«أولاد حارتنا»... سيرة رواية «ملعونة» «1 - 7»

ألف جنيه مقابل رواية

نشر في 28-08-2016
آخر تحديث 28-08-2016 | 00:05
عشر سنوات كاملة تمرّ على رحيل عميد الرواية العربية، نجيب محفوظ (1911ـ 2006)، وما زالت «أولاد حارتنا» تثير الجدل وتشعل المعارك الثقافية في كل مكان. «أولاد حارتنا» ليست مجرد رواية يطرح فيها محفوظ الأسئلة حول العدل والحرية. بل هي حكايتنا مع السلطة، والرقابة. حكاية المجتمع نفسه وصراعه للتفكير خارج الصناديق الضيقة، وخارج الخطوط الحمراء. هي الكتاب الرمز... رمز لمعركة ثقافية واجتماعية وسياسية، تتخذ كل فترة شكلاً جديداً ومثيراً، فقد شمل المنع عشرات الأعمال قبلها، وعشرات الأعمال بعدها. أحرقت كتب، وخرجت تظاهرات تطالب بإعدام مؤلفين، وخطب خطباء على المنابر، وتدخلت السلطة لتمنع... ولكن رواية محفوظ ظلّت هي النموذج الأكمل لفكرة المنع الذي يدفع صاحبه الثمن مرات ومرات... منعت بقرار رسمي، لكنها رغم ذلك ظلّت تُباع على الأرصفة في نسخ أصلية أحياناً، ومزورة أحياناً أخرى، وتنشر الجرائد فصولاً منها بين الحين والآخر... وتصرح السلطة بنشرها، ثم تعود لتمنع النشر... وهكذا.

في ذكرى رحيل محفوظ الفائز العربي الوحيد بجائزة نوبل للآداب (1988)، تروي «الجريدة» حكاية الرواية، التي أصبحت لعنة على صاحبها، نسردها بالتفصيل في حلقات تتناول السياق الاجتماعي والثقافي والسياسي لكتابة ونشر «أولاد حارتنا» واستقبالها. إنها قصة أشهر قصة عربياً... ورواية «الرواية الملعونة».

الاثنين، 21 سبتمبر 1959، درجة الحرارة في القاهرة أقرب إلى البرودة، سحب خريفية تغطي الدلتا، الشيوعيون في سجون النظام، وحملات إعلامية مخططة لتشويههم، لص مجهول يسطو على «كرمة بن هانئ» بيت الشاعر أحمد شوقي على نيل الجيزة، المسروقات عبارة عن نخلة من الذهب أهداها أمير البحرين لشوقي احتفالاً بتنصيبه أميراً للشعر العربي، وكأس من الفضة هدية من الاتحاد النسائي برئاسة هدى شعراوي.

تتحدّث عناوين الجرائد الرئيسة عن تظاهرات حاشدة في العراق ضدّ عبدالكريم قاسم، بعد تنفيذ أحكام الإعدام في عدد من قادة «ثورة الشواف»، وكانت صحيفة «أخبار اليوم» قادت الهجوم الأعنف، وأطلقت على «قاسم» قبل أيام لقب «نيرون بغداد»، ونشرت نصاً تحت عنوان «الكتاب الملعون»، زاعمة أن «قاسم» يتبنى أفكار الكتاب، الذي يطعن في الدين الإسلامي، ومدعية أن الكتاب من تأليف جهات مخابراتية سوفياتية، ثم خصصت صفحة كاملة للداعية عبد الرازق نوفل ليفند ما جاء في الكتاب من أفكار.

دولياً، اهتمّت الجرائد بأول زيارة لزعيم سوفياتي إلى الولايات المتحدة، حيث ألقى نيكيتا خروتشوف خطاباً في الأمم المتحدة، طالب فيه «بإلغاء الجيوش من كل دول العالم، وإلغاء وزارات الدفاع والكليات العسكرية، والاكتفاء بمجموعات صغيرة لحفظ الأمن الداخلي». كذلك تواصل «الأهرام» اهتمامها الذي بدأ قبل أسبوعين بتغطية وصول الصاروخ الروسي إلى القمر، مدشناً بذلك عصراً جديداً من العلم والمعرفة.

