بيت القشلة

نشر في 27-08-2016
آخر تحديث 27-08-2016 | 00:00
No Image Caption
تشعرُ أحياناً أنها مستهدفة من الكل، من الأبواب التي تُقفلُ على يديها، السكاكين التي تتركُ حبَّة البصل برمَّتها وتفضل فرم أصابعها، الكؤوس التي تسقطُ من الخزانة فور مرورها بجانبها، أسلاك الشّاحن التي تتقطع بعد أول أو ثاني استعمال... طاقة سلبية هائلة متمثلة في جسد امرأة، لا يصمد شيء إن اقتربَ منها، الإرث الذي حملته فوق ظهرها لأكثر من ثلاثين سنة. حرصتْ أمّها على تذكيرها به لسنةٍ كاملة، قبل أن ترتكِنَ كلتاهما إلى الصمت.

تجلسُ أمها غالباً خلفَ آلة الخياطة، ودون أن ترفع عينيها لتنهي جدالاً طال، تقول كلمتها بصوتها المرتفع المعهود، كأنَّها ترمي حفنة تراب فوق موقد: “ماذا أقول إن كان أبوك نفسه قد هرب في تلك الليلة التي أخرجتك فيها من بطني»، تقولها وهي تديرُ عجلة الآلة بيدها اليُمنى بمشقّة، كأنَّها عجلة كرسي متحرك تحاول دفعه قدماً إلى الأمام، بينما تضغط قدمها على الدّواسة بحركاتٍ متسارعة لتكمل الهرب.

لم ترغب بالعودة إلى ذلك كلّه، كما لم تكن تريد البقاء. صعدت سلالم الطائرة التي ستغادر باريس إلى الدار البيضاء، وقد بدت أظفارها التي يكشفها صندل الفليب فلاب، وكأنها تتمسك بالأرض وقد انثنت عند المنتصف. فوق الصندل انسدل بنطلون جينز بالغُ الزّرقة، تمّ ثنيه من دون اهتمام كثير، فيما ارتاحت على الجانب الأيمن يد مطوقة بساعة معدنيةٍ تنمّ عن ذوقٍ كلاسيكي لا يناسب الهندام. انعراجاتُ البنطلون الكثيرة تنتهي عندَ قميصٍ بُني فضفاضٍ، مفتوح بشكلٍ طفيفٍ عندَ العنق. تحركت طبقة الجلد الرقيقة عند الترقوة بفعل دقات القلب مثلَ أوداج ضفدع، وهي تهزّ معها قلادة فضيّة تتدلى من سلسلتها علاّقة تحمل اسماً بأحرف لاتينية، يبدأ بحرفٍ كجدارين تتوسطهما عصا تباعد ما بينهما، وتقف إلى جواره أحرف صغيرة تشكل في النِّهاية اسماً يبدو سهل التهجئة: Hajar.

منذ أسبوعٍ وهي نعسانة، تنام طيلة اليوم، ومع ذلك تصحو متعبة. ليست حزينةً، لكنها لم تكن راغبةً في الخروجِ إلى العالم يتيمةً - هذه المرة - بأوراق ثبوتية. كان الوقت ضيِّقاً على لعبةِ التأجيلِ والنَّوم وإطفاءِ الهواتف، بعدَ أن ذكَّرها منسِّق ورشة التدريب بموعد الطائرة ليلة أمس. جمَعت أغراضها القليلة من دون أن تضايقها كمية الملابس المتسخة التي ملأت جلّ الحقيبة. حملت حزمة الأوراق التي تركها لها والدها، ووضعتها داخل الثلاجة بعدما سحبَت الفيشة. مكانٌ غير متوقع، ولو تذكرت قبل أن تغادر فتح الثلاجة واستخراج الأوراق فإنَّ القدر يريد لها ذلك، وإن لم تفعل فليس عليها العودة بها.

