الفيلسوف الضاحك : نجيب الريحاني... مملكة الحب 1

نشر في 20-07-2012 | 00:01
آخر تحديث 20-07-2012 | 00:01
لم يكن نجيب الريحاني نفسه، يعرف سر اهتمامه الكبير بفيلم «غزل البنات»، الذي قدم فيه دور «الأستاذ حمام» مدرس اللغة العربية الفقير الذي يعمل في مدرسة خاصة، والتي يطرد منها لضعف شخصيته وطيبة قلبه، ليصبح مدرساً خصوصياً لابنة الباشا، والتي يقع في غرامها، غير أنه يكتم هذا الحب في قلبه، مضحياً بنفسه وحبه وقلبه من أجل إسعادها، وهو ما لخصته أغنية «عاشق الروح» التي قدمها ضمن أحداث الفيلم الموسيقار محمد عبد الوهاب، وبكى على إثرها «حمام أفندي» تأثراً بكلماتها بعدما ضغطت على جرحه الغائر.

اهتم نجيب الريحاني بفيلم «غزل البنات» اهتماماً خاصاً، بداية من حرصه على مشاركة ليلى مراد في فيلم سينمائي، لدرجة أنه هو من بادر وطلب منها مشاركته فيلماً سينمائياً، ثم الجلوس مع شريكه الفني بديع خيري للعمل على القصة التي كتب الفنان أنور وجدي السيناريو والحوار لها، مروراً بمشاركة مخرج ومنتج وبطل الفيلم أنور وجدي، في اختيار الفنانين الذين يشاركون في الفيلم، وحشد له أكبر عدد من عمالقة التمثيل والغناء آنذاك إلى جانب الثلاثي «نجيب وليلى وأنور»، ليضم الفيلم أيضاً يوسف بك وهبي، سليمان بك نجيب، عبد الوارث عسر، محمود المليجي، أستيفان روستي، فريد شوقي، وسعيد أبو بكر، فردوس محمد، وزينات صدقي، كذلك قدم عدداً من الفتيات ككومبارس صامت في أدوار زميلات «ليلى» في الدراسة، منهن داليدا (المطربة العالمية في ما بعد)، هند رستم ونبيلة السيد.

لم يقتصر اهتمام الريحاني على التحضير للفيلم حتى انتهاء تصويره، بل راح، على غير العادة، يتابع مراحل ما بعد التصوير، ولم ينتظر أن تنتهي هذه المراحل ليشاهد الفيلم مكتملاً، بل طلب من مخرجه أنور وجدي أن يشاهد ما انتهى إليه من مونتاج الفيلم بشكل ملح، ما أثار دهشة أنور وجدي:

- أيوه يا أستاذ أنا مستعجل أكتر منك... بس لسه «الدوبلاج» هيخلص بكره... وبعدين فيه كام مشهد كده ناقصين كنا عاوزين نصورهم.

- لا كام مشهد ولا كام سنيه... حلو قوي كده... أنا مش هقدر أعمل أكتر من اللي عملته.

- لا. أنا في عرضك يا أستاذ نجيب. ده مال يتامى... وأنت ميرضكش أخسر.

- أنت تخسر؟! يا سلام على الأونطة بتاعتك يا سي أنور... هشوف الفيلم يعني هشوف الفيلم.

- صدقني يا أستاذ لسه مش هينفع. وبعدين ناقص المزيكا... ومكساج... لسه لسه.

- مزيكة الفيلم ولا الأغنية؟

- الأغنية خلصت خلاص... الأستاذ عبد الوهاب بعت لي أسطوانة الأغنية وركبناها. لكن لسه مزيكة الفيلم.

- مش مهم... خليني بس أشوف اللي خلص... وبعدين ركب المزيكا براحتك... أنا مش هقدر استنى لما يخلص خالص.

- بس أنا بدي أعرف أنت مستعجل ليه؟ أنت مسافر؟

- يمكن يا أخي مين عارف؟!

وكأنه كان يدري أنه على سفر... سفر طويل لن يعود منه، فما كان من أنور إلا أن لبى رغبته، وجلس إلى جواره في حجرة المونتاج في أستوديو مصر يشاهدان معاً النسخة الأولية من فيلم «غزل البنات»...

لم ينتبه أنور وجدي أن الأستاذ يبكي إلا بعدما انتهى الفيلم وأضيئت الأنوار فوجده يمسح دموعه:

- يا نهار أبيض... الأستاذ نجيب الريحاني بذات نفسه بيبكي. يبقى أنا نجحت... أنا كده اطمنت.

- بس يا واد يا أونطجي. هو لازم تشوف دموعي يعني علشان تعرف أنك نجحت... وبعدين دي مش دموع من الفيلم... دي من الخنقة. الأوضه حر ومخنوقة...

- أطلع من دول يا أستاذ حمام... قصدي يا أستاذ نجيب. دموعك دي أنا بعتبرها أكبر جايزة.

- أنت موهوب يا أنور وهيبقالك مستقبل كبير.