نشرت الجرائد صوراً لجمال عبدالناصر وبصحبته عبد الحكيم عامر يطلان لتحية الجماهير من نافذة قطار كانا يستقلانه عائدين من مدينة رشيد إلى القاهرة، وكان عبدالناصر ألقى قبل يومين خطاباً في «رشيد» ضمن الاحتفال بذكرى انتصارات المدينة على الجيش البريطاني (1807)، العناوين تركّز على تصفية الإقطاع وتوزيع قطع من الأراضي الزراعية على الفلاحين، وإطلاق «مشروع ناصر لتمليك الماشية للفلاحين».

في القاهرة، كان المسرح القومي يقدّم «العشرة الطيبة»، وفرقة الريحاني تعرض «حكاية كل يوم»، وسلسلة «كتابي» تُصدر ترجمة عربية لرواية باسترناك «دكتور زيفاغو» في جزأين، وسلسلة مكتبة الفنون الدرامية تصدر ترجمة لمسرحية تينيسي وليامز «قطة على صفيح ساخن»، ورياض السنباطي ينتهي من تلحين «الحب كده» التي ستفتتح بها أم كلثوم موسمها الغنائي، وأحمد بهاء الدين يكتب من استوكهولم عن مسرحية سارتر «سجناء التونا»، المسرحية التي «تهزّ أوروبا كلها»، ويعدها «أخطر عمل فني منذ نهاية الحرب العالمية». في جريدة «الأخبار» يحاور ناصر الدين النشاشيبي البروفيسور «ستن فريبرج»، عضو مجلس إدارة جائزة نوبل الذي يعلن أن: «الجامعات العربية مسؤولة عن عدم ترشيح أي عربي لجائزة نوبل». دور السينما كاملة العدد، ملصقات الأفلام الجديدة تحتلّ مساحة كبيرة من إعلانات الصحف، يمكن أن نرصد في ذلك اليوم أكثر من 15 فيلماً أجنبياً من بينها «حسناء النهر» لصوفيا لورين، «ذو الوجه الأصفر» لبوب هوب وجين رسل، «أعظم مغامرات طرزان»، والعدد نفسه تقريباً للأفلام المصرية، من بينها «عاشت للحب» لزبيدة ثروت، «الحب الأخير» لهند رستم وأحمد مظهر، «البوليس السري» لإسماعيل ياسين، وفيلمان شارك في كتابة السيناريو لهما نجيب محفوظ، هما «إحنا التلامذة» من إخراج عاطف سالم، و«بين السما والأرض» من إخراج صلاح أبو سيف.

أغلى قصة أدبية

في صفحتها العاشرة، بدأت جريدة «الأهرام» نشر أول حلقة من رواية محفوظ الجديدة «أولاد حارتنا»، وجاء في صفحة الجريدة الأولى: «اتفقت الأهرام مع نجيب محفوظ، كاتب القصة الكبير، على أن تنشر له تباعاً قصته الجديدة الطويلة. محفوظ هو الكاتب الذي استطاع أن يصوّر الحياة المصرية تصوير فنان مقتدر مبدع، لذلك فإن قصصه كانت حدثاً أدبياً بارزاً في تاريخ النهضة الفكرية في السنوات الأخيرة، وقد وقّعت الأهرام مع نجيب محفوظ عقداً يصبح للجريدة بمقتضاه حق النشر الصحافي لقصته الجديدة مقابل ألف جنيه، و«الأهرام» لا تذكر هذا الرقم، وهو أكبر مبلغ دفع في الصحافة العربية لقصة واحدة، تفاخراً أو إدعاء، إنما تذكره لتسجل بدء عهد جديد في تقدير الإنتاج الأدبي».

يبدو الواقع متداخلاً فنياً وفكرياً وسياسياً. يكتب الروائي سيناريو «إحنا التلامذة» عن قصة لتوفيق صالح، وكامل يوسف. قام بالبطولة عمر الشريف، وشكري سرحان، ويوسف فخر الدين مع تحية كاريوكا. أما دعاية الفيلم فركّزت على اعتباره «فيلم كل شاب وكل فتاة، كل أب وكل أم، كل أسرة وكل بيت، يحارب الميوعة ويدعو إلى القوة والبناء»... وهي العبارة التي كتبت بخط واضح على ملصق الفيلم، وبدت كأنها امتداد لحملة تهذيب «أتباع جيمس دين».

