استمتعوا بقراءة صفحات من روايتَي «دوم زين» بقلم عقل بن مناور الضميري و«كل الناس كاذبون» لألبرتو مانغويل.

نشر في 22-10-2016
آخر تحديث 22-10-2016 | 00:05
No Image Caption

دوم زين

قبل انطلاق أحد برامج النشاط الاجتماعي المقرّرة كرحلة إلى نبا – إحدى المدن الساحلية – في يومي الإجازة الأسبوعية، سمع سليمان أن البنات الثلاث سيركبن مع نايف، في هذه الرحلة الطويلة والتي قد تكون فيها سباحة في البحر. أقسم سليمان أنها لن تمرّ عليهم بسلام.

وفي صباح يوم الرحلة، انتشرت أخبار الاعتداء على السيارة المرسيدس الخاصة بنايف، تهشّم زجاجها الخلفي والأمامي، ولحق بها الكثير من التخريب.

أعدت الشرطة تقريراً عن الأضرار التي لحقت بالسيارة، وجاء نايف متأخراً إلى المكتب والأسى واضح عليه؛ ما أثار بهجةً لدى سليمان، وهو الذي حضر إلى المكتب مبكّراً، ولم يسبقه سوى أحد العمال، وتظاهر بالانشغال حين دخول نايف، وتعمّد النظر إليه وكأنه تفاجأ بوجوده، وقام معانقاً ومواسياً لما أصاب السيارة والتي شاع خبر الاعتداء عليها، بل زاد شتيمة وسباباً للمجرمين الذين اعتدوا من دون وجه حق على سيارة لم تكن خصماً لأحد، ولكنه الحقد كما قال!

علي يستمع لكل ذلك وقد أيقن أن الرجل يشتم ويسب نفسه، فما اعتدى غيره، وتذكّر كلام سليمان في ذلك اليوم الذي كانا في المطعم معاً عندما دخل نايف وقبل أن يتعرفا إليه، كأنه يسمع كلامه قبل لحظات.

لم يُعلّق علي بشيء أكثر من قوله: ستعرف الشرطة والتحريات ذلك الفاعل الجبان قريباً، لأن سكن نايف بجوار البنك، ولا شك أن كاميرات المراقبة سجّلت المشهد بوضوح، قالها وهو ينظر مباشرة في عيني سليمان.

هذا التعليق أوقع سليمان في ورطة حقيقية لم يستطع استيعابها، رغم أنه حاول الخروج من الموقف بقوله: يا شيخ إن شاء الله، وعساهم يلقونهم هالعمال الذين آذوا الناس، وإلا الشرطة ترى ما حولك أحد. لم يعلّق علي على ذلك، إلا أن ابتسامته زادت سليمان اضطراباً.

توجّه علي إلى نايف وقال بصوت واضح: عسى في الأمر خيرة، سيارتي كبيرة وتتسع لنا مع البنات، نسافر سوياً.

هذه التي أصابت سليمان بالجنون الحقيقي، وتمتم.. يعني من قبل كان نايف معهن، ولم أستطع التحمّل، وهالحين علي؟

• آه يا القهر.. آه يا القهر.

لحظات ويفتح مدير الجامعة مكتبه..

• سلامات يا دكتور وش سالفة سيارتك؟

• الله يسلّمك يا طويل العمر، الحمد لله الموضوع بسيط، والإخوان في الخدمات قالوا لي إنهم يعالجون الموضوع، ويكملونه مع التأمين والشرطة.

المدير: طيب والسفر إلى نبا؟

• طال عمرك تيسّرت، سنذهب في سيارة الأخ علي.

• المدير: لا.. لا، أنا اليوم مسافر، خذوا سيارتي أريَح لكم، وخلّك تشوف الفرق بين المرسيدس والـ BMW، ترى سيارتي أزيَن من سيارتك يا دكتور.. ههههه.