على غير العادة في غالبية أعماله، خرج نجيب الريحاني من أستوديو مصر في الثالث من مارس في عام 1949، بعدما شاهد نسخة أولية من فيلمه «غزل البنات»، قبل أن يستكمل مخرجه أنور وجدي، بقية عناصره الفنية، من مونتاج ومكساج ودوبلاج، حيث كان يتم آنذاك عمل الدوبلاج في السينما المصرية لتركيب الصوت على الصورة قبل اختراع الأجهزة الحديثة، ليصبح الفيلم بعد ذلك في صورته النهائية ويكون جاهزاً للعرض، ليرحل الريحاني بعد ثلاثة أشهر من هذا التاريخ، في 8 يونيو 1949!

خرج الريحاني من الأستوديو بعد مشاهدة نسخة الفيلم الأولية، ليتجه فوراً إلى مكتبه في عمارة «الأيموبليا» في شارع شريف بوسط القاهرة، ليجلس يكتب هذه الملاحظة المهمة، ليس حول رأيه في دوره في أحد أفلامه، بل تشمل الملاحظة رأيه في ما قدمه إجمالاً من أفلام على تلك الشاشة الفضية، وكأنه يدون ملاحظة للتاريخ بمقارنة سريعة بين تواجده السينمائي وتواجده المسرحي، وهل استطاعت السينما استيعاب مواهبه كافة وقدراته كفنان، مثلما فعل المسرح أم لا؟ ويكتب هذه السطور للتاريخ:

«هل وفقت في أن أسيطر على الستار الفضي بمثل القوة التي منحتني إياها مواهبي وخبرتي في السيطرة على زمام التمثيل المسرحي؟

أعتقد أنني لم أوفق تماماً... وكثيرون ممن يعرفون الريحاني قد يشاطرونني هذا الشعور.

ولكن... ألم تنل أفلامي قسطاً وافراً من النجاح؟ نعم إنها حازت هذا النجاح، لكن في نظري أنه كان نجاحاً ناقصاً، لأنه لم يظهر تلك الجهود التي بذلتها من صدق العاطفة وحسن الأداء... حتى إنني أحسست أن ضوء الستار الفضي إنما هو كضوء القمر... جميل... ولكن بارد لا حياة فيه.

ثم شاءت الظروف واجتمعنا... وكلنا ممن أخلصوا لفنهم فانسجمنا... واستحال ذلك الضوء الفضي إلى شعاع منعش كله حياة... وكله حرارة... تحقق الحلم المحبب إلى نفسي... الحلم الذي وهبته حياتي... شعرت بوجود عشاق فني أمامي... شعرت بأنني أنفذ بسهولة من وراء الستار فأصل إلى قلوبهم وأصيب مشاعرهم.

هذا ما جال في خاطري عندما شاهدت بعض مناظر من فيلم «غزل البنات» الذي أعده وأخرجه عزيزي أنور... ابني البار الوفي».

نجيب الريحاني

أستوديو مصر 3 مارس 1949

سأل نجيب الريحاني السؤال ولم يترك غيره يجيب عنه، سواء من النقاد أو المحللين أو المؤرخين السينمائيين، بل وضع الإجابة بنفسه، مقيماً، بخبرته وتاريخه وحنكته، تجربته السينمائية ككل، وليس فيلم «غزل البنات» فحسب.

شعر الريحاني بأن السينما لم تعطه ما أعطاه له المسرح، وأن أفلامه السينمائية على رغم أنها لم تكن بجهد وأداء أعماله المسرحية نفسيهما، إلا إنها نالت قسطاً وافراً من النجاح، وعلى رغم اعترافه مثل الكثيرين حوله بنجاحه السينمائي، إلا أنه يعتبر هذا النجاح ناقصاً في نظره، ليس لأنه لم يؤد كما ينبغي ويبذل جهداً في هذا الأفلام، لكن لإحساسه بأن تلك الشاشة الفضية التي شبهها بضوء القمر الساحر، شاشة باردة، بلا إحساس، بلا نبض الجمهور الذي يستمد منه قوته فوق خشبة المسرح، حتى وجد ضالته أخيراً من خلال فيلم «غزل البنات» الذي اجتمع فيه مع أقرانه من عمالقة الفن في عصره، يوسف بك وهبي، والموسيقار محمد عبد الوهاب، والقيثارة ليلى مراد، والابن البار الوفي، كما وصفه، أنور وجدي... اجتمعوا وانسجموا وأخلصوا، فتحول ضوء الشاشة الفضي البارد إلى شعاع كله حرارة تسرَّب إلى عروق الريحاني فبث فيها الحياة عبر هذا المربع الفضي، فتحقق الحلم الذي طالما حلم به، أن ينفذ من وراء الستار ليصل إلى قلوب عشاق فنه ويصيب مشاعرهم.

عندما جالت في خاطره هذه الكلمات، فسطرها عبر 20 سطراً بخط يده في ورقة صغيرة، لم يكن نجيب الريحاني يدري أنه يلخص تجربته كلها ومسيرته الفنية بكلمات بسيطة صادقة، بعدما أنهى تصوير آخر أفلامه، الذي لم يستطع أن يشاهده مكتملاً بعناصره الفنية كافة في ما بعد، لأنه رحل بعد هذا اللقاء بثلاثة أشهر فقط.

