الطرق الصوفية... والإسلام السياسي في تركيا (1)

نشر في 28-07-2016
آخر تحديث 28-07-2016 | 00:05
 خليل علي حيدر تمثل محاولة 15 يوليو 2016 الانقلابية في تركيا، مهما كانت حقيقتها ومهما كان دور المتهمين في تدبيرها، نقطة تحول داخل التيار الإسلامي فيها، إذ وقع بسببها انقسام حاد وصادم وعداء سافر، بين حزب العدالة والتنمية، ممثل تراث الزعيم الإسلامي التركي نجم الدين أربكان من جانب، وممثل امتداد "جماعة النور" التي أسسها الشيخ "بديع الزمان سعيد النورسي" (1876-1960) أي الداعية "فتح الله غولن" المقيم حاليا في الولايات المتحدة، وأحد أبرز بناة العمل الإسلامي الاجتماعي في تركيا، والمساند طويلا للرئيس التركي الحالي "رجب طيب إردوغان" من جانب آخر!

جرت مقارنات كثيرة بين طبيعة الجماعات الإسلامية العربية وطبيعة الجماعات التركية، وبخاصة من ناحية التشدد والتعصب والتسامح مع الرأي الآخر، وتقبل الديمقراطية والتعددية ودور المرأة وغير ذلك، ولا شك أن المقارنة قد تمضي بعيداً وقد لا تكون عادلة بسبب تنوع التجارب والأحزاب العربية الإسلامية واختلاف بلدانها وظروفها السياسية مقارنة بما عاشته تركيا ولا تزال.

وقد نتساءل: هل الأتراك أقل دوغمائية وتقديساً للنصوص والالتزام بالفهم السلفي أو المتشدد؟ وهل ما يؤثر في سلوكهم الفكري قربهم من أوروبا وعضوية دولتهم في الناتو وطبيعة مجتمعهم؟ أم أن انتماء الأتراك إلى المذهب الحنفي، مذهب أهل الرأي وتنوع الاجتهاد، وتجارب الدولة والخلافة العثمانية له تأثيره؟ وهناك عامل آخر له تأثيره المؤكد ولا شك في العمل الإسلامي التركي، بما يجعله مختلفاً عن الحال في الدول العربية، ألا وهو التراث الصوفي وجماعاته ودوره في الإسلام العثماني والتركي المعاصر، ولا يفوتنا أن نلاحظ أن تياراً إسلامياً رئيسياً في العالم العربي، أي التيار السلفي، نظر شزرا منذ سنين طويلة إلى الممارسة الإسلامية التركية، مذهبا وسلوكاً، لهذين السببين، أي تبني المذهب الحنفي والتسامح مع الثقافة الصوفية وطرقها.

وعلى أي حال، فلدى الكثير منا معلومات تفصيلية عن الإسلام السياسي العربي وأحزابه وشخصياته وتجاربه، كالإخوان المسلمين والجماعات السلفية وحزب التحرير وغيرها، ولا ينطبق ذلك على مدى متابعتنا للحالة التركية، وسنعمد ضمن مجموعة من المقالات إلى أن نشرح ونلخص أبرز الاختلافات والمؤثرات والأفكار المتعلقة بالتجربة التركية، المختلفة في العديد من ملامحها عن التجربة العربية والإيرانية وغيرهما. كان للتصوف كما ذكرنا أهمية خاصة في حياة الأتراك منذ قرون، إلى جانب دوره المهم في الدولة العثمانية من بداية النظام حتى سقوطه، وكان الخلفاء والسلاطين العثمانيون أنفسهم ينتمون إلى بعض الفرق الصوفية، وكان التصوف كذلك وبخاصة "الطريقة النقشبندية"، من منابع العمل الجماعي الإسلامي وأوعيته في تركيا، وأداة استقطاب وجذب في الأوساط الشعبية والمتعلمة على حد سواء، فكان كبار رجال التصوف وشيوخه ذوي مكانة متميزة، إلى جانب علماء الدين الذين يعتمد عليهم النظام. يقول المؤرخ د. علي المحافظة: "كان علماء الدين في الدولة العثمانية يعتبرون أنفسهم حماة الشريعة والحريصين على التمسك بمذهب أهل السنّة، إذ كان دين الدولة الإسلام ومذهبها الرسمي هو المذهب الحنفي، وكان على رأس هؤلاء العلماء شيخ الإسلام، ووظيفته شبيهة بوظيفة الخليفة العباسي، الذي كان يقيم في القاهرة في ظل حكم المماليك، وكان مركزه معادلا لمركز الصدر الأعظم (رئيس الوزراء)، ويتمتع شيخ الإسلام بصلاحية إصدار الفتاوى في القضايا الكبرى، فقد يصدر فتوى بعزل السلطان، وكان له حق إعلان الجهاد، ولكنه من الناحية العملية يعين من قبل السلطان".