نايف: أكيد طال عمرك، بس ما يحتاج.. الله يسلّمك.

المدير: لا، لا.. خذ المفتاح، وهي الآن جاهزة، لا تتأخروا عن الرحلة، وابقوا على اتصال معي.

نايف: إن شاء الله، طال عمرك.

يا ربي، يا ربي... ترنّح سليمان، وسقط على الأرض على بعد سنتيمترات من حافة المكتب المعدنية.

المدير: سليمان، سليمان، سلامات.. فيك شيء؟

سليمان: لا، لا.. طال عمرك ما في شيء، بس تعب خفيف، يمكن ارتفع الضغط عندي.

المدير: الحمد لله على السلامة.. روح لعيالك واسترح اليوم، وبكره لا تجي.

سليمان: إن شاء الله، إن شاء الله.

يتمتم أروح لعيالي وهم للبحر!! لا.. بعد.. بكره لا تجي، تراه الجمعة، عطلة للناس كلهم ولا تجي، آه آه.

علي: يا الله يا شباب، مشينا.

سليمان يتمتم: عسى تمشي روحك، والله ما تتهنون معهن.

علي: يا دكتور هيّا لا تتأخر، ترى أنت اللي تسوق.. أنا أريد أسولف مع البنات أحسّن مستوى لغتي، فرصة في الطريق.

سليمان: يا ربي، تريّحني.

علي: يا دكتور تتوقع اللي ما يعرف يختار أسماء لأولاده يقدر يعمل أشياء زينة؟

• هذا موضوعنا يا رجّال، عندنا وقت نتكلم فيه، هيّا مشينا، البنات جاهزات لا نتأخر عليهن.

علي: إلى اللقاء يا سليمان لا تجي بكره، ترى سمح لك معالي المدير... هههه.

ما شاء الله.. ما شاء الله، صحيح الـ BMW أحسن من المرسيدس. هكذا كان تعليق نايف عندما بدأ يقود سيارة مدير الجامعة.

علي: يا دكتور لا تقعد تجامل، لن أقول لمعاليه عن مدحك هذا، فقط حافظ على السرعة النظامية، والسيارة ما يحتاج لها شهادة منّا.

• صحيح سيارات تستاهل قيمتها، هذي الشعوب اللي تنتج ما يستحق الفخر، ما شاء الله تمشي ميتين كيلو ولا كأنها تمشي ثمانين!

علي: يا رجّال لا تسرع، ألا تحترم النظام؟ ثم ما الذي يدعوك إلى السرعة؟

نايف: قل لي لِمَ تكره السرعة؟ أخْبَرَك على الكامري مثل الصاروخ، وهالحين على BMW لا تسرع، لا تسرع.

علي: يعني ما أنت عارف؟ طيب عند وصولنا ما تدري أن كلاً يروح إلى غرفته، نحن الآن في غرفة واحده مع هالنعمة وإلا ما أنت شايف..؟ هههه.

نايف: الله يقطع شيطانك يا أبو فهد. لا بالله... أمشي أقل من السرعة القانونية. المية زينة وإلا الثمانين أزين؟ هههه.

علي: يا أخي الأربعين بعد تصلح... هههه.

• إلا.. قل لي يا بو فهد وش شهادتك؟

• أنا مخلّص ماجستير.

• ما شاء الله، من أي جامعة؟

• من جون هوبكنز.

• صحيح؟ أوه.. طيب تطلب مني الصباح السواقة وتريد تحسن لغتك مع البنات... يا مجرم... هههه.

• يا رجّال أكيد تتحسن لغتي، أجل مع سليمان تتحسن؟ بعدين هو يعرف المقصد، خلّه ينقهر.

• يا شيخ حرام عليك.

• لا، لا.. أنت ما تعرفه.

• والله ما أدري عنكم.

• المهم خلّنا هنا لا تطلعنا من هالجو، ترى هذا يساعد في تحسين الدراسة.

