بعض الذكريات

نشر في 14-02-2017
آخر تحديث 14-02-2017 | 00:08
 يوسف عبدالله العنيزي في يوم الخميس الثاني من أغسطس عام 1990 سطّر التاريخ حدثاً مأساوياً هز الأمة العربية، وتسبب في إحداث شروخ وصدع غائر لن تستطيع السنون علاجه، وتجاوز تأثيره العالم بأسره، وذلك عندما غزا النظام العراقي السابق الكويت الغالية ضاربا عرض الحائط بكل مقومات وروابط العقيدة والجيرة والانتماء للعروبة.

كنت في ذلك الوقت أتولى مسؤولية رئاسة البعثة الدبلوماسية في جمهورية الجزائر الشقيقة، في ذلك الصباح تلقيت عدة اتصالات هاتفية من بعض السفراء العرب المعتمدين في الجزائر، بعضها عبر عن صدق المودة والمحبة للكويت، ويتألم لما حدث من احتلال وتدمير، في حين حمل البعض الآخر الشماتة، وربما مشاعر الرضا لما حدث للكويت وأهلها.

كان من بين تلك المكالمات أحد السفراء ممن كان للكويت فضل ودالّة على بلده وعليه شخصياً، ولا نريد أن نمنّ على أحد فذلك واجبنا تجاه إخوة لنا، ولكن ذلك العمل النبيل لم يجد إلا أرضا سبخة لا يثمر فيها زرع، ولا يعيش فيها ضرع، وبدون أن يلقي التحية أو السلام قال بكلمات تقطر شماتة وتشفياً "عظّم الله أجرك ماتت الكويت"، فرددت عليه وبسرعة "عظم الله أجرنا وأجركم بالعراق، لقد كان عزيزاً علينا لكم نتألم لذلك".

استفزه كلامي فعاد تأكيد كلامه "ولكن العراق هو من احتل الكويت"، قاطعته قائلاً "لا خوف على الكويت فستعود حرة كما كانت، وكما ستكون دائماً، ولن يستغرق ذلك أشهراً معدودة، ولكننا نتألم لما ستؤول إليه الأمور والأوضاع في العراق وأهله"، سكت محدثي وتمنى لو لم يتصل بي، وأحسست أنه ندم على ما قاله.

في أحد الاجتماعات لمجلس السفراء العرب المعتمدين في الجزائر، تحدث أحد السفراء، وكان يتولى منصباً عسكرياً مرموقا في بلده قبل تعيينه سفيراً، فقام سعادته بتقديم تحليل للأوضاع في منطقة الخليج، والاستعدادات التي تجري لتحرير دولة الكويت، وقد أفاد "لا فُضّ فوه" بأن أميركا ودول التحالف ستواجه حرباً شرسة قد تتجاوز حرب فيتنام، وقد رددت عليه بكلمات موجزة ومعبرة "بعد هذا التحليل الذي تفضلتم به عرفت يقيناً لماذا خسرت القوات المسلحة العربية جميع الحروب والمعارك التي خاضتها".

من بين تلك المكالمات التي تنوعت اتجاهاتها مكالمة لم أكن أتوقعها، ومن شخص لم يخطر على البال، ففي منتصف ذلك اليوم وأثناء وجودي في مكتبي في مقر البعثة الدبلوماسية رن الهاتف، وعند رفع السماعة كان على الجانب الآخر سعادة سفير جمهورية العراق في ذلك الوقت، وكانت تربطنا علاقة شخصية وعائلية، تحدث بلهجة راقية وحزينة "أخي بو عبدالله... لا أدري ماذا أقول لك، بس أدعو الله أن يكون ويانا ووياكم... دير بالك أخي الكريم على نفسك وعلى العائلة الكريمة".

ثم أحسست بيده تتثاقل وهو يقفل الهاتف، وكانت تلك آخر محادثة تدور بيننا، وقد علمت فيما بعد أنه تم تسجيلها، وقد غادر سعادة السفير إلى إحدى الدول الأوروبية حيث طلب حق اللجوء السياسي، كم كانت تلك الأيام قاسية، وكم كان الحدث مؤلماً، والأشد إيلاماً أن نرى الآن من ينبش الرماد ليذكي نار الفتنة بعد إخمادها، ألم نتعلم من تلك الدروس القاسية التي لم تجلب إلا الدمار وإزهاق الأرواح والتشرذم والتمزيق؟ هل غدت الأمجاد الشخصية أكثر أهمية من الوطن؟

نتمنى من الإخوة في العراق تحكيم العقل والمنطق، فيكفي المنطقة تلك الحروب التي أكلت الأخضر واليابس، وما أحوجنا للأمن والسلام بعيداً عن الشعارات التي لا تستحق حتى الرد، فكما يقول المثل الكويتي "الحقران يقطع المصران" ولكن مع أخذ الحيطة والحذر، فـ"لا يلدغ مؤمن من جحر مرتين"، فاللهم من أراد بالكويت خيراً فوفقه لكل خير، ومن أراد بالكويت شرا أو أذى فردّ كيده في نحره.

حفظ الله الكويت وقيادتها وأهلها من كل سوء ومكروه.

back to top