الديمقراطية والشر

نشر في 04-12-2016
آخر تحديث 04-12-2016 | 00:13
إن الديمقراطية المشوهة أو الناقصة بطاقتها التفتيتية المناهضة للنزعة الإنسانية تسدد ضربة قاصمة إلى مفهوم التعاطف المعرفي من حيث هو قدرة على تصور أفكار الآخرين ومشاعرهم، ومن ثم بذل الجهد المطلوب لإحلال الذات محل الآخر.
 منصور مبارك المطيري ما إن سكتت مدافع الحرب العالمية الثانية حتى أطلقت حنا أرندت مؤلفة "أسس التوتاليتارية" مقولتها المشهورة بأن الشر سيكون المشكلة الفكرية الأكبر للعقل البشري، حينذاك- والإنسانية تشد ضمادة إلى وعيها- كان ذلك تصريحا صادما، ربما لكون الشر، مفهوما وفكرة، يقذف في النفس الهلع والرعب، ويستأصل من الذهن إيمان الإنسان ومغادرته عهود الهمجية والبربرية. ولكن المفارقة الكبرى في سياق كهذا، وفيه تثوي معاني عبارة أرندت، أن الديمقراطية هي من دفعت إلى السطح أكبر إمبراطورية للشر خبرها التاريخ الإنساني.

وراهناً، مع ارتجاج النظام الكوني، باتت الديمقراطية بأشكالها المشوهة والقاصرة مصدرا للشر وتنويعاته، فالصعود الهائل لقوى اليمين وعودة الأنظمة السلطوية وبعض النسخ القروسطية للحكم، يشي بأن مشكلة الشر مرشحة للمزيد من الازدهار في العالم وفي ربوعنا تحديدا، وبأن التمارين على الديمقراطية بطرز مبتذلة يسهم بسخاء في نماء هذا الشر. وفيما لا يجدي جلب المقولات المجردة من غابات المعاجم الجافة، يغدو من الأهمية بمكان نبش الأسباب التي تحيل البشر في الفضاء الديمقراطي وحوشا مفترسة.

لقد كان الدرس التاريخي الذي يتعلق الأمر بالديمقراطية أنها محض أداة سياسية، تتحول إلى بطن خصب للشر حين يعتريها النقص والتشويه، وتكون لديها في تلك الحال القدرة الكاملة على إنتاج الفرقة والنزاع والتخندق المذهبي وغياب العدالة، فالديمقراطية حين تكون مبتورة وزائفة فإنها تصيب التعاطف الإنساني في مقتل، ويكفي لتبين فداحة ذلك الإقرار بأن مستوى التعاطف في المجتمع هو الأساس الذي من خلاله يجري فهم محددات السلوك الاجتماعي، وفي مقدمتها الأسباب التي تدفع الأفراد لتبني سلوكيات متوحشة وقاسية تجاه المجتمع والآخرين.

إن الديمقراطية المشوهة أو الناقصة بطاقتها التفتيتية المناهضة للنزعة الإنسانية تسدد ضربة قاصمة إلى مفهوم التعاطف المعرفي من حيث هو قدرة على تصور أفكار الآخرين ومشاعرهم، ومن ثم بذل الجهد المطلوب لإحلال الذات محل الآخر، ومن جانب آخر فإنها تخنق التعاطف الفاعل الذي يجد تجسيدا له في الاستجابة العاطفية التي يبديها المرء حين يتعرف على مشاعر الآخر وأفكاره. وليس من المستغرب أن تترعرع الديمقراطية المشوهة في الحضن عينه الذي تنمو فيه ظواهر اجتماعية تمد الهمجية والوحشية بنسغ الحياة كالطاعة العمياء للأيديولوجيا والسلطوية في نسخهما المتباينة، ولمَ لا، إذ لا يجمع الاثنان سوى كراهية التعاطف الإنساني.

back to top