يامي وعائلته السيارة وهربوا إلى أربيل في المنطقة الكردية. بقي عاطلاً عن العمل لفترة قبل نقله إلى بغداد حيث تولّى أيضاً إصدار الوثائق الرسمية.

أصبحت حياة يامي مهددة منذ إرساله إلى قرقوش، فهو يتلقى تهديدات يومية في رسائل نصية: «سنقتلك» أو «سنخطف أولادك»!

تدمّرت مدينة قرقوش المسيحية بالكامل على يد «الدولة الإسلامية» وهرب منها سكانها. يحمل يامي مسدساً تحت سترته اليوم. حين يُسأل عن سبب اختياره لتولي هذا المنصب، يجيب: «لا أعرف السبب».

يبدو القاضي المسؤول عن كشف الحقيقة غير مقتنع بمهمّته. ربما تزيد هذه المهمة أعباءه، أو ربما يفضّل أن يتابع العمل الذي أوقفه في عام 2014 كمسؤول عن إصدار الشهادات.

فُتِح الباب مجدداً وأدخل الجنود السجين التالي. كان في الثلاثين تقريباً. طرح عليه يامي الأسئلة نفسها. كان فكّ الرجل يرتجف.

«اسمك أحمد م.؟».

أجاب السجين بطريقة غير مفهومة.

صرخ به يامي: «لا تُجِب بهذه الطريقة. قل نعم! أَظهِرْ بعض الاحترام!».

قال أحمد م. إنه كان عضواً في الجيش العراقي حين هاجمت «الدولة الإسلامية» الموصل: «التحقت بـ«الدولة الإسلامية» وأنهيتُ أسبوعين من التدريب العسكري وحاربتُ على الجبهة ضد الأكراد. حملتُ سلاح كلاشينكوف، كان مزوداً بخمسة مخازن للرصاص. فرّغتُ مخزناً واحداً فقط في القتال. حين أعطتني «الدولة الإسلامية» إجازة لعشرة أيام، قصدتُ منزلي ومنعني والدي من العودة. بقيتُ مع «الدولة الإسلامية» طوال 27 يوماً فقط». اعترف أيضاً بأنه أقسم اليمين التالي: «أريد أن أنضم إلى «الدولة الإسلامية» وأتبع أبا بكر البغدادي في السراء والضراء. سأقوم بكل ما يطلبه مني».

لم يعترف أي شخص من بين عشرين مشتبهاً بهم استجوبهم يامي حتى اليوم بارتكاب الجرائم. بل يزعمون جميعاً أنهم شاهدوا الجرائم بكلّ بساطة وهربوا وقاموا بمهام غير مؤذية، ويقولون إنهم وقعوا ضحية الظروف. يعترف عدد صغير منهم باقتناء الأسلحة ويقول بعضهم إن إخوتهم أو آباءهم كانوا ينتمون إلى «الدولة الإسلامية» لكنهم لم ينضموا إليها.

يقول يامي إنه نجح في إدانة بعض القتلة «لكن لا يسير الوضع على ما يرام راهناً». إذا جلسنا في غرفة الاستجواب التي يستعملها لبضعة أيام، لا مفرّ من أن نبدأ بالتساؤل عن كيفية تطبيق العدالة في هذا المكان. ترتكز تحقيقاته على الاعترافات، ما يجعل النظام عرضة للشوائب. لا وجود لإفادات الشهود والأدلة وجميع العناصر التي تضمن نجاح المحاكمة الجنائية.

لكن رغم استحالة إدانة أي مجرم بهذه الطريقة، كشف أحمد م. أسماء عشرات المقاتلين في «الدولة الإسلامية». زعم أن أحدهم كان يزرع الألغام وعمد آخر إلى قتل امرأة وسلّم شخص ثالث سجيناً إلى «الدولة الإسلامية» عند اجتياح شرق الموصل. بحسب ادعاءاته أيضاً، قام أحدهم بالتجسس لصالح «الدولة الإسلامية» بينما أقدم رجل آخر على سرقة السيارات.

