د. سرجون كرم: أكتب بالتقنيّة المناسبة للتعبير عن أفكاري

• يعمل على ترجمة الشعر العربي إلى الألمانية

نشر في 15-01-2017
آخر تحديث 15-01-2017 | 00:09
عندما كان على مقاعد الدراسة الثانوية، خاض د. سرجون كرم غمار الشعر للمرة الأولى، وسرعان ما اكتشف أن هذا النوع الأدبي هو توأم روحه ووسيلة تعبير عن مكنوناته، أفكاره، آلامه وآماله، فاندفع بكليته في هذه المغامرة.
بعد إنهائه أطروحة الدكتوراه في الأدب العربي في جامعة هايدلبرغ الألمانية بعنوان «الرمز المسيحي في الشعر العربيّ الحديث» بالإضافة إلى دبلوم في فيلولوجيا اللغة الألمانية وآدابها كلغة أجنبية، وعمله أستاذاً زائراً في قسم الترجمة والتواصل في مدرسة ماستريخت العليا في هولندا، وأستاذاً متعاقداً مع جامعة هايدلبرغ، أدرك أن الشعر عبارة عن مشاعر تعكس ذات الشاعر إلى أي جنسية أو لغة انتمى، وأن للشعراء قواسم مشتركة رغم اختلاف لغاتهم، فاضطلع بمهمة ترجمة الشعراء العرب إلى الألمانية، وكان عن حق همزة وصل بين الحضارتين العربية والألمانية أغنت المكتبة الشعرية والأدبية بقصائد شعرية مترجمة.
حول تجربته مع الشعر، وتقييمه واقع الترجمة الأدبية اليوم كان الحوار التالي معه.
منذ وعيت على جماليات الكلمة اتخذت من الشعر وسيلة تعبير لك، ومع الوقت توطدت علاقتك به، فهل من أوجه شبه بينه وبين شخصيتك؟

ليس ثمة من نصّ أدبيّ لا يعكس شخصيّة كاتبه، سواءً أكان مبدعاً أم مقلّداً أم ناقلاً. كتابة الشعر ليست هاجسي بل كياني بالكامل وطريقتي في التعبير عن رؤيتي الإنسانيّة والكونيّة ونظرتي إلى الأمور وردّة فعلي تجاهها.

هل يمكن القول إن هذه العلاقة الوثيقة دفعتك إلى التعمق في دراسة الشعر ونتاج الشعراء؟

ليس فقط التعمّق في دراسة الشعر ونتاج الشعراء بل في التراث والحاضر الإنسانيّين، المحلّيين والعالميّين، ذلك لتأمين استمراريّة النصّ الإنسانيّ ولتوسيع المدارك. والاستمراريّة لا تعني بالضرورة إكمال ما بدأ، بل ربّما نقده أو الإطاحة به أو الإضافة عليه وفق معايير التصوّر الإنسانيّ في العصر المعيش الذي تطوّر مع الإنسان وخبرته. قيل الكثير في مفاهيم الشعر والكتابة ولكنّني أرى أنّ «المستوى الفكريّ» يتمّ تجاهله في نقد الشعر العربيّ الحديث بالتحديد. والمستوى الفكريّ لا يتكوّن بالدراسة والشهادات بل من إدراك الإنسان ذاته عنصراً فاعلاً في المنظومة الإنسانيّة الوجوديّة والكونيّة. الفكرة النابعة من هذا المستوى الفكريّ هي عماد الشعر، والصورة الشعريّة إن لم تعكس الفكرة فهي «هلوسة». أحاول دائماً أن أفصل أثناء القراءة بين كوني كاتباً للشعر وبين كوني دارساً ومتخصصاً في الأدب العربيّ، وفي رأيي أنّ من يُعتبرون روّاداً للشعر الحديث، ربّما يتفوّقون في صنعة النصّ وجماليّته، أمّا من ناحية الفكرة فثمة خامات جميلة جداً ضائعة في متاهة الماكينة الإعلاميّة والاستهلاكية في العصر الحديث.