العارفون بمحفوظ وتقاليد السينما يرجحون أن العبارة لا تخصّ محفوظ، بقدر ما تخصّ المنتج حلمي رفلة الذي تحدّث عن الفيلم في مجلة «الجيل» باعتباره جزءاً من رسالة «ضد أشباه جيمس دين بعدما تعدّدت مظاهر ميوعتهم وكثرت حوادث انحرافهم، ما أدى إلى تدخل بوليس الآداب، وبعدما دفعهم الحرمان إلى طريق الألم، طريق الشر». رفلة قال إنه اختار نجيب محفوظ لكتابة السيناريو لأنه «عُرف بعمق دراسته، وقوة تصويره الشخصيات وبراعته في التعبير عن أحاسيسها وانفعالاتها».

الفيلم الثاني الذي عرض متزامناً مع نشر «أولاد حارتنا» هو «بين السماء والأرض» من إخراج صلاح أبوسيف، عن قصة لمحفوظ، وشارك أبو سيف في كتابة السيناريو، الذي يمثّل نقلة في سينما محفوظ من الواقعية إلى الانفتاح على الرمز، كما في «أولاد حارتنا» التي تخلى فيها عن «الواقعية الصريحة» التي بلغت ذروتها في «الثلاثية».

يطرح العمل أسئلة فلسفية معلقة لا يمكن الوصول إلى إجاباتها، ربما مثل أبطال الفيلم العالقين بين السماء والأرض. تبدو بصمات محفوظ واضحة بقوة كسيناريست يبدع في البحث عن حلول فنية لمحدودية المكان (الأحداث تدور داخل مصعد)، وهي معضلة فنية نجح محفوظ، كروائي، في تخطيها، بل والإجادة فيها سواء في «زقاق المدق»، الرواية التي تدور أحداثها في حارة ضيقة أو لاحقاً في «ثرثرة فوق النيل» التي تدور غالبية أحداثها في عوامة على النيل، بخلاف المكان المحدود الذي تخرج منه عوالم نابضة بالحياة.

يثير محفوظ طوال الفيلم أسئلة فلسفية عن الحدود بين الواقع والخيال، عن الخطيئة، الموت والحياة والعقل والجنون. شخصيات الفيلم في المكان المغلق المحدود تمثّل ربما أطياف المجتمع بتنوعهم وبتناقضاتهم: ثمة الأرستقراطي (الأكثر رقة)، المجنون (الأكثر عقلاً في المكان)، الفنانة التي تستعد لتصوير فيلمها الجديد، اللص الصغير، والآخر الكبير، البواب، المرأة الحامل التي تلد في اللحظة نفسها التي يموت فيها مختنقاً عجوز مريض، الزوجة الخائنة، والمتحرّش. خارج المصعد، أي خارج الأحداث، عوالم أخرى، لكنها ليست منفصلة عمّا يدور داخل (المصعد)، ربما كان أهمها مشاهد الفيلم التي يتمّ تصويرها (داخل الفيلم الأصلي)، حيث ينتظر المخرج بطلة فيلمه لتصوير مشاهدها، ومن ضمن هذه المشاهد رجال أمن يؤدون دورهم، وتتصور العصابة التي ستسرق إحدى الشقق أنهم رجال أمن حقيقيون، وتبدأ معركة غير متكافئة، يصرخ المخرج: «دي سينما يا بني آدم مش لعبة، افهموها بقى»، بينما ينهال عليهم الرصاص الحقيقي الذي لم يكن متفقاً عليه، ما الفرق بين الواقع والخيال؟ أي بين الواقع والسينما؟ ربما كان هذا هو سؤال الفن الرئيس، ربما أيضاً كانت رسالة أبو سيف ومحفوظ وتصورهما للفن.

لا تبقى الحال على ما هي عليه، يتم إنقاذ الجميع، بعد اقترابهم من الموت قرباً يدفعهم إلى مراجعة سلوكهم وخططهم السابقة والتفكير في «التوبة»، و«الاستقامة.، لكن الأحداث تنتهي بعودة الغالبية العظمى إلى طريقها السابق، وكأن «الرسالة» أن الاقتراب من الموت لا يغيّر كثيراً في الأشخاص.

نهاية الفيلم إحدى أجمل النهايات في السينما المصرية. هند رستم بطلة الفيلم الذي يجري تصويره داخل الفيلم تقول للمخرج: «دي القصة اللي تستاهل إننا نعملها فيلم مش القصة اللي بنعملها»، المخرج (داخل الفيلم) يردّ عليها: «بس دا فيلم اتعمل وأنا شفته وكان بطولة هند رستم. وإخراج أبو سيف». أي أننا نجد أنفسنا أمام لعبة فنية من ألعاب محفوظ وأبوسيف، ولكنها لا تخلو من الرسالة السياسية، حيث يحلمان بذوبان الطبقات.