• يا رجّال؟

• نعم أنا أخبر منّك وستتأكد.

• يا الله عسى خير.

• إيه.. بس لا تسرع.

• هههه.

منذ غادرت السيارة سكن المستشارين، وعلي لم يشاهد شيئاً في الشارع، كان وجهه طوال الوقت ملتفتاً إلى المقعد الخلفي، حتى أن نايف حذّره من آلام سيعاني منها في رقبته، وبعد حوالى الساعة اقترح نايف أن يركب في المقعد الخلفي وإحدى البنات تجي مكانه.

• أيش رأيكم يا بنات؟

علي: أنا موافق، والرؤية هنا أفضل. أنا سافرت على هالخط كثير، والله فكرة!

قالت البنت التي تجيد العربية، أنا أجلس مكانه.

• هيا وقّف، وقّف. علي يطلب من الطبيب السائق.

وتبادل المقعد مع ألين، وكانت تجلس في الوسط، فأصرّ على أن يأخذ المقعد نفسه، لأنَّ الحق.. حق، كما قال: هي أخذت مكاني، وأنا آخذ مكانها.

• تدري يا دكتور؟ فعلاً الـ BMW روعة يا زينها؟ بس عيبها السرعة؟ يا أخي لو تصميمها ما يتعدى الستين في الساعة؟.. هههه.

نايف: عندما قلت قبل شوي إنها سيارة زينة، قلت إني أجامل وأنك ما راح تقول للمدير، ما الذي غير رأيك الآن؟

• الذي غير رأيي؟ إذا جلست في مكاني تعرف.. هههه. بس تكفى لا تسرع!

التفت نايف إلى ألين، وقد كسب موقعاً لم يخطط له، وترك زميله الذي تقمّص دور المرشد لجارتيه، يتحدّث بعباراتٍ أكثرها إذا التفتنا إلى اليمين نشاهد، وبعد قليل إذا التفتنا إلى الشمال، ومع كل التفاتة يميل بجسمه كاملاً على الجار مدعياً ألماً من أثر جلوسه في المقعد الأمامي الذي أجبره على النظر إلى جهة واحدة طول الوقت.

وبعد حديث مشترك قصير، صار الحديث منعزلاً بين المجموعتين، لكنه في المقعد الأمامي أكثر جديّة وانسجاماً، تخلّله قليل من الأحاديث عن المشاهد على الطريق، وأكثره عنهما وعن دراستيهما واهتماماتهما وأسرتيهما ونظرتهما إلى المستقبل، بل وحتى أحلامهما، وكذلك بالتعليق على مواقف كثيرة تعرّضا لها في جلسات العمل، واللقاءات والزيارات الميدانية التي تشاركا فيها في الأشهر السابقة، منذ بدء الدراسة، فكانا في رحلة استكشاف معمّق، كل طرفٍ للطرف الآخر، لم تنته إلا بالوصول إلى الشاليه المحجوز في مكان مميّز على البحر مباشرة في دار الضيافة الحكومية، وقد تم تجهيزه بعناية فائقة، واستعداد مسبق لكل احتياجات الفريق.

وصل أعضاء فريق الدراسة الأجانب بسيارتهم قبل ساعات إلى الشاليه لأسباب واضحة، إذ لم يتأخروا في تحركهم صباحاً، وهو الذي لم يتمكن منه نايف، بسبب الحادث لسيارته؛ لكن السبب الرئيس هو معدل السرعة التي كان يتحرك بها طول الطريق.

اكتشف علي أن لذلك التأخير ميزة إضافية، فقد بادر زملاؤهم منذ لحظة وصولهم إلى السباحة واللعب كثيراً قبل وصول مجموعة الـ BMW؛ ما جعلهم لا يرغبون في البقاء في البحر لأكثر من ذلك؛ إذ بلغ بهم التعب والجوع كثيراً، فانصرفوا لتناول الطعام، والراحة داخل الغرف المخصّصة لهم.