(الاتجاهات الفكرية عند العرب، علي المحافظة، بيروت، 1983، ص12).

ولم تكن للطرق والفرق الصوفية وكبار شيوخها في الدولة العثمانية مكانة دينية وشعبية فحسب، بل كان للطريقة البكداشية مثلا دور أساسي في تعبئة فرق الانكشارية وإعدادها دينيا ونفسياً للقتال، إذ كان هؤلاء طليعة القوات العثمانية في حروبها الأولى ضد الممالك الأوروبية، وكان معظمهم كما هو معروف من أبناء الأسرى المسيحيين، ممن تتلقاهم الدولة ويقوم البكداشيون بالإشراف على تعبئتهم الدينية والعقائدية. وكانت بعض الأسر المسيحية في البلقان وغيرها تحث أبناءها على الالتحاق بهذه الفرق النخبوية، لتضمن لنفسها وأسرتها مكانة متميزة داخل الدولة. والواقع أن للعلاقة بين المتصوفة والسلطة تاريخا طويلا في المجتمعات الإسلامية، وكانت الدولة الفاطمية تشجع المتصوفة على التوافد إلى مصر لدعم نفوذها وشرعيتها. "ولما تولى صلاح الدين الأيوبي حكم مصر كان يدرك تماماً أن الهزيمة العسكرية والسياسية للفاطميين لا تكفي، فالدولة الفاطمية كان لها أيديولوجيتها الخاصة، ولذا أضحى من الضروري أن يبحث عن أيديولوجية بديلة، ولهذا قرب منه المتصوفة السّنة، فقام بنقل قبر "الكيزاني"، وهو صوفي سنّي قاوم شيعية الفاطميين، ثم استورد صوفية من الشرق، وأنشأ لهم خانقاه "سعيد السعداء"، وأرسل من لدنه متصوفة إلى الصعيد ومنهم عبدالرحيم القنائي، الذي كان متصوفاً شيعياً، وانقلب على أتباعه وانضم إلى سلطان الأيوبيين".

(التنشئة السياسية للطرق الصوفية في مصر، د. عمار علي حسن، القاهرة 2009، ص169).

ويتحدث المؤرخ الأردني علي المحافظة في الكتاب المشار إليه "الاتجاهات الفكرية عند العرب" عن الاحتكاك الذي كان يقع في الدول العربية زمن العثمانيين مع تزايد نفوذ المتصوفة بين رجال الدين فيقول: "أثار نمو الطرق الصوفية الجديدة الشكوك في نفوس علماء الدين، أول الأمر، فناصبوها العداء واتهموا أتباعها بالشعوذة والهرطقة، ولذا سعى مؤسسو هذه الطرق إلى حماية أنفسهم من العلماء والسلطات الرسمية بأن أعلنوا ولاءهم وتبعيتهم لأحد الأئمة الكبار من أهل السنّة.

كما أثار انتشار هذه الطرق عداوة الأشراف من أهل البيت الذين رأوا عامة الناس يركضون وراء شيخ الطريقة يتمسحون به ويرجون التبرك به، بعد أن كانت مثل هذه الأمور مقصورة عليهم، بصفتهم أهل بيت الرسول (صلى الله عليه وسلم)، ولم تنج هذه الطرق الصوفية من عداء الحكام المحليين الذين كانوا يرهبون كل حركة شعبية مهما كان مصدرها ونوعها".

ويضيف: "انتشرت الطرق الصوفية في الدولة العثمانية وأصبح لكل حرفة ولكل مجموعة من الناس حلقة صوفية أو حلقات ذات صلة بإحدى الطرق الصوفية الكبرى، وكان لكل طريقة "تكية" أو "رباط" أو "زاوية" يقيم فيها الدراويش، أو يزورونها في حلّهم وترحالهم، وكان الدرويش أو الصوفي إنسانا محظوظاً يبحث الناس عن التبرك به في حياته ويحجون إلى قبره بعد الوفاة، ويُدعى هؤلاء الدراويش بـ"أهل الغيب"، أما رئيس الطريقة فيسمى قطباً".

(ص 17- 20).