المفارقة أن الفيلم عندما عرض للمرة الأولى لم يلق ترحيباً من النقاد، وهاجمه الصحافيون كلهم تقريباً بحجة أن تجربة الموت تجربة «جد» لا تستحق الهزل كما فعل بها أبوسيف ومحفوظ، أو أن «المخرج والمؤلف صبّا ماء صاقعاً على رؤوس المتفرجين»، حسب تعبير موسى صبري في مقالته النقدية عن الفيلم!

«فلاش باك»

21 ديسمبر 1957: في مجلة الإذاعة والتلفزيون، حاور عبد التواب عبد الحي نجيب محفوظ. كتب في مقدمة الحوار: «رجاني نجيب محفوظ أن أنشر له إعلاناً وأقول: «إن كاتب الواقعية ملّ الواقعية، زهق من آلام الناس ومظاهر حياتهم المباشرة، ولم يعد ثمة جديد يكتبه عنهم، وعندما يكتب مرة أخرى سيكتب بطريقة جديدة لم تتحدّد معالمها في ذهنه حتى الآن، وإلا سيهجر الأدب إلى الأبد».

27 مارس 1958: نشرت مجلة «صباح الخير» خبراً عن خطط نجيب محفوظ المستقبلية، إذ كان منشغلاً: «في لون جديد من الخلق الأدبي، يبحث فيه عن ينابيع جديدة غير زقاق المدق وخان الخليلي والسكرية، وشخصيات جديدة غير الأفندية والأسطوات التي تعوّد أن يعرضها في قصصه. ومشكلة هذا التجديد الأدبي أنه يحتاج إلى تجديد مماثل في حياة الأديب، يحتاج إلى أسفار واكتشافات إنسانية خارج حدود المقهى ومكتب مصلحة الفنون والمنزل. فهل يتخطى نجيب هذه الحدود في سبيل تجربة أدبية جديدة، وكيف ومن الذي يمول هذه المعركة التي يحفر فيها الأديب آباراً جديدة في دماغه، ومن يدفع له التكاليف؟

11 فبراير 1959: «الأهرام» تسأل المدير الجديد لمصلحة الرقابة على المصنفات الفنية الأديب نجيب محفوظ: ما أمنيتك؟ يجيب: «أمنيتي أن أواصل كتابة رواية «أولاد حارتنا» التي بدأت فيها». كانت هذه المرة الأولى التي يتحدث فيها محفوظ إلى الصحافة عن روايته التي لا يزال يكتبها، وقبل نشرها بسبعة أشهر كاملة، وبالعنوان نفسه الذي نشرت به. أضاف: «ثمة أزمة في المجتمع المصري، هي أزمة ثقافة»، وانتقد السينما معتبراً أنها تسير «بالاجتهاد».

بعد خمسة أشهر من هذا الحوار تحدث محفوظ إلى جريدة «الجمهورية» عن أمنية أخرى له، تمنى أن توافق عليها الدولة وهي «إحالة الأدباء إلى التقاعد في سن الخمسين كي يتفرغوا للكتابة». كذلك تطرّق إلى رغبته في أن تنظم الدولة رحلات للأدباء والفنانين ليعرفوا بلادهم، فهو لا يعرف شيئاً عن أسوان أو الأقصر، ولم يخرج من القاهرة إلا إلى الإسكندرية ورأس البر.

بعد أيام من الحوار سافر محفوظ إلى يوغسلافيا. كانت رحلته الأولى إلى خارج مصر، ليمضي هناك 15 يوماً ويعود قبل نشر «أولاد حارتنا» بشهر، وينشر في «الأهرام» انطباعاته عن الزيارة.

20 مارس 1959: سأل محرر مجلة «الجيل» نجيب محفوظ:

• ما هو آخر عمل أدبي تقوم به الآن؟

• قصة اسمها «أولاد حارتنا» بدأتها في أكتوبر 1958، وكتبت منها حتى الآن 150 صفحة فولسكاب وستكون في نحو 300 صفحة.

• وما موضوع القصة؟

• أرجوك أعفني من هذا السؤال.