وهكذا، وجد علي ونايف نفسيهما في عالم حقيقي من الخضرة والماء والوجه الحسن، وشعر علي بأنه قد يحسد نفسه، فدعا بصوتٍ عالٍ متجهاً نحو البحر، راجياً الله ألا يغيّر عليهم. وفي اللحظة نفسها يُجيبه نايف: آمين، لكن يا أخي، ترى الدعاء يكون بالتوجّه إلى القبلة لا إلى البحر..! هههه.

• خلاص سأكون في المكان الصحيح هناك، ويتجه شمالاً ثم يلتفت إليهم.. هالحين اتجاه القبلة. زين هالحين؟

بعد ساعة من السباحة واللهو، أخذت آثار السفر والتعب تظهر على الجميع، فما كان أجمل من الاستراحة على الرملة البيضاء، لكنها لم تكن راحة لعليّ الذي لم يستطع أن يغفو لحظة، رغم أن الجميع يستمتع بخدر ما قبل الغفوة، وقد أخذ كل الوضع المريح أو الجنب الذي يريحه كما يقال، وعليّ يمشّط المكان بعينيِّ صقرٍ أو كاميرا الجوال التي تحتفظ بجمال الزمان والمكان والناس.. لا تصح ذكرى من غير توثيق، هكذا يكلّم نفسه؛ وها هو يصوّر ما حوله، مطمئناً ومستخدماً «الزوم» في التقريب كثيراً؛ وفي إحدى الجهات التي يريد تغطيتها من مكان أفضل، لاحظ وجود شخص لم يكن من أعضاء الفريق، رغم أن الشاليه كله محجوز لهم، فمَن هو؟ ومَن سمح له بالدخول؟

كل الناس كاذبون

مرافعة الدفاع

«أيّ حقيقة حدودها هذه الجبال؟ إنْ هي إلاّ أكذوبة لدى العالم القائم وراءها».

ميشيل دي مونتين دفاعاً عن ريمون سوبون

أصارحك بالقول إنّي آخرُ من يتعيّن عليك أن تسألهم بخصوص أليخاندرو ببيلاكوا. إذ، يا عزيزي ترّاديّوس، ما عساي أخبرك عن شخص لم أرّه منذ ثلاثين عاماً؟ أقصد أنّني لا أكاد أعرفه، وحتى لو كنتُ أعرفه فمعرفتي به ضبابيّة. صدقاً، لم أرغب في معرفته أكثر. أو بالأحرى: لقد عرفتُه جيداً، أقرّ بذلك الآن، ولكن بطريقة فيها شيء من السهو، أقرُّ على مضض، إذا جاز التعبير. شابَتْ علاقتنا مسحةٌ من المجاملة الشكلية (لتعذّر كلمة أفضل)، إضافة إلى ذلك الحنين المعهود الذي يتقاسمه المغتلبون. لا أعلم إن كنت تفهمني. لقد رمى بنا القدر معاً، إذا صحّ القول، وإذا سألتني الآن، مستحلفاً، إن كنّا صديقين، فعليّ الاعتراف بافتقادنا إلى أي شيء مشترك، ما عدا كلمتي «الجمهوريّة الأرجنتينيّة» المختومتين بحروف ذهبية على جوازات سفرنا.

