أوراق وردة الغناء العربي (11- 20)

«أيام مع وقف التنفيذ» ثمن العودة إلى الغناء

نشر في 16-06-2016
آخر تحديث 16-06-2016 | 00:04
في الحلقة السابقة تحدثنا عن رحلة كفاح الجزائر مع النضال والمقاومة والإصرار والتحدي حتى تحصل على حريتها من المستعمر الفرنسي ومسلسل الثورات المستمرة في كل مكان بالجزائر إلى أن قامت الثورة الشاملة التي تحقق معها حلم الاستقلال، وكيف أن مصر دعمت ثورة الجزائر بالسلاح والخبرات، بالإضافة إلى الدعم الفني والثقافي وكان أبرز دليل على ذلك النشيد الوطني الجزائري الذي كتبه الشاعر مفدي زكريا والذي قام بتلحينه الموسيقار محمد فوزي وكان هدية منه لشعب الجزائر، كما غنى عبدالحليم حافظ للجزائر أغنية جميلة تتغزل بمدن الجزائر وأيضاً قدم المخرج يوسف شاهين فيلمه العبقري «جميلة» عن حياة المناضلة الجزائرية جميلة بوحريد.
وعندما جاءت مناسبة الاحتفال بالعيد العاشر لاستقلال الجزائر طلب الرئيس هواري بومدين من وردة أن تغني في هذه الاحتفالية الكبرى وبالفعل استأذن زوجها جمال قصيري ليسمح لها بالغناء ووافق على مضض أمام هذا الأمر الرئاسي.
طلبت وردة أن يلحن لها أغنية هذا الاحتفال الموسيقار بليغ حمدي وكانت أغنية (من بعيد يا أملي) التي بمجرد أن غنتها وردة شعرت بالحنين للعودة إلى الغناء مرة أخرى وأحست أن ابتعادها عنه حرمها من أشياء ومتع كثيرة تنتظرها وتتمناها وحاولت أن تحصل من زوجها على الموافقة بالعودة للغناء إلا أنه رفض بشدة وأمام إلحاحها ورغبتها الجارفة في استمرارها بطريق الفن خيرها زوجها بين أولادها أو الغناء لتكتشف وردة أنها أمام أصعب اختيار في الدنيا وأن عليها أن تحسم أمرها بأن تغني أو تتخلى عن أمومتها.

وصدر بداخلها القرار وكل أعماقها ومشاعرها تتمزق لدرجة الاحتراق

قالت: أختار الغناء.

فقال لها زوجها بحسم: أنت طالق ولن تري أولادك بعد اليوم.

كان انفصال وردة عن جمال قصيري أصعب قرار في حياتها، فقد حمل بالنسبة إليها الكثير من المرارة والظلم، ودفعت ثمنه غاليا من أمومتها، لأن قرار الطلاق حرمها لسنوات طويلة من رؤية ابنيها وداد ورياض، ومنذ تلك اللحظة أصبحت وردة «أم مع وقف التنفيذ»، أماً فقدت رئة تتنفس بها وهي أولادها، لكن هناك رئة أخرى يمكن أن تعوضها وتواسيها وتمنحها الصبر.. إنه الغناء، ذلك الحبيب الذي لم تتردد وردة لحظة واحدة في الهروب إليه بعد أن ابتعدت عنه رغما عنها.

على وردة الآن أن تعيد صياغة حياتها وترتيب أحلامها، وأن تبدأ مشوارها من أول السطر، وتدرك أن نجاحها في الغناء هو اللحظة التي يجب أن تعيشها والتعويض الذي يجب أن تحصل عليه والأمان الذي تبحث عنه والحب الذي يضيف لها القدرة على الاستمرار.. عليها أن تدرك أنها تركت الجزائر وبيتها وزوجها وأولادها وأقرب أصدقائها وعائلتها، ولم يعد لديها أحد سوى «نجاحها».

نحن الآن في مطلع عام 1973.. وردة تركب الطائرة من الجزائر في طريقها لمصر بعد غياب 10 سنوات، وتحمل في ذاكرتها مجموعة صور ومشاهد تلخص معاناتها والحياة التي عاشت تفاصيلها دون أن تحبها بعد أن أجبرتها الظروف عليها.

آخر مشهد شاهدته على شاشة ذاكرتها مشهد بليغ حمدي مع فرقته الموسيقية وهو يجري بروفات الأغنية التي قدمتها في عيد الاستقلال العاشر للجزائر.

كانت تتذكر هذا المشهد وظلال ابتسامة تشرق على وجهها فقبل هذا المشهد أرسل أخوها مسعود خطابا إلى الشاعر الغنائي محمد حمزة يقول فيه:

(الأخ محمد حمزة أرجو إبلاغ بليغ بضرورة الحضور إلى الجزائر على العنوان التالي أو الاتصال تليفونيا برقم الهاتف التالي لأن أختي وردة قررت العودة للغناء مرة أخرى ومواصلة نشاطها الفني).