لم يكن بمقدورها أخذ قرار كهذا بنفسها، لا تعرف إن كان هذا جبناً أو ضعفاً أو شيئاً آخر، لكنها أرادت أن ترمي بالثقل على أيّ شيءٍ آخر سواها. حين أنهت ترتيب الشّقة وجمع أغراضها ومطبوعات التدريب الكثيرة، سحبت نفسها بمشقة إلى الحمام، وضعت جسدها تحت الدُشّ وتركتِ المياه تغمرها. ظلت المياه الساخنة تنهمر للحظاتٍ، فيما كتلة الشَّعر غير الممشَّط منذ أسبوعٍ تحجبه عن لمسِ فروة رأسها. ببطءٍ، بدأ الماء يجدُ لنفسِه طريقاً، شعرت بحرارته وهي تلسع رأسها، كأنَّه الحياة نفسها، الحياة التي حصَلت على مدارِ أكثر من ثلاثين سنة من عُمر هاجر، وظلت تتساقط على كبّة السنين المتداخلة، ولم تصل إلى قلبها سوى في آخر شهرين قضتهما في باريس. شهران كانا كافيَيْن كي يصلَ الماءُ إلى المناطِق البعيدة من ذاكرتها.

شعرت بالراحة وهي تلمح في أعلى صندوق الأمتعة رقمَ جلوسها، كأنَّها توقعت ألا تجده. بدأ ذلك الشعور ينكمشُ شيئاً فشيئاً إلى أن اختفى، وهي ترى رجلاً ببذلة زرقاء يحتلّ مقعدها. مرَّت ثقيلة على قلبها تلك الدقائق الثلاث التي قضتها هي والمضيفة وهما تحاولان إقناعه بالانتقال إلى المقعدِ المجاور قبل أن يقتنع.

رمَت بجسدها على الكرسي وهي تتنهَّد، أخرجت هاتفها من جيب السترة كي تضعه على وضعية الصامت، قابلتها الشاشة السوداء فور أن رفعته وهي تعكسُ وجهاً خبرته جيداً؛ الوجه نفسه الذي تصادفُه كل صباح، وتقنع نفسها بأن الانكماشات الصغيرة التي بدأت تزحفُ بإصرارٍ على جانبـي العينين والفم مجرد آثار نومٍ سيئ ستختفي حالما تغسل وجهها. فكرت بشكلٍ خاطِف في أمها، غالباً ما تتذكرها بوضعيةٍ واحدة، حين كانت تستيقظُ لتجدها أحياناً وقد كدَّست كل أواني الفِضَّة في المنزل حولها على الأرض، وهي منهمكةٌ في حكِّها بخرقةٍ تقتطعها من ثوبٍ قديم وبمعجونِ أمونياك عليه صورة شمسٍ لطالما بدَت لهاجر قادمةً من الجحيم. تفعل ذلك باستمرارٍ، وحين تقول لها هاجر بتأفف: “لقد لمّعتها قبل أيامٍ فقط”، كانت تُجيب بالفرنسية وهي تحكم إمساكَ الآنية بركبتيها من دون أن يبدو كلامُها موجهاً لأحد: “عليَّ أن أرى وجهي فيها”. لسنواتٍ، ظلت تلمِّع، تلمِّع، منتظرةً أن يطلَّ وجهها في الفِضَّة، فتراه أخيراً وترتاح.

بدورها هاجر تعلَّقت بالواجهات الزجاجية في صغرها، لا بدافع البحث عن وجهها وانعكاسه عليها، بل تعطّشاً للحياة التي تخبِّئ خلفها. كانت واجهة مصنع الكوكاكولا المحاذي لمنزل قشلة عين البرجة بمثابة شاشة تلفازٍ ضخمة ومصدر بهجةٍ عظيمة بالنسبة إليها. تتعلَّق بسورِه الواطئ، وتراقبُ من خلفِ الواجهة الزّجاجية الشفافة القناني وهي مصطفّة على شكلِ طابورٍ طويل. زجاجية ولامعة، تتحرك مترجرجةً مثل سربِ بطّ، تلتقطُها الصّنابير من أفواهها، وفي قبلةٍ سريعة تعبّئها بالمياهِ السّوداء، وفور أن تصلَ إلى الإصبع الثالثة من يدها، تكون القناني قد امتلأت لتستكمل طريقها الدّائري وتختفي. كلَّما كانت تسمع الجاراتِ يتحدَّثن في ما بينهن عن “السِّحر الأسود”، فكَّرت مباشرةً أنهن يعنين مصنع الكوكاكولا.

أغلبُ الجاراتِ كُنّ زوجاتِ مُحاربينَ قدامى منحتهم الدّولة تلك المساكن التي كانت سابقاً فيلاّت لجنرالاتِ الجيش الفرنسي وموظّفيه، أثناء الحماية الفرنسية. وبعدَ أن انتهتِ الحماية، صارت كلها منازل يسكنها جنود مغاربة أحيلوا على التقاعد. كلها، باستثناءِ المنزل الذي عاشت فيه هاجر.