جولة من العنف

دوّن القاضي جميع الأسماء. لا يمكنه أن يفعل أي شيء آخر! يُذكّرنا عمله بمهام مفوّضي الحقيقة الذين وثّقوا جرائم الحرب في السلفادور وغواتيمالا وليبيريا، مع أنّ عملهم لم يعاقب المجرمين إلا في مناسبات نادرة. كان الهدف الحقيقي يتعلّق بابتكار نسخة رسمية من الأحداث لتجديد الصلح بين عناصر المجتمع، كي يتمكّن المجرمون والضحايا من التعايش مجدداً. لكن يشعر القاضي يامي حتى الآن بأنه لن يحقق هدفه قبل فترة طويلة.

يوضح يامي: «90 % من جميع السجناء هنا يكذبون. لو كنت أستطيع أن أستجوبهم وحدهم، قد يقولون الحقيقة. لكنهم يمضون بضعة أيام مع سجناء آخرين ثم يتعلّمون ما يجب قوله في شهاداتهم».

صحيح أنّ المتهمين سيبقون محتجزين إلى أن يتوصل القاضي الجنائي إلى حكم مبنٍ على تقارير يامي، لكن غالباً ما يتم التشكيك بالأحكام، لأن الناس يعتبرون أنّ الاعترافات تحصل تحت التعذيب أو ترتكز على أدلة واهية. نتيجةً لذلك، يبرّئ القضاة الجنائيون عدداً كبيراً من المذنبين كي لا يسجنوا الأبرياء.

أصدرت الحكومة العراقية قانوناً لمكافحة الإرهاب في عام 2005، غداة الإطاحة بصدام حسين. بموجب المادة الرابعة التي أصبحت الآن ركيزة للأحكام الصادرة ضد مناصري «الدولة الإسلامية»، يُعاقَب مرتكبو الأعمال الإرهابية بالسجن المؤبد أو الإعدام. لكن تتعلق مشكلة هذا القانون بعدم تطبيق هذه العقوبات على المجرمين حصراً، بل إنه يشمل المساعدين والأتباع أيضاً.

لتجنب أي سوء معاملة، صدر قانون عفو في عام 2016. منذ ذلك الحين، يُطلَق سراح كل شخص يثبت أنه انضمّ إلى «الدولة الإسلامية» أو أي جماعة إرهابية أخرى رغماً عنه ولم يرتكب أي جرائم خطيرة. استفاد حوالى 800 سجين من حكم العفو منذ منتصف السنة الماضية.

يقول القاضي يامي: «سيتحرر معظم السجناء الذين أستجوبهم قريباً».

ما من استراتيجية واضحة حتى الآن للتعويض عن الأعمال الوحشية التي ترتكبها «الدولة الإسلامية» وقد تراجعت الجهود التي تدفع المجتمع العراقي نحو المصالحة كما حصل في رواندا تنفيذاً لأوامر الحكومة. صحيح أن رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي تكلم عن إنشاء محكمة خاصة بمجرمي «الدولة الإسلامية»، لكن لم يتحقق هذا الهدف عملياً بعد. تنشغل الحكومة بالقتال من أجل الموصل ويشهد الاقتصاد المحلي تخبطاً شديداً. يوحي الوضع بأن العدالة أصبحت جزءاً من الكماليات.

أحياناً يدخل ثلاثة سجناء معاً إلى مكتب يامي في الوقت نفسه، فيطلب من كل موظف مسؤول عن كتابة المحضر أن يستجوب واحداً منهم. أو يمكن أن يقرأ أمام السجناء ما كتبته القوى الأمنية في أولى جلسات استجوابهم فيكتفون بهز رؤوسهم. يقول يامي إنه يجمع الأدلة لكن سرعان ما يفقد صبره. كما أنه لا يحب أن يراقبه الصحافيون خلال جلسات الاستجواب.

يحتاج العراق إلى المساعدة كي يضع حداً لتداعيات الأعمال الوحشية التي ارتكبتها «الدولة الإسلامية» ويبدو أن السلك القضائي يتحمّل أكثر من طاقته. يمكن أن تصل قضايا الاغتصاب الجماعي والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية إلى المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، لكن لا يمكن تكليفها بها لأن العراق لم يعلن التزامه بأحكامها. حتى محاكم جرائم الحرب، كتلك التي تشكّلت خلال الحروب في يوغوسلافيا السابقة، لا يمكن تنظيمها إلا بقرار من مجلس الأمن ويُفترض أن تصوّت روسيا والصين والولايات المتحدة على هذا القرار.