ما الذي يجتذبك إلى هذا الرجل، ترّاديّوس؟ أهي طريقة مونه؟ أهي تلك الصورة، التي لا تزال تراود أحلامي، وإن لم أكنْ قد رأيتها بعينيّ، صورة ببيلاكوا راقداً على الرصيف، بجمجمةٍ مهشَّمة ودماؤه تجري في الشارع إلى مصرف المياه، كأنّها تريد الهروب من جسده الذي فارق الحياة، كأنها ترفض أن تكون جزءاً من جريمة بشعة كهذه، جزءاً من نهاية جائرة كهذه لم يتكهّنْ بوقوعها أحد؟

لا أظنّ. أنت صحافيّ، مولَعٌ بالحياة. وقد أقول إنك رجل من العالم الذي يمورُ بالحيوية، ولستَ مولعاً بنعي الأموات. أنت بعيدٌ عن ذلك كلّ البعد. الحقيقة هي ما تسعى إليه، الدليل الحيّ. تريد أن تضع هذه الوقائع أمام قرّائك، حتى لو لم يكن اهتمامهم بشخص مثل ببيلاكوا كبيراً، فهو رجل كانت جذوره في ما مضى ضاربةً في تراب بواتو، شارونت (وعلينا ألاّ ننسى أن هذه منطقتك أيضاً، ترّاديّوس). تريد لقرّائك معرفة الحقيقة، تلك فكرةٌ خطيرة، لعلها الأخطر بين الأفكار كلها. تريد أن تردَّ الاعتبار لببيلاكوا، وهو ثاوٍ في القبر. تريد أن تمدّه بسيرة جديدة جمّعتها من ذكريات الآخرين. وهذا كلّه لسبب يدعو إلى الريبة، ألا وهو أن أمَّ ببيلاكوا تنحدر من ركنٍ في العالم هو نفسه الذي تنحدر منه أنت. إنّها قضيّة خاسرة، يا صديقي! هل تعرف بم أوصيك؟ جِد شخصيّةً أخرى، بطلاً مشوّقاً أو نجماً فضائحياً قد تفتخر به بواتو، شارونت حقاً، مثل ذلك الشاذّ وعاشق النساء بيير لوتي أو ذلك المتحرّي الألمعي الأصلع، ميشيل فوكو، المذلّل لدى جامعات اليانكي. بمستطاعي التخمين أنك متمكّن من كتابة مقالات متبحّرة معرفياً، ترّاديوس، وأنا أعرف هذه الأشياء. لا تضيّع وقتك بالسفاسف، أو الخواطر المشوّشة لرجل متقلّب المزاج بدأ يشيخ.

لكن: لماذا أنا؟

دعنا نرَ. لقد ولدتُ في واحدة من المحطات الكثيرة لنزوح مديد انتقل بعائلتي اليهودية من السهوب الأسيوية إلى سهوب أميركا الجنوبية؛ خلافاً لنا، سافرت عائلة ببيلاكوا مباشرة من برغامو إلى ما سوف يصبح إقليم «سانتا في» بحلول نهاية القرن الثامن عشر. في تلك المستعمرة النائية، أولئك المستوطنون الإيطاليون المغامرون أسّسوا مسلخاً؛ وتخليداً لمأثرتهم الدموية، في عام 1923 خلع رئيس بلدية بينادو تويرتو اسم ببيلاكوا على واحد من الشوارع الصغرى للمنطقة الشرقية. وفي احتفال وطني، التقى والد ببيلاكوا بالفتاة التي ستغدو زوجته، مارييتا غيتّون؛ تزوّجا في غضون بضعة أشهر. عندما كان عمر أليخاندرو سنة واحدة، قتل والده في كارثة السكك الحديد سنة 1939، فقرّرت جدته من جهة أبيه أن تأخذ الولد إلى بوينس آيرس حيث فتحت دكاناً للأطعمة الجاهزة. روى لي ببيلاكوا في إحدى المرّات (وكان، كما تعلم، موسوساً تجاه التفاصيل بطريقة مزعجة) قائلاً إن أشغال العائلة لم تقتصر دائماً على الكروش وشرائح اللحوم الباردة، إذ قبل قرون، هناك في إيطاليا، كان أحد أفراد آل ببيلاكوا جرّاحاً في بلاط كاردينال أو أسقف. كانت السنيورة ببيلاكوا فخورة بتلك الجذور المتميّزة والغامضة، ميّالة إلى تجاهل آل غيتّون الهوغونوت «البروتستانت». وأحسبها لم تفوّت قطّ قداساً واحداً طوال سبعين عاماً، حتى داهمتها النوبة القلبية التي تركتها مقْعدة.

