ما قل ودل: صاحبة الجلالة في قفص الاتهام

نشر في 04-12-2016
آخر تحديث 04-12-2016 | 00:15
أثبتت التحقيقات التي اعتمد عليها الحكم وأقام عليها إدانته لنقيب الصحافيين وزميليه أنهم سمحوا للصحافيين المعتصمين بالإعلان عن اعتصامهما اعتصاما مفتوحا داخل مقر النقابة على موقعها الإلكتروني، وهذا ينفي الإيواء والإخفاء.
 المستشار شفيق إمام

حبس نقيب الصحافيين في مصر

يقول المولى عز وجل في محكم آياته: "وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ". صدق الله العظيم.

استعدت هذه الآية الكريمة وقد صدمني، كما صدم كل الحقوقيين في مصر والعالم، الحكم الصادر بحبس كل من نقيب الصحافيين وسكرتير عام النقابة وعضو مجلس النقابة ومقرر لجنة الحريات فيها، بحبسهم سنتين مع الشغل، لإدانتهم بإخفاء وإيواء اثنين من الصحافيين متهمين بالاتفاق على القيام بحملة ممنهجة لنشر أخبار كاذبة، والدعوة إلى التظاهر في الميادين العامة ضد اتفاقية تيران وصنافير، عبر قنوات التواصل الاجتماعي، وقد لاذا إلى النقابة بعد صدور أمر بضبطهما وإحضارهما.

وهو الحكم الذي أصدرته محكمة جنح عابدين بتاريخ 19/ 11/ 2016 والذي دان النقيب وزميليه، بإعانتهم الصحافيين المتهمين في القضية المذكورة، بإيوائهم في النقابة للفرار من وجه القضاء.

وقد أسس الحكم قضاءه بحبس النقيب وزميليه على ما ثبت للمحكمة من شهادة الشهود والتحريات، وعلم الثلاثة بكون الصحافيين مطلوباً ضبطهما، وأن النقيب وسكرتير عام النقابة قاما بتجهيز قاعة بيكار بالدور الرابع بالبناية لمبيتهما.

وقديما كان يطلق على الصحافة أنها صاحبة الجلالة، في عصر كانت الملكية هي النظام الشائع في الحكم، ولما تغيرت أنظمة الحكم أطلق عليها السلطة الرابعة، إحساسا بدورها المهم، ذي الأثر البالغ في تكوين الرأي العام، الرقيب على السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية، ولهذا اخترت هذا العنوان.

الإيواء والإخفاء

وحاصل وقائع قرار الاتهام الموجه إلى النقيب وعضوي مجلس النقابة، الذي دينوا على أساس ما ورد فيه من اتهامهم، إعانة الصحافيين اللذين قررا الاعتصام بمبنى النقابة على الفرار من القضاء، بإيوائهما بمقر النقابة، وطلبت النيابة العامة عقابهما بالعقوبة المقررة للجريمتين المنصوص عليها في المادتين 144 و145.

وتنص أولاهما على أن كل من أخفى بنفسه بواسطة غيره شخصا صادرا في حقه أمر بالقبض عليه وكذا كل من أعانه بأي طريقة كانت على الفرار من وجه القضاء مع علمه بذلك.

وتنص ثانيتهما على عقاب كل من علم بوقوع جناية أو جنحة أو كان لديه ما يحمله على الاعتقاد بوقوعها وأعان الجاني بأي طريقة على الفرار من وجه القضاء... بإيواء الجاني.

وقد أنزلت المحكمة العقوبة الأشد المنصوص عليها في المادة 144 وهي الحبس لمدة سنتين، لارتباط الجريمتين:

وهي جريمة يتكون ركنها المادي من عنصرين مجتمعين:

أولهما: الإيواء

وثانيهما: الإخفاء

وينتفي في هذا الاتهام عن المتهمين كلا العنصرين، كما يبين مما يلي:

مقر النقابة هو بيت كل الصحافيين

يدخله الصحافيون ويخرجون منه في كل وقت دون إذن من نقيب الصحافيين، ولا يملك نقيب الصحافيين، أن يمنع أحدا منهم من دخول مبنى النقابة أو الاعتصام به، ولو كان مخالفا له في الرأي، ولو لم يكن راضيا عن هذا الاعتصام، لأن التنظيم النقابي– وفقا لقضاء المحكمة الدستورية العليا- يعد تجمعاً منظماً تتولد عنه كل الحقوق التي ترتد في أساسها إلى حرية الاجتماع، ومبناه بالضرورة الحوار والإقناع باعتبار أن تتنوع الآراء في شأن المسائل التي يثور حولها الجدل، وكذلك تعددها يفترض التعبير عنها والاستماع إليها، ليكون اختلافها فيما بينها، ومقابلتها ببعض، لازما لتقرير الحلول التي توفق بينها قدر الإمكان أو تبدلها بغيرها، فلا يكون العمل النقابي إملاءً أو التواءً، بل تراضيا والتزاما، وإلا كان مجاوزاً لحدوده.