تأملات وفلسفة

ديوانك «هذا أنا» تجمع فيه بين روحانية الشرق وتقنية الغرب، فهل الشعر صناعة بالنسبة إليك؟

ديواني «هذا أنا» اختصار لتجربتي في ألمانيا التي أدخلت في عالمي مفهوم الهدوء والنظر العقلاني والعاطفي اللانفعاليّ جدّاً إلى الأمور. لا أنطلق في الكتابة من كوني فرداً بل من كوني إنساناً فاعلاً في هذه المنظومة التي تضمّنا جميعاً. الشعر في حدّ ذاته نشأ أوّلاً في المعابد يخاطب القدرة الكونيّة اللامحدودة ويخاطب الإنسان في ذاته. ويعبّر عن جري الإنسان وراء الكمال المطلق وعن سعيه إلى غلبة الموت أو الخوف منه. أكتب نفسي بالتقنيّة التي أراها مناسبة للتعبير عن فكرتي. كتبت في بداياتي الشعر الكلاسيكي ولفترة طويلة شعر التفعيلة. حان الوقت لنتخلّى عن قوميّة القصيدة. أعتقد أنّ عدداً كبيراً من الشعراء متيقّنون أنّهم لا يكتبون قصيدة عربيّة، بل قصيدة إنسانيّة بحروف عربيّة.

يحفل الديوان بمواقف تأملية، فهل الشعر بالنسبة إليك وجه آخر للفلسفة؟

الفلسفة بمعناها البحث عن الحكمة ومواجهة ظواهر الحياة بحكمة وحسن إدارة في النظرة والمشاعر.

إلى أي مدى تحمّل شعرك أحلامك وآلامك وانكساراتك ورفضك؟ بتعبير آخر هل الشعر عندك مرآة تعكس ذاتك الحقيقية من دون روتوش؟

لا أختلف عن أيّ إنسان في ضعفه وأحلامه ولا أخفي في شعري واقعيّة هذا الأمر، كما لا أخفي حدود القدرة على تخطيّه. أكتب في أحيان كثيرة أموراً يُفاجأ أصدقائي ومعارفي بها وتجعلهم يشكّكون في هويّتي الحقيقيّة وانتمائي الفعليّ. ولكنّ مواجهة الإنسان بالمخفيّ والمنحرف فيه يؤدّي إلى اتزانه ويعمل على تطوّره.

من لبنان إلى ألمانيا

كيف وصلت إلى احتلال مكانة في قسم العلوم الشرقية والآسيوية التابع لجامعة بون حيث تدرّس اللغة العربية والترجمة؟

عام 2004 أنهيت دكتوراه الدراسات العربيّة ودبلوم اللغة الألمانيّة وآدابها كلغة فيلولوجية أجنبيّة وعدت إلى لبنان. اتصلت بالجامعات الخاصّة فلم أفلح في الحصول على وظيفة لقلّة عدد الطلاب الذين يدرسون الأدب العربيّ ولوفرة الأساتذة فيها. حاولت مع الجامعة اللبنانيّة فكان السؤال الأوّل عن «الواسطة» التي تدعمني. وحتّى فهمت أنّ منطق الحصول على وظيفة قائم على منطق توزيع الحصص الطائفيّة وبعدها الوساطة السياسيّة، كنت بدأت آخذ ثمن علبة التبغ من والدي. عدت إلى قسم الترجمة والاتصالات في كليّة ماستريخت العليا في هولندا، التي توجّهت إليها عام 1997 من جامعتي البلمند أستاذاً زائراً وعملت فيها أثناء دارستي في ألمانيا. من هناك قدّمت طلبي إلى قسم اللغات الشرقية والآسيويّة في جامعة بون وخلال شهرين قضي الأمر وحصلت على منصبي الذي أشغله منذ أحد عشر عاماً. هنا نعدّ الطلاب لشهادات البكالوريوس والدراسات العليا والدكتوراه في الدراسات العربيّة والترجمة، بالإضافة إلى تهيئتهم مترجمين محلّفين من المحاكم الألمانيّة العليا.