لذا لن تحصل أي محاسبة حقيقية على أعمال الماضي رغم أهمية هذه المسألة بالنسبة إلى الضحايا والبلد ككل. بل يمكن أن تنشأ في العراق نزعة إلى تحقيق العدالة خارج الإطار القضائي وقد تبدأ جولة جديدة من العنف.

ضحايا غاضبون

في جوار غرفة الاستجواب الخاصة بالقاضي يامي، يشقّ مئات الناس طريقهم على السلالم للوصول إلى المكتب الثاني الذي يجلس فيه القاضي الآخر يونس الجميلي. يقف هؤلاء الناس جانباً حين يتعثر سجناء «الدولة الإسلامية» ثم تتجهّم وجوههم. همست امرأة خُطِف ابنها على يد «الدولة الإسلامية»: «لن نسامحهم أبداً. لقد دمروا حياتنا. كيف يُفترض أن نشعر؟».

يشبه مكتب يونس الجميلي غرف الاستجواب. يجلس بدوره وراء مكتب خشبي ويبدو رجلاً قوياً ويضع نظارات رفيعة. يقول للترحيب بمن يأتي إليه: «أهلاً بكم في الجحيم». يدير الجميلي مجموعة من القضايا المروّعة: تتكدس على مكتبه كومة من الملفات التي يصل علوها إلى 50 سنتيمتراً. تأتي 200 أو 300 عائلة إلى المحكمة يومياً بحسب قوله.

جمع الجميلي إفادات تلو أخرى، منها مئات الصور التي تكشف غرف معيشة مدمّرة ومليئة بالجثث. راح يقرأ أجزاءً من الملفات من دون أن يطلب منه أحد، وأخذ يتنقل بين مختلف القضايا والقصص ويتحدث عن مصير الأفراد. في مرحلة معينة، لم يعد الجميلي يستطيع أن يحدد الفرق بين عائلة وأخرى.

لا يعمل الجميلي في هذه المحكمة طوعاً. لقد كان بدوره قاضياً في الموصل وهرب إلى أربيل حين وصل مقاتلو «الدولة الإسلامية». تتعلق واحدة من القضايا التي يتولاها اليوم بقاضٍ كان صديقاً له وقُتل على يد «الدولة الإسلامية»: «كان عدد كبير من ضحايا «الدولة الإسلامية» موظفين حكوميين ورجال شرطة ومدنيين أبرياء».

كان الجو صاخباً خارج الغرفة حيث يتدافع الناس على باب الجميلي. حين يغادر شخص المكتب، يشقّ عدد من المشتكين طريقهم في الوقت نفسه، منهم رجل كان الشخص الوحيد الذي نجا من القصف بين أفراد عائلته، وآخر دفن زوجته المقتولة أمام كوخه لأنه لم يجرؤ على حملها إلى المدفن على مرأى من مقاتلي «الدولة الإسلامية». قُتِل زوج إحدى النساء أيضاً على يد قناص. يأمل جميع هؤلاء الناس أن يحصلوا على تعويضات مالية على الأقل.

يكتب الجميلي بصمت لأنه على عجلة من أمره.

نوح حازم نوح (28 عاماً) وابنته البالغة من العمر سنتين هما جزء من مجموعة اليوم. يتذكر نوح كيف تعرضت زوجته ريحان التي كانت بنظره «أجمل امرأة في الموصل» لإطلاق النار حين كانا عائدين من مخيم اللاجئين إلى الجزء الشرقي المحرر من المدينة. كانت زوجته حاملاً وراحا يركضان في الشوارع حين استهدفهما قناص تابع لتنظيم «الدولة الإسلامية». عندما كانا يركضان، أصابت الرصاصة ريحان خلف أذنها فحملها. يقول إن قميصه لا يزال مغطى بدمها ويؤكد أنه يستطيع إثبات كل ما حصل.

كانت زوجته قد أصيبت، فأخذها إلى المستشفى لكن من دون جدوى. جاء نوح إلى المحكمة مع أمه وشاهدَين. وقّع أفراد العائلة على الوثيقة بعد تسجيل إفادتهم أمام القاضي الجميلي وكتبوا تحت تواقيعهم: «نحن نطالب بحقوقنا».

