حفيد سندباد

نشر في 03-09-2016
آخر تحديث 03-09-2016 | 00:00
No Image Caption
عشيةُ ظهور نتائج امتحانات الثانوية العامة كنتُ أسير قلقاً غامضاً. لاحظت ذلك معشوقة صباي، فِريال، عندما كنّا نختلي سرّاً في كثيبٍ رمليٍّ قصيٍّ في ضواحي عدن، في تلك الليالي الفردوسية من منتصف السبعينات الجهنمية.

ولأنها كانت تعشقني كما أعشقها، بِوَلهٍ جنونيّ متطرّف في ذلك العمر، فاجأتني، وهي تبادر بكلّ ما تمتلك من مقدرةٍ على التهدئة النفسيّة، بمغامراتٍ وانزياحاتٍ عاطفيّةٍ ناعمة لانتزاعي من دوّامة خوفٍ أرزق لا يرحم.

مبادراتٌ حميدةٌ خالدة...

لم تتكلم كثيراً، كانت خجولةً قليلاً، لكنها كانت عاشقةً صادقةً مخلصة. لمعةُ غشاءِ دمعةٍ لا أعرف تفسيرها حتى الآن كانت تتلألأ في عينيها تحت قمرٍ سَنِيٍّ، قريب من رؤوسنا، شاسعٍ حنون.

ما لم تكن تعرفه فريال هو أني قرّرت مع صديقين أن ننتحر بعد ظهور النتائج مباشرة!

نعم، قرّرنا أن ننتحر!...

وانتحرنا فعلاً...

ما يؤسفني اليوم (30 يوليو 2027) هو أني استيقظت بعد كابوس الانتحار مباشرةً، من دون أن أعرف كيف يعيش المرء الساعات الأولى التي تلي ما بعد الحياة!

رحلةٌ جديدة؟ عدَمٌ كليٌّ أبدي؟...

أخشى اليوم أن يكون هذا الحلم الانتحاري نذيرَ سوءِ طالع لمن سيبدأ مثلي حياته الثالثة (أي: حياة التقاعد التي طالما انتظرتها) بعد شهرٍ فقط. لا سيّما وأن الأخبار الداكنة في صحف البارحة، والقلق الذي تفشّى في أحاديث الناس هذا الصباح، وفي ركضهم نحو البنوك لسحب ودائع ومبالغ نقدية، لا تبشّر بخير.

العالم هكذا يوشك على الانفجار عشية تقاعدي، وأنا، علوان الجاوي (مسيو ألوان، كما تسمّيني جارتي الفرنسية)، أتناول فطوري وحيداً في ركن شرفةِ مقهى في حيّ الماريه الباريسي، على تخوم شارع “الفرنج البرجوازيين”، أستعيد متعة حلم البارحة وكابوسها أكثر من مرّة، وأحدِّق في من حولي. قلقٌ وغير قلق؛ أقلقُ في الحقيقة وأرتجف عندما لا يقلق أحد، وأهربُ من خوفي بنجاحٍ ملحوظٍ عندما يرتعش الآخرون من الذعر والهلع!

أحدِّق، في الحقيقة، في أربع فتيات أمامي مباشرةً في الشرفة، يغمرهنّ ضياء الشمس الدافق. يواجهن أصدقاء أو صديقات، أراهم جميعاً، أكثر أو أقل، بشكل جانبي.

الفتيات الأربع بفانيلات وفساتينِ صيف لم تعرف باريس صيفاً بسخونته. الشمس تطحن المدينة من صبح الله الباكر. التغيّر الحراري للمنظومة البيئية ساطعٌ كما يبدو، جمريٌّ خانق.

إحداهنّ فرنسية تتغنّج برشاقة، بعينين خضراوين لامعتين تشفطان النظر، وبفانيلة سوداء وبنطلون جينز شبابيٍّ بلا لون تنتشرُ فيه غيومٌ من الثقوب الأميبيّة المتناثرة؛

الأخرى ذات علاقةٍ ما بجنوب شرق آسيا، بفستانٍ رهيف حريريٍّ أحمر ناصع تتناثر عليه أزهار بيضاء، بارعةٌ كما يبدو في صناعة الهدوء والمرح وقت المصائب؛

الثالثة طويلةٌ، شقراء وديعة، بعينين زرقاوين، من شمال أوروبا بلا شك، سويديّة النبرات، تتلألأ بفانيلةٍ زرقاء سماوية تتناغم مع بياضها الاسكندنافي وتزيد من اشتعاله؛ والرابعة إيطاليةٌ من وابل نبراتها، حبشيّة الدم، نحاسيةُ اللون، بنصف فانيلة فريق كرة القدم البرازيلي الصفراء الفاقعة. التحديق في ثغرها ذي الأسنان البيضاء الناصعة، والإصغاء لموسيقى نبراتها قي الوقت نفسه، متعةٌ خالصة.

أوجهٌ مترعةٌ بجمالٍ مشعشع. فاتناتٌ جداً. جميعهنّ بأجساد فتيّة شابة طليقة أنيقة. يعانق سناءُ الصباح وألقهُ بشرات سواعدهن الرشيقة العارية وأنصاف نهودهنّ المكشوفة بحريّةٍ وسعادةٍ صارخة.

نقاشاتٌ مركّزة تلفّ جليٌّ في كل المقهى، ومحاولاتٌ للتنفّس بهدوء، والتشبّثِ بتطمينات بعض وسائل الاعلام، وبحلولٍ سياسية واقتصادية وأمنية مرتقبة...