تضطلع بمهمة ترجمة الشعر العربي إلى الألمانية، فكيف يمكن ترجمة الشعر وهل تفي الترجمة بنقل أحاسيس الشاعر إلى لغة أخرى؟

الترجمة علم وتقنيّة وظيفتها حسّاسة جداً. باختصار، تقوم الترجمة على نقل التعبير الفكريّ المسبوك في كلمات وجمل إلى لغة أخرى على قاعدة مفاهيم وتراكيب اللغة المنقول إليها. ويمكن اعتبار الترجمة الأدبيّة إحدى أصعب مدارس الترجمة كونها تفرض على المترجم ليس الإحاطة بمعاني التراكيب فحسب بل أيضاً بالروح الجمعيّة التي تقف خلف اللغة. الترجمة الأدبيّة مثل المشرحة تكشف ما لم أكتشفه كقارئ انفعل مع النصّ الأصليّ. أحياناً، يكون النص المترجم أجمل من النصّ الأصليّ وأحياناً معادلاً له. وفي بعض المرّات، تكتشف بعد نقل النصّ وتجريده من اللعبة البلاغيّة في لغته الأصليّة أنّه نصّ فارع لا شيء فيه يُذكر لا من جهة الأحاسيس والفكرة ولا من جهة القيمة الأدبيّة لتقديمه إلى القارئ على الطرف الآخر. في الترجمة نكتشف أنّ اللعبة البلاغية الصرفة والبهلوانيّات اللفظيّة هي خاصيّة اللغة التي كُتب فيها النصّ، أمّا نقله إلى لغة أخرى فأمر آخر. القارئ على الضفّة الأخرى يريد أن يرى الإنسان في النصّ المترجم وما يريد أن يقول.

ما الهدف من هذا المشروع؟

اعتبر المشروع مساهمة منّي لنقل النصّ الجدير بالنقل أو بنقل النصوص العربيّة على أنّها ظاهرة اجتماعيّة يجب دراستها. وفي الحالتين، أساهم على قدر إمكاناتي في النشاط الثقافي على الساحة العربيّة.

شعراء سوريون بالألمانية

أحدث أعمالك ترجمة قصائد لشعراء سوريين إلى الألمانية وصدورها في كتاب «بورتريه للموت- قصائد تحت القصف»، كيف اخترت هؤلاء الشعراء، وهل ثمة شعر نابع من الحرب في سورية أم مجرد قصائد انفعالية، وينبغي الانتظار قبل أن نرى أدباً حقيقياً يعكس صورة الحرب؟

صحيح أنّ الحرب هي أب لكلّ شيء كونها تجمع الماضي والحاضر في تطوّراتهما وتحدّد المستقبل وسيرورته، إلا أنّ الحرب والسلم، الفقر والرفاهية، قصص الحب والمعاناة الشخصيّة والاجتماعيّة، النظرة الوجوديّة والإنسانيّة يمكنها أن تصنع نصّاً – بغضّ النظر عن قيمته في المفهوم النقديّ – ولكنّها لا تصنع شاعراً. القصيدتان السوريّة والعراقيّة متفوّقتان شعريّاً في الفكرة عموماً. ربّما لأنّ التيّارات القوميّة واليساريّة والليبراليّة في هذين البلدين على تماسّ مباشر مع الخصم الذي هو جزء منها، الأمر الذي أدّى إلى رفع منسوب المعاناة والجدّيّة في النظرة إلى الأمور في هذين النصّين. نصوص الشعراء السوريّين التي ترجمناها طبعاً تعبّر عن موقف انفعاليّ، وجدانيّ وفكريّ تجاه الحرب والدمار والموت. بالنسبة إلينا كانت هذه القصائد مادّة مهمّة جداً نقدّمها إلى القارئ الألمانيّ حول شعر كُتب تحت القصف وليس خارجه. بعد انتهاء الحرب ومرور بعض الوقت أعتقد أنّنا سنلاحظ تطوّراً ما ملحوظاً في القصيدة السوريّة، كون الإنسان السوريّ سيراجع اعتبارات كثيرة.