كيف امتلكت الجرأة لتطلب بالاسم بليغ حمدي حتى يلحن لها الأغنية.. هل كانت تعلم في أعماقها أن هذه الأغنية سوف تقلب حياتها رأسا على عقب.. هل كانت تحس أن بليغ سيكون الجسر الذي تعود من خلاله مرة أخرى إلى مصر فأشارت عليه؟ هل كانت واثقة أن عودتها لن تتحقق إلا عبر موسيقاه ونغماته التي سحرتها منذ أن شاهدت مع أخيها فيلم «الوسادة الخالية» واستمعت إلى لحن (تخونوه).. هل كان بداخلها حنين لرؤية بليغ بعد كل هذه السنوات العجاف؟

كوني صريحة أكثر يا وردة.. اعترفي وكوني شجاعة.. هل تشعرين بالحب تجاه بليغ؟

عند هذا السؤال تصمت مشاعرها وتدير دفة الذكريات إلى واحة الغناء، وكأنها تهرب من الإجابة عن هذا السؤال الذي يرن طوال الوقت داخل أذنيها.

سؤال يطاردها.. يراوغها.. يتحداها.. ينتظر إجابتها، وكأنها مزجت بين عشقها للغناء وإعجابها ببليغ وأصبح انفصال الاثنين بداخلها مستحيلا حدوثه ومن الصعب تخيله.

وكأنها بالفطرة وصلت إلى قناعة أن بليغ هو الفارس الذي سيحملها على أجنحة ألحانه إلى قمة المجد ويضعها على قمة الغناء.

إنها تعلم كم قاسى بليغ من مشاعر حبه لها وكم عانى من ابتعاده عنها، تعلم أنه يحبها حبا غير عادي.

وتتذكر اليوم الذي طلبها فيه للزواج وكان معه يومها الإذاعي وجدي الحكيم لكن والدها استقبله على باب المنزل بنظرات نارية ممزوجة بالسخرية ولم يسمح له بالدخول معلنا له بإصرار وعناد رفض الخطوبة لأن بليغ بالنسبة له هو آخر رجل ممكن أن تتزوجه ابنته.

واتسعت ابتسامة وردة بينما الطائرة تحلق بعيدا عن أرض الجزائر لتتحول إلى ضحكة بصوت مسموع وهي تتذكر مشهدا عجيبا آخر: فبليغ لم ييأس بعد هذا الرفض وبدأ يفكر في خطط شيطانية مع أصدقائه ليساعدوه في الزواج منها بالرغم من رفض أهلها وفكر أن يهرب معها ليتزوجا سراً لكن الفكرة ظلت حبيسة العقل والقلب ولم يستطع الاثنان أن ينفذاها واستقر بليغ على خطة أخرى شديدة الدهاء وهي أن يحضر موظف الشهر العقاري تحت شباك غرفة وردة التي كانت تسكن وقتها في الدور فوق الأرضي ليقوم الموظف بإتمام إجراءات الزواج ثم تفتح له وردة الشباك لتوقع على وثيقة الزواج وبعدها تكون أسرتها أمام الأمر الواقع ولا تستطيع رفض الزواج.

كانت أشبه بمحاولة تقليد روميو وجوليت، ولكن هذه المحاولة أيضا باءت بالفشل بسبب حالة الحصار الرهيب التي كانت مفروضة على وردة، فكان يبعث لها رسائل حب وشوق عبر أغاني كبار المطربين التي كان يلحنها، مثل أم كلثوم وعبدالحليم حافظ وشادية.

والسؤال الآن: هل ستتزوج وردة ألحان بليغ أم تتزوجه هو نفسه؟

الإجابة متروكة للمصادفة أو الأيام المقبلة لها في مصر.

الآن عليها فقط ألا تفكر في أي شيء سوى الغناء وكيف تعود وماذا تغني وإلى أي مدى سوف يستقبلها الجمهور وتستعيد معه لحظات جميلة من التألق والاندماج والذوبان مع كلمات ما تغنيه.

وكانت البداية الجديدة لها في حفل للإذاعة، حفل ستقدم فيه أغنيتين من ألحان بليغ حمدي، الأولى أغنية عاطفية جدا وهي (العيون السود) التي كتب بليغ مطلعها بعد أن عانى من وجع البعاد والشوق لرؤية وردة ولم يستطع أن يكملها وطلب من صديقه الشاعر محمد حمزة أن يستكملها وهي تعتبر تجربة شديدة الصدق والخصوصية في حياة بليغ وفي حياة وردة فيما بعد.