صديقي ترّاديّوس، أنت تظنّني قادراً على أن أرسم لك «بورتريهاً» لببيلاكوا يكون ملهماً ونابعاً من القلب وصادقاً في آنٍ معاً؛ وتظنّ أن بمستطاعك سكب كلماتي على الورق كما هي، مضيفاً إليها مقداراً ضئيلاً من نكهات بواتييه. لكنّ ذلك بالتحديد هو ما لا أستطيع القيام به. بالتأكيد كان ببيلاكوا يثق بي؛ لقد استأمنني على بعض من التفاصيل الشخصيّة للغاية في حياته، وهو يحشو رأسي بترّهات القصص الحميمة بكلّ ضروبها، لكنّي، والحق يقال، لم أستوعب قطّ لماذا كان يخبرني بكلّ هذه الأشياء. أستطيع أن أؤكد لك أنّي لم أفعل شيئاً لأشجعه على ذلك، بل على العكس. وربما توسّم فيّ، أنا رفيقه ابن بلده، اهتماماً لا أساس له في الواقع، أو قرّر أن يفسّر افتقاري الواضح إلى العاطفة بوصفها براغماتية. ثمة شيء واحد مؤكّد: كان يتردّد على بيتي في أية ساعة من الليل أو النهار، متناسياً عملي أو حاجتي إلى كسب لقمة العيش، ثمّ يبدأ بالحديث عن الماضي، وكأنّ دفق الكلمات هذا، كلماته هو، سوف يخلق له من جديد، رغم كل شيء، عالماً كان يعلم أو يشعر بأنه قد ولّى إلى غير رجعة. كان من العبث الاحتجاج بأنني لستُ منفياً مثله. فقد غادرتُ الأرجنتين عندما كنت أصغره بعشر سنوات، مراهقاً يهفو إلى السفر. وبعد استقرارٍ مؤقت في بواتييه انتقلتُ إلى مدريد، آملاً أنها ستكون مكاناً صالحاً للكتابة، ملقياً على كاهليّ ببعض من ذلك الاستياء الذي لا مناص للأرجنتينيين من الشعور به تجاه عاصمة البلد الأمّ «إسبانيا»، في حين أنهم لا يتنازلون ليعيشوا حياة عادية في سان سباستيان أو برشلونة.

لا تأخذ هذه الملاحظات على محمل السوء: لم يكن ببيلاكوا واحداً من أولئك الذين يزرعون أنفسهم على أريكتك ثم تتعذّر زحزحتهم. على العكس، كان يبدو بطبعه عاجزاً عن أيّ وقاحة، وذلك هو السبب الذي جعل من مطالبته بالمغادرة أمراً بالغ الصعوبة. كان لببيلاكوا سماحة بالفطرة، كياسةٌ متواضعة، حضورٌ رهيف. كان طويلاً وممشوقاً، يتحرّك ببطء، مثل زرافة. كان صوته أجشَّ ومطمئناً في آن. كانت عيناه بجفنيهما المثقلتين، اللاتينيتين النموذجيتين، برأيي، تضفيان عليه مظهراً ناعساً، وتثبّتان عليك بطريقة يستحيل معها أن تشيح عنه ناظريك حين يتحدّث إليك. وإذاً مدّ يده ليشدّ كمّك، بتلك الأصابع الرقيقة الملطَّخة بالنيكوتين، أسلمتَ نفسك للشدّ، عارفاً أن لا طائل من وراء أيّ معاندة. وريثما تحين ساعة التوديع ما كنتُ لأنتبه إلى أنّه قد انتهى بي إلى تبديد عصر يومٍ بأكمله.

back to top