ألاحظ: كل من دقيقتين أو ثلاث ترفع كل واحدة منهنّ ساعدها لتثبيت دبوسٍ في قفا الرأس، أو تحريك خصلاتٍ من الشعر. سواعد الرجال، كعادتها، ومعاصمهم منقبضةٌ ملتصقةٌ بالخاصرة، كما لو تتحسّسُ مسدساً افتراضياً، خنجراً أو “جَنْبِية”.

ماذا قلتُ؟ لتثبيت دبوس؟ كلا!... عذرٌ لا غير، لأنّي، من موقعي خلفها تقريباً، أرى أنها تمسُّ الدبوس بطرف الأصبع لا غير، وبسرعة البرق، في حركةٍ توهيميّة جليّة للعين المجرّدة: للطيران؟ للتهوية؟ لبعث نسماتٍ صباحيةٍ طريّةٍ عاطرة يختلط فيها عطرٌ باريسيٌّ شهيّ بعطر العطر: رائحة أجسادهن الطريّة؟... أم مبرّر لطيفٌ، لا يخلو من الغنج، لرفع الساعد وفتح صفحةٍ بيضاء وضّاءة مغلقة؟

لطالما آمنتُ أن للنساء جينات عصافير، وكأنّ أجنحةً، كانت لهنّ في أزمنةٍ داروينيةٍ منقرضة، تخفقُ كعادتها القديمة وهنّ يرفعن سواعدهن بهذا التواتر...

حركةٌ غريزيةٌ كما يبدو، مثيرةٌ وهي تكشف باطن الكتف وتخفيه، تجلي بياضه الرخامي العبق الفاتن، ثم تغلقُ الستار بانتظار الحلقة القادمة...

أربكني كل هذا الإبداع المسرحيّ الغريزيّ الجذّاب، لدرجة أني لم ألاحظ إلا الآن أن هناك {ماكينتوش} مرمياً في الزبالة المجاورة لي، في هذا الطرف الاستراتيجي من ساحة المقهى.

لأوّل مرّة في طوكيو التي يستهلك فيها الناس كثيراً، يرمون آلاتهم الإكترونية مثل جوربٍ قديم بعد ستّة أشهر من شرائها أحياناً، لاستبدالها بآخرِ صرخةٍ من أحدث أجهزة شارع أكيهابارا بطوكيو، قُدس أقداس إلكترونيات العالم.

الأغرب: هذا الحاسوب الذي أتوجّه لإخراجه من الزبالة سليمٌ في مظهره، فضيُّ الإطار، أنيقٌ جدّاً، عمره عامٌ بالكثير، توأم الماكينتوش الرشيق الخفيف الجبّار الذي أحمله في حقيبة ظهري!

سألت النادل الذي يخفي توتّره، مثل مضيفة طائرةٍ توشك على السقوط، ويميل لتلطيف جوٍّ جنائزي مكهربٍ يعمّ المقهى، باريسَ، والكرة الأرضية:

-أيمكن أن آخذ الكمبيوتر من الزبالة؟

-الزبالات ملك الشعب أيها الرفيق العزيز. لم ندخل بعد عصر خصخصة الزبالات، حسب معرفتي؛ ردّ، متمتماً: {لن يتأخر ذلك إذا بقي للأرض حياة!}.

-لكنه حاسوبٌ حديثٌ نسبياً. أستغرب كيف لأحدٍ أن يرميه!

أمَنْ رماهُ يابانيٌّ؟ سألتُ.

-لا، هو فرنسيٌّ مثلنا!

(يقصد: من أصولٍ شرق أوسطية، أو عربية، مثله ومثلي). ثم أضاف:

-رجلٌ بعمرك تقريباً، يأتي بين الحين والحين، وصل هذه المرة حال فتح المقهى في الصباح الباكر. يشبهك قليلاً لكنه أطول بشبر، يحمل عصا ويمشي بها كما لو كان ضعيف البصر!

أخذت الحاسوب ووضعته في حقيبة ظهري، ليتعانق مع حاسوبي في الحافظة. ليس لأني أحتاجه؛ كاراج منزلي عامرٌ بمتحفٍ يجمع مومياوات كمبيوتراتي القديمة منذ منتصف الثمانينات من القرن المنصرم. لكن، ربما، لأنها أوّل مرّة أرى كمبيوتراً في زبالة فرنسية!

بدأت أخيراً بترتيب أحداث الساعة في دماغي، كما تناولتها الصحف والشبكات الاجتماعية:

قادة أوروبا في اجتماع دائم بأوجهٍ عليها قتَرَة، منذ يومين، بعد الأزمة المالية الجديدة التي تطمّ كل دول جنوب أوروبا، بما فيها فرنسا: ديون أوروبا التي كانت 70% من مجموع دخلها القومي في 2007، 100% في 2015، تجاوزت اليوم 150%!

الجميع يتحدّث عن ارتفاع حادٍّ في نسبة أرباح البنوك، وتفجُّرِ {فقاعاتٍ مالية}، وأزمةٍ أعتى من أزمة 7 أغسطس 2007، وأزمة 1929.

كلّ الأزمات التاريخيّة الخالدة، منذ 1929 حتى اليوم، مروراً بحرب العراق، تتفجّر في الصيف، كما يبدو. لعلّ هناك علاقة بين الصيف والأزمات الكبرى، منذ سقوط روما على الأقل، في صيف استوائيّ مشتعلٌ لا يبقى ولا يذر...

تسونامي قبل أسبوع في جنوب شرق آسيا، تلاه البارحة زلزالان في تايلندا وأندونيسيا أطاحا ببشرٍ وأحياء كثيرة، ومصانع. فيضاناتٌ طوفانيّة وأعاصير استثنائية في الهند وبنغلادش، يصل مداها إلى شرق أفريقيا. معظم النشاطات الاقتصادية وحركة المواصلات في جنوب شرق آسيا معطّلة تماماً.

back to top