ولحن بليغ الأغنية وكله أمل أن تجمعه الأقدار بوردة لتغنيها وكان دائما يدندن بها على العود في كل الحفلات التي يحضرها وسط أصدقائه المقربين الذين كان يعلم معظمهم أنه قصد وردة بهذه الأغنية.

وظلت الأغنية حبيسة في قلب بليغ مدة طويلة جدا ولم يفكر في أن يعطيها لأي مطرب أو مطربة وعندما شعر باليأس من عودة وردة أعطى الأغنية للفنانة نجاة الصغيرة التي فرحت بها جدا وبدأت تحفظها فعلا استعدادا لغنائها

إلا أنها لم تكن من نصيبها في اللحظات الأخيرة.

فها هي وردة تعود لمصر وللغناء.. تعود لتحقق حلم بليغ في أن تغنيها لأنها مكتوبة لها.. لأنها تصفها.. لأنها معجونة بمشاعر حبها.. لأنها تعبر عن حب غال محروم منها.. لأنها خلاصة أيام عذاب وهجر وفراق وقسوة زمان.

وبمجرد عودة وردة سحب بليغ الأغنية من نجاة التي انفعلت جدا أمام هذا الموقف الغريب لدرجة أنها فكرت أن تلجأ إلى القضاء وتشكو بليغ، إلا أن الأصدقاء المقربين لهما أقنعوها بالتراجع عن هذه الخطوة.

وشدت وردة بالأغنية وكانت وهي تؤديها تكاد تبكي، فقد كانت تعلم جيداً أن كل كلمة في الأغنية مكتوبة لها، وتخاطبها وتطلب ودها، وتعلم أن كل حرف ممزوج بحب يساوي الدنيا بحلوها ومرها،وتدرك تماماً أن بليغ وضع روحه في اللحن الذي كسر الدنيا بعد أن غنته.

إنها توافق على كل كلمة في الأغنية.. توافق على مشاعر بليغ وأنها من الممكن أن تصبح شريكة حياته ووليفة عمره وأيامه، وأن تمحو كل سنوات المرارة التي مرت عليها وعليه.. توافق أن تضع النهاية السعيدة لحرمان وانتظار وشوق طال كثيراً.

وها هي تغني وتذوب مع كل آهة وكلمة وتنهيدة، وتتحول مع الموسيقى إلى طائر من البهجة والفرحة وهي تقول:

وعملت أيه فينا السنين

فرقتنا ... لا

غيرتنا .... لا

ولا دوبت فينا الحنين ... السنين

لا الزمان .. ولا المكان

قدروا يخلوا حبنا

دا يبقى كان

وبحبك والله بحبك والله والله والله بحبك

قد العيون السود بحبك

وأنت عارف .. ما أنت عارف

أد أيه كتيرة وجميلة

العيون السود في بلدنا يا حبيبي

وبحبك والله بحبك والله والله والله بحبك

أد أغاني الصبر بحبك

وأنت عارف قلنا أيه فيها كل ليلة

وقال معانا الناي في سهرنا يا حبيبي

أحبك والله أحبك والله والله والله أحبك

أد اللي فات من عمري بحبك

وأد اللي جاي من عمري بحبك

وشوف أد أيه شوف أد أيه بحبك

اللي كان هو اللي كان

قدر يغيره في يوم الزمان

لا الزمان ولا المكان

قدروا يخلوا حبنا دا يبقى كان

كل ليلة من ليالي البعد عدت عليا

وأنت مش جنبي يا روحي

يا نور عينيا

وحبي فيها كان بيكبر من ليلة وأكتر

والله من ليلة وأكتر

أد كل الليالي ديه وأكتر شوية بحبك

وأد عمري ونور عينيا يا نور عينيا بحبك

أد اللي فات من عمري بحبك

وأد اللي جاي من عمري بحبك

وشوف أد أيه شوف أد أيه بحبك

أغنية: في يوم وليلة
كلمات: حسين السيد

ألحان: محمد عبد الوهاب

غناء: وردة الجزائرية

في يوم وليلة

خدنا حلاوة الحب كله

في يوم وليلة

أنا وحبيبي

دوبنا عمر الحب كله

في يوم وليلة

عمري ما شفته ولاقابلته

ويا ما ياما شاغلني طيفه

وفي يوم لقيته .. لقيته هو

هو اللي كنت بأتمنى أشوفه

نسيت الدنيا وجريت عليه

سبقني هو وفتح أيديه

لقينا روحنا على بحر شوق

فضلنا نشرب ودبنا فيه

ومين يصدق يجرى ده كله

ونعيش سوا العمر كله

في يوم وليلة

***

في كل حاجة أتغيرت

قدام عينيا

وكل شيء في الدنيا حلو

يقول ده ليا

وأي حاجة ألمسها تحلو في إيديا

ده من نهار حبك ماجه

وسلم عليا

آه يا حبيبي كنت واحشني

من غير ما أشوفك وتشوفني

والقدر الحلو أهو جابني

وجابك علشان تقابلني

اتارينا كنا تايهين ولقينا

أحلى أيام ليالينا

وإحنا فيها لوحدينا

وآه .. آه .. آه

ومين يصدق يجرى ده كله

ونعيش سوا العمر كله

في يوم وليلة

***

يلي كان طيفك على بالي

وأنا بأتمناك

مش حصدق أيه كان حالي

قبل مالقاك

كنت بأحسد كل فرحة

أشوفها بين قلبين

كنت أغير من أي همسة

حلوة بين حبيبين

ولما صحيت على حبك

وشفت الدنيا من عندك

أتمنى لو كل العشاق

يحبوا زي ما أنا بحبك

آه يا حبيبي كنت واحشني

من غير ما أشوفك وتشوفني

والقدر الحلو أهو جابني

وجابك علشان تقابلني

اتارينا كنا تايهين ولقينا

أحلى أيام ليالينا

وإحنا فيها لوحدينا

وآه .. آه ... آه

ومين يصدق يجرى ده كله

ونعيش سوا العمر ده كله

في يوم وليلة

***

يا حبيبي كنت واحشني

من غير ما أشوفك وتشوفني

والقدر الحلو جابني

وجابك علشان تقابلني

اتارينا كنا تايهين ولقينا

أجمل أيام ليالينا

وإحنا فيها لوحدينا

وآه.. آه .. آه

ومن يصدق يجرى ده كله

ونعيش سوا العمر كله

في يوم وليلة

أم كلثوم.. ساعي بريد لأشواق بليغ!
كان العاشق بليغ حمدي يرسل رسائل حب إلى معشوقته وردة، عبر الأغاني التي يلحنها لكبار المطربين، فمن بين الأغنيات التي كانت تعرض عليه لتلحينها كان يختار الأغنيات ذات الكلمات التي تعبر عن حالة شوقه وقتذاك، وبالتأكيد كانت وردة تدرك ذلك وتمس نغماته قلبها، من خلال أصوات المطربين والمطربات الذين تعامل معهم.. كلهم بلا استثناء كانوا «ساعي بريد» لأشواقه وعواطفه وشجونه.

وكان أروع صوت حاملا لهذه الرسائل هو صوت كوكب الشرق أم كلثوم التي غنت له «أنساك ده كلام.. أنساك يا سلام» وغنت «بعيد عنك حياتي عذاب.. ماتبعدنيش بعيد عنك»، وأيضا أغنية «أنا وأنت ظلمنا الحب بالغيرة.. وجبنا للظنون سيرة»، وأغنيات أخرى كثيرة مثل «ألف ليلة وليلة» و«سيرة الحب» و«فات الميعاد».

وفي يوم قالت له أم كلثوم: تعالى يا واد.. هو أنت صحيح عملتني كوبري علشان تبعت من خلالي رسايل للبنت اللي بتحبها؟

ضحك بليغ وتساءل ببراءة: بنت مين يا ست ثومة؟

فنظرت له أم كلثوم وكأنها تفهمه جيدا: البنت اللي اسمها وردة واللي ماعرفتش تتجوزها.. أوعى تكون فاكر إني نايمة على وداني.. دي كل الأغاني اللي اتحمست أنك تلحنها لي بتبعت لها منها رسايل وتلغرافات.. أوعى تفتكر إني عبيطة.

تجهم وجه بليغ وقال بحزن: الأغاني دي أنا ألحنها بروحي ودمي وإحساسي يا ست الكل.

فأرادت أن تخرجه من حالة الحزن: أنا عارفة وعلشان كده ألحانك معايا ليها طعم تاني ونجاح شكله مختلف.. بس ركز في شغلك ومين عارف القدر مخبي لك أيه؟

كما حمل عبدالحليم حافظ رسائل أخرى لوردة من بليغ مثل سواح وماشي في البلاد سواح .. والخطوة بيني وبين حبيبي براح .. وإن لاقاكم حبيبي .. سلمولي عليه.

إنها أغان موجهة وكلمات محددة وحب واضح ورسائل من الصعب أن يتجاهل المستمع كم الإحساس الموجود فيها.

أم كلثوم قالت لبليغ حمدي: أنت عملتني كوبري عشان البنت اللي بتحبها

بدأت إعادة صياغة حياتها وترتيب أحلامها عقب عودتها إلى الغناء

في عام ١٩٧٣ تعود إلى مصر بعد قطيعة استمرت ١٠ أعوام

بليغ يسحب أغنية من نجاة الصغيرة ويعطيها لوردة
back to top