تعمل على أنطولوجيا الشعر العربي وترجمته إلى الألمانية، كيف انبثقت الفكرة وأين أصبح المشروع؟

المشروع بدأ بشكل عفويّ عام 2006 من باب الهروب قليلاً من ضغط العمل الأكاديميّ. ترجمت بعد عودتي إلى لبنان «تراجيديا المنصور» للأديب الألماني هاينريش هاينه التي يتحدث فيها عن معاناة المسلمين بعد سقوط غرناطة قمت بها مع زميلي الدكتور توفيق دواني وصدرت عن دار «السائح» في طرابلس، ثمّ تعاونت مع صديق لي، وهو مؤرّخ ألمانيّ، على ترجمة إحدى المخطوطات اللبنانيّة من القرن التاسع عشر وجدناها مصادفة في المكتبة الوطنيّة في باريس. ثمّ قمت بترجمات فرديّة وأخرى شاركت فيها مع طلاب سابقين، إلى أن تعرّفت إلى زميلي الدكتور سيبستيان هاينه الذي يتكلّم العربيّة بطلاقة وبدوره يفتّش عن فسحة خارج عالم الدراسات والأبحاث، فاتفقنا على أن نستغلّ هذه الفسحة في أمر مفيد. ثمة أكثر من خمسة مشاريع ترجمة حالياً ولكن كوني أقوم بعمليّة النشر على حسابي الخاصّ من دون طلب مساعدة أيّة جهة لا أصدر أكثر من ثلاث ترجمات في السنة.

إلى أي مدى تؤدي ترجمة الشعر إلى التعريف بالشعراء وإعطاء صورة وافية عن نتاجهم؟

الترجمة من الألمانيّة إلى لغتي الأمّ العربيّة أسهل بكثير وتفتح الباب للشهرة وللحصول على الجوائز، إلا أنّني أرغب في ترجمة الشعر من العربيّة إلى الألمانيّة من منطلق أكاديميّ أوّلاً. فمن جهة تصبّ هذه الترجمات في اختصاص الترجمة الأدبية، ومن جهة أخرى تسّهل يوماً ما على الدارسين الكثير ما إذا شاؤوا دراسة الظواهر في العالم العربيّ. وربّما أدّت المدرسة النقديّة دورها في تطوير أو مراجعة اعتبارات كثيرة في مفهوم كتابة الشعر.

كيف تقيّم حركة ترجمة الأدب اليوم، مع العلم أنها كانت ناشطة في العصور القديمة وبلغت أوجها في العصر العباسي؟

يكفي تقرير التنمية الإنسانيّة العربيّة عام 2003 الصادر عن برنامج التنمية التابع للأمم المتحدة للإجابة عن هذا السؤال. فالتقرير يذكر أن عدد الكتب التي ترجمها العالم العربيّ منذ أيام الخليفة العباسي المأمون وحتى يومنا يقارب ما تترجمه أسبانيا في عام. وبناء على إحصائيّ منظمةNext Page Foundation التي تدعم مشاريع ترجمة الأدب ونشره في نحو 35 دولة بالتعاون مع مؤسسة Thalassa Counsulting الألمانيّة ومقرّها عمّان، فإن العالم العربي يعاني محنة، ليس على صعيد الترجمات فحسب وإنّما أيضاً على صعيد ثقافة القراءة.

مؤلفات

للدكتور سرجون كرم ثلاثة دواوين مطبوعة هي: «تقاسيم شاذة على مزاهر عبد القادر الجيلاني، في انتظار موردخاي، هذا أنا».

يترجم مع زميله سيبستيان هاينه حالياً ديوان الشاعر الصقلي ابن حمديس، وفيه يتحدّث عن حنينه إلى صقليّة بعد هزيمة العرب على أيدي النورمان. كذلك يعمل مع المترجمة الألمانيّة كورنيليا تسيرات على ترجمة أنطولوجيا نسائيّة لبنانيّة تصدر بمناسبة يوم المرأة العالميّ 2018، بالإضافة إلى إعداد ديوانه الرابع للنشر والذي ترجمه سيباستيان هاينه، وسيصدر باللغتين العربية والألمانيّة في ألمانيا بعنوان «سندس وسكّين في حديقة الخليفة».

القصيدتان السوريّة والعراقيّة متفوّقتان شعريّاً في الفكرة
back to top