خالةُ أمِّها كانَت زوجة حارسِ مفرخة الدّجاج والبيض التي في الشارع المقابل. سكنُوا بالقشلة من دون أن يفهم سكّان المنطقة كيف صارَت هذه الأسرة القادمة من الجنوب، والدَّجاج، بينهم فجأة، فلم يشعروا يوماً أنها واحدة منهم. سابقاً، كانت الفيلاّ لموظّف بريدٍ فرنسي عاشَ هناك لثلاثة عقود قبل أن يعودَ إلى فرنسا، ويتركَ منزله فارغاً. بعدَ أشهرٍ قليلة، نزل لحسَنْ إلى المنزل، من دون أن يجلبَ أسرته معه. يمكث ليلة أو ليلتين، ويغادر. أفهَم الجميع أنَّ السّاكن القديم أوكل له مهمَّة حراسة البيت، ثم حين مرّت سنتان، ذهبَ إلى وكالةِ الكهرباء، واستخرجَ وصلاً جديداً للعدّاد باسمِه، دفع الفاتورة، ثم عادَ محملاً بمتاعه القليل وخدّوج وطفلين سرعان ما صارا تسعة.

بعدَ قليلٍ ستقلعُ الطّائرة...

كم قضت في فرنسا؟ ثلاثة أشهر... ثلاث سنوات... ثلاث حيوات... الليلة الماضية، آخر ليلة لها هناك، أمطرت. بدا ذلك فيلماً غارقاً في الرومانسية، حيثُ يجري البطلُ المخذول في الشوارع، وفي اللحظة التي يبدأ فيها بالبكاء، تمطر السَّماء متآزرةً معه. لكنَّها لم تكن تبكي، وضعت ذاكرتُها كل أيامها السّابقة السيئة كطُعم، إلا أنَّها لم تُفلح في اصطيادِ ولو دمعة واحدة. كانت واقفةً خلفَ النافذة الزجاجية التي تمتد من البلاط حتى السقف، وهي تُنصِت لنباح كلب. من بين كل الحيوانات التي تعيشُ مع الإنسان، ليس لدى الكلابِ ما تخفيه أو تضمره. الكلب الوحيد الذي اعترضَها ذات مرة وهي في طريقها إلى الفرن، كان بنياً. لا تذكر من أين خرج، لكنه بقي محدقاً فيها. توقفت لهنيهة، ثم مرت امرأة وهمَست محذّرة: “لا تظهري له خوفك، إنه يراه”. لم تقل إنه يشعر به. كانت تلك هي المرة الأولى التي تكتشف فيها هاجر أنَّ كائناً ما يمكنه أن ينفذ إلى ما تحت جلدها ليرى الخوف. لكنّها مرت بجواره، ولم ينبح في وجهها، بل وضَع رأسه على الأرض في إشفاق.

بدا لها صوت نباح كلب ليلة أمس، رحيماً أيضاً، مقارنةً بصوتِ الدّيك الذي دأبت على سماعِه في الدار البيضاء. كان صياحه أشبه بصراخ يخترق أذنيها مثل سيخٍ ساخن. تتكوم في فراشها إلى أن يأتي الصباح، متخيلة طوال الليل عراكاً سينتهي بدفع أحدهم باب غرفة الخزين التي كانت تؤويها وأمَّها. لم يكن الصَّباح صديقها، لكنها كانت تنتظره كما لو أنَّه السَّجان الذي سيرمي لها بقطعة الخبز التي ستبقيها على قيد الحياة. تذهب مباشرةً إلى أمِّها التي تكون قد ارتدت ملابسها، تلتصق بساقيها مثل علَقة، فتزيحها تلك جانباً وتصفق خلفها الباب، متوجهة إلى عملها من دون أن تنظر إلى ابنتها أو تمسح بعجل على رأس ابنتِها المرتجفة.

في فرنسا، سمعت هاجر نباحاً كفيلا بملء عشرينَ ذاكرة هاتفية، لكنها متأكدة أنه سيختفي من ذاكرتها فور أن تغادر. تبدو هنا الأشياء هشة، بلا ذاكرة، حتى المطر ينزلقُ بخفَّة بين قطع البلاط المستطيلة الصَّغيرة، ليسقط في جوفِ المجاري كأنَّه رشفة شاي، على عكس المطر الذي يبيت في المغرب الليل كله في البِركِ.

back to top