مصابيح مطفأة

نشر في 23-01-2017
آخر تحديث 23-01-2017 | 00:00
 فوزية شويش السالم «مصابيح مطفأة»، أول رواية أقرأها للكاتب المغربي اكبيري أحمد، أول رواية كتبها، وأعقبها بروايته «مقابر مشتعلة» ورواية «أرصفة دافئة»، ومع أنها روايته الأولى، إلا أنها خلت من أخطاء وتعثرات العمل الأول، وُلدت كعمل إبداعي ناضج مكتملة أدواته الفنية والأدبية، ولا أدري إن كانت قد سبقتها مؤلفات للكاتب كقصص قصيرة أنضجت وسهلت الطريق لاكتمال ولادة عمل روائي ناجح.

الرواية تبدأ بعودة السي المحجوب من فرنسا إلى بلدته وزان المغربية، بعد خلاف مع زوجته الأجنبية «ايزابيل»، ورفضها لوجوده معها ومع ابنهما.

ومن بداية عودته إلى المغرب متوجها إلى مدينته تبدأ ذكريات حياته الماضية تنهال على مخيلته، شابكة ماضيه بحاضره، أهله وصحبته وأحوال مدينته بكل أحوالها وأوضاعها الحياتية التي لم تتغير خلال سفره، ولم يتبدل حالها البائس منذ مغادرته لها، فيكتب عن أناسها: «أروح تسكن أسمالا مشردة، تشبه الإنسان، الناس هنا يبدون كما لو كانوا في حالة ترقب وانتظار دائمين، لا جديد في يومهم ولا غدهم، يمضي النهار عليهم، بتعبه وشقائه ومشاحناته، ويأتي المساء ببهائه ولذائذ نزواته، كيف يبيع القرد وكيف يضحك على من اشتراه».

اكبيري أحمد استطاع الغوص في قاع مدينته، فتح مصارينها واستخرج كل ما فيها من وجع يؤلمها ويؤذيها، كشف عن خرابها الروحي وفقرها المادي وبؤس حال أناسها من كل النواحي، حتى غاب واضمحل الأمل بتغيير حالها، وانطفأت مصابيحها، وما بقي للناس إلا تغييب العقل في الحشيش حين لا تكون هناك أي كوة يقود نورها إلى المستقبل.

ما كتبه اكبيري أحمد عن وزان هو ما لاحظته بكل سفراتي إلى المغرب، هذا البلد العربي العظيم، الذي لا أفهم ولا أجد سببا لعلته، وهو المالك لكل خيرات الدنيا المستدامة الحقيقية، من طبيعة أخاذة بتضاريس متنوعة بخيراتها، من أراض خصبة وسهول وجبال وبحر متوسط ومحيط أطلنطي، وخيرات طبيعية لا تعد ولا تحصى، هذا إلى جانب حضارة عريقة متعددة وثراء ثقافي فني، أدبي، حرفي، وفوق ذلك ثروة بشرية قادرة على خلق المعجزات لو أرادت، ومع هذا يعاني شعبه مشاكل اقتصادية وفقرا كبيرا وقلة إرادة وعزيمة ويأسا محبطا، حتى الكاتب أشار إليها: «هي بلادنا كلها كامرأة فاتنة الجمال لم تجد من يستحقها، فتركت عنوة جمالها عرضة للذبول، أحيانا أقول: إننا لا نستحق هذه الأرض الطيبة التي وهبها الله لنا، لم نعرف كيف نحافظ عليها، كل يوم نعمل على إضاعة جزء مهم من ثروتها، مقابل حسابات سياسوية ضيقة، ومقابل أشياء تافهة وزهيدة للغاية»، «أرضنا طيبة وكريمة، وليس لها مثيل ونظير، فكل ما تتمناه تجده عندنا، الشمس والبحر والخضرة والجبال والصحارى والثلوج والوديان، لكن العيب فينا».

«لا أدري إن كان هذا هو السبب لسوء حال المغرب، الذي أجد وضعه يتشابه مع وضع اليمن، الممتلك أيضا لخيرات مستدامة طبيعة رهيبة، ومع هذا يعاني الفقر والتخلف، وربما يكون انتشار القات فيه والحشيش والمخدرات هو سبب ضياع الشعوب».

وهو ما فضحته رواية اكبيري أحمد في معظم صفحاتها: «نحن كالعائدين من الحرب بعاهات كثيرة. سنظل قابعين في مثل هذه الأمكنة نأكل قليلا وندخن طوال الوقت، سيأتي يوم ويلقوا بنا في تلك المقبرة كالزبالة».

رواية «مصابيح مطفأة» شرحت بمشرط جراح ماهر أحوال المدينة، وكل من فيها، بفهم لكل مشاكلها وأوجاعها بلغة حية وحيوية شابة ونشيطة، فيها تدفق درامي للحكايات، وغوص إنساني عميق في الشخصيات المحكي عنها، وكل جملة «تنشن» وتصوب هدفها في قلب قارئها، وهناك جمل كثيرة استوقفتني عندها: «وماذا يمكنك أن تصنع في هذه البلاد؟ الحرفة التي تعلمناها ماتت، لم تعد تكسبك حتى ما تشتري به حبلا تشنق به نفسك».

وهذا وصف لرجل عجوز يعيش على الحسنات التي توزع في المقابر:

«رجل مسن تيبست جلدته على عظمه من كثرة الشقاء والجوع، يظهر أن مصيره مثل مصير بعض الدود، يحيا من مخلفات الموت».

«التقائي بالعديد من المعارف والأصدقاء، ملأ وأفاض الحبور على محياي، وهلل بالبشر وجه سمائي، حياة آسنة، لكنها مع ذلك مليئة بالدفء والحميمية، وهذا ما أنا بحاجة إليه الآن، وليس أكثر». وربما هذه الجملة الأخيرة تبين وتوضح ما يجعل البؤس والشقاء مقبولين.

back to top