• بلاش موضوعها ولكن... ما هو نوعها؟

• ولا هذا... إنها قصة من نوع جديد، لم أكتب مثله سابقاً، لذلك أنا متهيب جداً، متهيب جداً!

6 أبريل 1959: أجرت مجلة «الجيل» تحقيقاً بعنوان «دعوتي ليلة القدر»... سألت فيه فنانين ومثقفين وسياسيين ورياضيين عن دعوتهم ليلة القدر. قال نجيب محفوظ في التحقيق: «سأقول: يا رب ساعدني على إتمام رواية «أولاد حارتنا» التي بدأتها في أكتوبر الماضي، يا رب يتمّ الاتفاق على منع الأسلحة الذرية حتى نعيش لنحقق أمانينا لوطننا ولأنفسنا، يا رب تنتهي حرب الجزائر بانتصار العرب».

1 أغسطس 1959: سألت مجلة «العربي» الكويتية محفوظ: ماذا تكتب الآن؟ أجاب: سيناريو فيلم صلاح الدين الأيوبي، وقصتي المقبلة التي اسميها «أولاد حارتنا». كذلك قال في الحوار: «لا حياء في الأدب، كما لا حياء في الدين». وهي الجملة التي عُنوِن بها اللقاء.

إجابات محفوظ في الحوارات كافة التي سبقت نشر الرواية تقول إنه دفع بالرواية إلى النشر مباشرة بعد الانتهاء منها، وليس صحيحاً أنها ظلّت عامين كاملين في درج مكتبه، إذ تبدأ السنة المحفوظية في الكتابة من سبتمبر إلى أبريل، ثم يتوقف الكاتب لمدة أربعة أشهر في الصيف بسبب مرض الحساسية في العينين، الذي أصيب به عندما كان طالباً في الجامعة، ما يعني أن محفوظ انتهى من كتابة الرواية في أبريل من العام نفسه قبل إجازة «التأمل والتفكير والراحة»، كما يسميها.

2 مايو 1959: نشرت مجلة «الإذاعة» التي يرأس تحريرها حلمي سلام، التنويه التالي في باب «أدب وأدباء»: يسر مجلة «الإذاعة» أن تعلم قراءها أنها قد اتفقت مع نجيب محفوظ على أن ينشر فيها روايته الجديدة «أولاد حارتنا»، وتبدأ المجلة بنشر حلقاتها عقب انتهاء أشهر الصيف». لكن «الإذاعة» لم تنشر الرواية كما أعلنت، فذهبت الأخيرة إلى «الأهرام»، وأصبح السؤال: كيف وصلت «أولاد حارتنا» إلى الأهرام؟

أتباع جيمس دين

حين بدأ نشر رواية نجيب محفوظ «أولاد حارتنا»، كانت صحف قاهرية تواصل حملتها ضد من سمّتهم «أتباع جيمس دين»، وهم مجموعة صغيرة من الشباب المصريين المعجب بالممثل الأميركي (1931 - 1955) الذي أصبح سريعاً جداً، وقبل أن يكمل عامه الرابع والعشرين، نجماً عالمياً، وجعله أداؤه شخصية «جيم ستارك» في فيلم «متمرد بلا قضية» 1955، أيقونة للشباب. أما مصرعه الفاجع في حادث سير، فأفضى عليه هالة أسطورية. في إثر ذلك، راح هؤلاء الشباب يقلدونه في مظهره وملابسه.

حملة الصحف اتهمت الشباب بالتمرد على جيل الآباء، وممارسة رقصة مستهترة تسمى «تشا تشا»، وتدخين السجائر وإطلاق شعرهم بلا تهذيب. كذلك وصم خطباء مساجد هؤلاء الشباب بالفساد والانحلال، وطالب صحافيون وسياسيون بتجنيدهم في الجيش لتهذيبهم وتعليمهم الرجولة.

هذا الضجيج كله وجد صدى لدى عبدالحكيم عامر، فتقدّم للتصدي لهذه الظاهرة، موجهاً، باعتباره وزيراً للحربية، رجالاً من البوليس الحربي بتوقيف، وحلق شعر رأس كل من يجدونه في الأماكن العامة يرقص «تشا تشا»، أو يغني أغنية عبد الحليم حافظ «أبو عيون جريئة».

صحافي سأل محفوظ: ماذا تكتب الآن؟ فأجاب: قصة لم أكتب مثلها

محفوظ لمجلة «العربي» الكويتية: لا حياء في الأدب... كما لا حياء في الدين
back to top