تعهدت الحكومة العراقية بدفع شكلٍ من التعويض إلى ضحايا «الدولة الإسلامية». لكن يبدو الجميلي متشائماً: «لا أعرف متى ستصل تلك المبالغ ولستُ واثقاً أصلاً من أنها ستصل يوماً. لا أعرف أيضاً قيمة تلك التعويضات. لا يملك العراق المال وتكثر المطالب المنتظرة منه». يأمل الجميلي أن تقدم المنظمات غير الحكومية المساعدة للمشتكين إلى أن تتماسك الحكومة: «نحن نتمتع بقدرات عادية. لقد تعبنا». كان الجميلي يخطط لأخذ عطلة غير معلنة في اليوم التالي.

في فترة بعد الظهر كانت امرأة لا تزال تنتظر خارج مكتب القاضي الجميلي لأنها لم تنجح في مقابلته بعد. لقد جاءت إلى هنا للمرة الثالثة: «اتهمت «الدولة الإسلامية» ابني بالتجسس فخطفوه أمام عينيّ. وباع زوجي السجائر سراً، فضربوه وكادوا يقتلونه وأصبح معاقاً الآن. أريد أن يُسجَن هؤلاء الأشخاص. الألم الذي أعيشه لا يُحتمَل».

سوء المعاملة

وقف آخر سجين في ذلك اليوم في مكتب القاضي يامي في الغرفة المجاورة. كانت ذراعاه مليئتَين بالدمامل. زعم بدوره أنه لم يرتكب أي جرائم واعترف بأنه قصد المخيم العسكري لكنه لم يشارك يوماً في المعارك. بحسب قوله، كان شقيقه ناشطاً في «الدولة الإسلامية» لكنه اختفى منذ ذلك الحين. فيما كان المشتبه به يسرد القصة التي سمعها القاضي مراراً وتكراراً، كانت ساقاه ترتجفان. في مناسبات كثيرة، اضطر لاستجماع قوته قبل أن يتابع الكلام. في النهاية قال متوسلاً: «قل للحراس أن يتوقفوا عن ضربي!».

بعد قضاء بضعة أيام في هذه المحكمة، يمكن أن نشعر بأنّ بعض السجناء يتعرّضون للتعذيب كي يعترفوا. يقول موظف في جهاز الاستخبارات العراقي: «نحن لا نخشى إلا المنظمات غير الحكومية لأنها تثير بلبلة حين نضرب عناصر «الدولة الإسلامية»».

ويقول زميل للقاضيَين يامي والجميلي غامزاً: «لدينا أساليب خاصة في الاستجواب. نحرص على أن يقول السجناء الحقيقة».

لم يكن القاضي يامي مستعداً للتعليق على هذا الموضوع، بل جمع حقيبته بصمت وقال أخيراً: «الدولة الإسلامية» عدوتنا في ساحات المعارك لكن ليس في المحكمة».

كما يحصل كل يوم، يغادر القاضيان المحكمة في الساعة الثانية بعد الظهر، بعد خمس ساعات من العمل وحضور عشرات جلسات الاستماع. غالباً ما يكون مزاجهما متعكراً ويوحيان بأنهما يريدان مغادرة هذا المكان في أسرع وقت ممكن.

فيما كان القاضيان يغادران المبنى وعائلات الضحايا تتّجه إلى الموصل، عادت الشاحنة السوداء إلى المحكمة.

فُتِحت البوابة ببطء وخرج السجناء. شكّلوا سلسلة حول الشاحنة التي ستعيدهم إلى السجن وكانت يدا كل رجل مستندة إلى كتفَي السجين الواقف أمامه. يُطلَب منهم أن يلمسوا بعضهم كي لا يهرب أحد منهم. وضع سجين تلو الآخر قدميه الحافيتين على الأرض. في لحظة معينة، بدا وكأن السلسلة لن تنتهي أبداً!

* كاترين كونتز وكريستيان ويرنر

في بعض القضايا تُوَجّه الاتهامات أيضاً ضد أشخاص أبرياء عمداً أو سهواً

حياة يامي مهددة فهو يتلقى تهديدات يومية: «سنقتلك» أو «سنخطف أولادك!»

يبرّئ القضاة الجنائيون عدداً كبيراً من المذنبين كي لا يسجنوا الأبرياء

دفن زوجته المقتولة أمام كوخه لأنه لم يجرؤ على حملها إلى المدفن على مرأى من مقاتلي داعش
back to top