(القضية رقم 22 لسنة 17 قضائية "دستورية" بجلسة 3/ 2/ 1996 ج7 "دستورية" ص 446).

وغني عن البيان أنه إذا كان الأمر كذلك بالنسبة إلى التنظيم النقابي بوجه عام، فإن نقابة الصحافيين تتقدم كل التنظيمات النقابية، وهي الحصن الحصين لكل الآراء والتوجهات ولكل فئات المجتمع وأطيافه وألوانه، وقلعة الحرية.

وترتيبا على ذلك فإن عنصر الإيواء يكون منتفيا في هذه الجريمة، فالنقيب لا يملك منع اعتصام أي صحافي في النقابة أو منع دخوله، ولا يملك القبض عليه واصطحابه إلى النيابة العامة برفقة المستشار القانوني للنقابة وأحد أعضائها، كما جاء على لسان حاتم زكريا حلمي عضو مجلس نقابة الصحافيين، وأمين عام اتحاد الصحافيين العرب بالتحقيقات، الذي يقول: إن الواجب اتباعه في مثل هذه الحالات هو توجيه الصحافيين إلى النيابة برفقة المستشار القانوني للنقابة وأحد أعضائها، وهو ما استندت إليه المحكمة في إدانة المتهمين وحبسهما في الجريمتين المنصوص عليهما في المادتين 144 و145 من قانون العقوبات.

فليست لدى النقيب ولا أي من أعضاء مجلس النقابة الضبطية القضائية أو القوة الجبرية لإجبار المتهمين المعتصمين، على تسليم أنفسهما للسلطة.

العنصر الثاني: الإخفاء

وهو ما استهلت به المادة 144 سالفة الذكر أحكامها بأن "كل من أخفى بنفسه أو بواسطة غيره شخصا... للفرار من وجه القضاء".

ولم يكن هناك إخفاء في الواقعة التي اتهم بها النقيب وزميلاه والصادر فيها الحكم بحسبهم، فقد ثبت من التحقيقات التي اعتمد عليها الحكم وأقام عليها إدانته لهم، أن المتهمين الثلاثة سمحوا للصحافيين المعتصمين بالإعلان عن اعتصامهما اعتصاما مفتوحا داخل مقر النقابة على موقعها الإلكتروني الذي يرأس تحريره المتهم الثالث، قبل التأكد من حقيقة صدور أمر ضبط وإحضار لهما.

ومثل هذا الإعلان المنشور على الموقع الإلكتروني للنقابة لهو دليل قاطع على نفي الإخفاء الذي لا تقوم الجريمة إلا به.

انتفاء القصد الجنائي

والبين من أحكام المادتين 144 و145، أن كلا الجريمتين المنصوص عليهما فيهما لا يكتفى فيهما بالقصد الجنائي العام، والذي يكفي في أغلب الجرائم، بل يشترط إلى جانب هذا القصد العام، قصدا جنائيا خاصا، قرره المشرع لما في فعل إخفاء إيواء محكوم عليه أو متهم من خطورة على حسن سير العدالة، هو أن تنصرف نية الجاني إلى النتيجة التي تترتب على إيواء المتهمين وإخفائهما، وهي نية إعانتهما على الفرار من القضاء.

وهو أمر محل شك تماما، وقد ثبت قيام نقيب الصحافيين بالاتصال بالمسؤول في الأمن الوطني، للتحقق من صدور قرار قضائي بضبط وإحضار المتهمين، وهو ما أثبته الحكم في وقائعه والأسباب التي بني عليها.

وقد قضت المحكمة الدستورية العليا بأنه يتعين في الجرائم العمدية أن يكون الدليل على توافر عناصرها جميعا، يقينياً، لا ظنيا أو افتراضيا حتى لا يهدر مبدأ افتراض البراءة في الإنسان أو يخل بالحرية الشخصية التي اعتبرها الدستور حقا طبيعيا لكل إنسان.

(حكم المحكمة الدستورية العليا بجلسة 20 مايو سنة 1995 فى القضية رقم 5 لسنة 15 قضائية دستورية– مجموعة أحكام المحكمة الدستورية العليا– الجزء السادس– صفحة 686).

وللحديث بقية حول توقيع أقصى عقوبة على المتهمين، وحول ما يحيط بالموضوع، من حقائق دستورية وقانونية أخرى.

اتصال النقيب بمسؤول الأمن الوطني للتحقق من صدور قرار قضائي بضبط وإحضار المتهمين ينفي عنه التهمة
back to top