ويُبين د. كمال حبيب الذي كتب رسالة دكتوراه عن الإسلام والأحزاب السياسية في تركيا، ودرس بعمق حزب الرفاه 1983-1997 أن الطرق الصوفية مثلت القاعدة الاجتماعية للدولة العثمانية في بدايات تكوينها، ويضيف: "ظلت هذه الطرق مع تبلور مؤسسات الدولة تعبر عن الإسلام الشعبي متوازية مع الإسلام الرسمي تعبيراً عن الطبيعة التعددية للدولة العثمانية التي لم تكن تحتكر لنفسها الإسلام لتتحدث باسمه وحدها، ومن هنا سمحت للتعبيرات الدينية الإسلامية الأخرى مثل المذاهب الفقهية غير الحنفية والفرق غير السنية مثل المذهب الشيعي والطرق التي تعبر عن الإسلام الشعبي بتقاليده الخاصة، والتي تختلف بالضرورة عن الإسلام الرسمي الذي تبنته الدولة".

ويشير إلى انتماء معظم السلاطين إلى الطرق الصوفية، فيقول: "ومع تشجيح السلاطين لهذه الطرق انتشرت في قطاعات مهمة بين العثمانيين مثل التجار والحرفيين بطوائفهم المختلفة، بحيث تداخلت الحرف مع الانتماء إلى طرق صوفية معينة كانت تمثل الإطار الأخلاقي الضابط للمنتسبين إليها".

(الدين والدولة في تركيا المعاصرة، القاهرة، 2010، ص28).

ويقول إن مصطفى كمال أتاتورك نفسه احتاج إلى مساندة الجماعة النقشبندية في صراعه مع الخلافة الإسلامية، "التي شاركت على نطاق واسع في حروب ومعارك التحرير، ولذا فإن دستور 1924 ترك الطرق الصوفية حرة دون أية قيود. وكانت الطرق الصوفية في القرن التاسع عشر من القوة والتأثير لدرجة أن دعاة الإصلاح في الدولة كانوا يحسبون لها ألف حساب. وقد اشتكى أحد العثمانيين ممن يشغلون وظيفة مرموقة في الدولة لأحد الغربيين: "صدقني، إن وزراءنا يعملون عبثاً وبلا طائل، فالحضارة لن تنفذ إلى تركيا طالما أن التكيات والقبور قائمة".

(الطرق الصوفية في الإسلام، سبنسر ترمنغهام، ترجمة د. عبدالقادر البحراوي، بيروت 1997، ص369).

وكان آخر تجلّ لدور الطرق الصوفية في الدولة العثمانية ما أقدم عليه السلطان عبدالحميد الثاني (1867-1909)،

فيقول أحد المؤرخين الإسلاميين المتعصبين للدولة العثمانية، د. علي محمد الصلابي، عن مساعي السلطان عبدالحميد في الاستفادة من الجماعات السلفية في العالم الإسلامي: "استهدف السلطان عبدالحميد الطرق الصوفية في كسب ولائها للدولة العثمانية والدعوة إلى فكرة الجامعة الإسلامية، واستطاع أن يكون رابطة بين مقر الخلافة- استنبول- وبين تكايا ومراكز تجمع الطرق الصوفية في كل أنحاء العالم الإسلامي، واتخذ من حركة التصوف في العالم الإسلامي وسيلة للدعاية للجامعة الإسلامية، كما اتخذ من الزهاد من غير المتصوفة وسيلة أيضا للدعوة لفكر التجمع الإسلامي، وتكونت في عاصمة الخلافة لجنة مركزية، مكونة من العلماء وشيوخ الطرق الصوفية، حيث عملوا مستشارين للسلطان في شؤون الجامعة الإسلامية: الشيخ "أحمد أسعد" وكيل الفراشة الشريفة في الحجاز، والشيخ "أبو الهدى الصيادي" شيخ الطريقة الرفاعية، والشيخ "محمد ظافر الطرابلسي" شيخ الطريقة المدنية".

وعن المساعي التي بذلت لكسب الطرق الصوفية الأخرى كالتيجانية والقادرية والشاذلية يقول: "وكانت الدولة العثمانية تنتشر فيها هيئات فرعية في كافة الأقاليم خاضعة لهذه اللجنة، ومن أهمها التي كانت في مكة تحت إشراف شريف مكة ومهمتها نشر مفهوم الجامعة الإسلامية في موسم الحج بين الحجاج، وأخرى في بغداد، وتقوم بنفس المهمة بين أتباع الطريقة القادرية، الذين يأتون بكثرة من الشمال الإفريقي لزيارة الشيخ عبدالقادر الكيلاني مؤسس الطريقة، وللجنة المركزية للجامعة الإسلامية في استنبول فرع إفريقي يعمل في شمال إفريقيا وهو يعمل في سرية تامة، مهمته تنسيق العمل بين الجماعات الدينية هناك لمقاومة الاحتلال الفرنسي، وهذه الجماعات هي "الشاذلية والقادرية والمدنية".

(الدولة العثمانية: عوامل النهوض وأسباب السقوط، القاهرة 2008، ص 502-503).

(يتبع غداً)

back to top