كتب الريحاني هذه الكلمات وكأنه يكتب وثيقة مهمة للتاريخ لمن سيأتي من بعده، ليعبر بصدق عن مدى اتساع «قماشة» قدراته الفنية وما كان يمكن أن يقدمه من خلالها، وكيف تحققت هذه القدرات وأخذت مداها فوق خشبة المسرح التي استمد فوقها دفء مشاعر جمهوره؟ وكيف أن تجربته السينمائية كانت آخذة في النضج والاكتمال عند فيلمه الأخير؟ وربما لو كانت هناك بقية في عمره ربما كان للكوميديا والسينما شأن آخر في وجوده... مثلما حدث مع المسرح في وجوده.

عصر من الكوميديا

لم يكن نجيب الريحاني، سواء في عصره أو حتى في العصر الحالي، مجرد فنان كوميدي وشخصية نادرة فنياً، وفنان مصري أصيل، ترك بصمة واضحة على الكوميديا المصرية، حيث كان يهز المشاعر، يضحك ويبكي من دون افتعال أو تكلف، لكنه كان علامة فارقة ومحطة مهمة في تاريخ الكوميديا المصرية، وحدا فاصلاً لما كان قبله وما جاء بعده، فربما اختار طريقه في الحياة كممثل، غير أنه أبداً لم يختر الشكل الذي قدم به نفسه لجماهيره، فقد سلك الطريق التقليدي لغالبية فناني عصره، ودخل من الباب الأشهر والأكثر اتساعاً وقبولاً، دخل من باب «التراجيديا»، وحاول، بل واجتهد ليكون أحد فناني هذا الفن الأصيل، غير أن الجماهير التي وقف أمامها رأت فيه ما لم يره في نفسه، وجدت فيه ضالتها في البحث عن نموذج لكوميديان العصر، واختارته لهذه المهمة الشاقة، بل والأكثر صعوبة، خصوصاً مع شعب لا يتذوق النكتة بل ينتجها في كل لحظة.

اكتشف الريحاني ذلك، وكان من الشجاعة أن رضخ لاختيار الجمهور، غير أنه أبى أن يكتفي بأن يكون كوميديان عصره، وعمل على أن يكون كوميديان العصور التالية له كلها، فعمل على تطوير الكوميديا المصرية لأكثر من 30 عاماً، منذ أن بدأ عمله الاحترافي في الفن في عام 1908، ابتداء من الفصل المضحك الأقرب إلى الكوميديا المرتجلة، ثم الاستعراض والأوبريت، مروراً بالكوميديا الهزلية التي خصها بمغزى أخلاقي واجتماعي جاد، حتى وصل بها إلى الشكل الأكثر نضجاً من خلال «كوميديا الموقف» التي لا تزال معتمدة إلى يومنا هذا.

لم يهدأ الريحاني طيلة 30 عاماً، هي رحلته مع الفن تقريباً، حتى أصبحت الكوميديا على يده صيغة مصرية خالصة، تعبر بصدق عن المجتمع، ساعده في ذلك عوامل رئيسة مهمة عدة، ربما أهمها وجود تربة خصبة من بيئة مصرية تتعاطى النكتة بسخرية لاذعة، وتتعامل مع الكوميديا باعتبارها جزءاً أصيلاً من حياتها اليومية. إضافة إلى ذلك، ثمة عاملان آخران لا يقلان في أهميتهما هما: موهبته الفطرية كفنان له حضور وكاريزما خاصة، إضافة إلى حظ وافر من الثقافة والاطلاع لم ينقطع عنه حتى رحيله.

فقد قطع نجيب الريحاني في مراحل التعليم شوطاً يعد قصيراً بمقاييس عصرنا الحالي، لكنه يعد كبيراً بمقاييس عصره، غير أنه لم يكتف بالوصول إلى مرحلة «البكالوريا»، ما يعادل الثانوية العامة الآن، ثم حرمانه من استكمالها بسبب ظروف الأسرة الاقتصادية، بل واصل الاطلاع حراً، والتهم الكتب التهاماً في المجالات كافة، وعمل على اتقان عدد من اللغات من بينها الإنكليزية والفرنسية إلى جانب اتقانه العربية، لدرجة أنه أصبح ملماً إلماماً رائعاً بالأدب المسرحي الفرنسي في لغته الأصلية، حتى أصبح هذا الأدب له بمثابة «كنز علي بابا» الذي راح يغترف وينهل منه، ويقوم بهضمه ثم يعيد إنتاجه في ثوبه المصري الخالص، حتى أصبح الريحاني نفسه يشكل المصدر الرئيس للأعمال الكوميدية المصرية في المسرح والسينما، بعدما صار تراثه الفني جزءاً أصيلاً في نسيج الذوق العام في مصر، لأنه استمد عبقريته في الأداء من إنسانيته كجزء من النسيج المصري، فاكتشفته الكوميديا المصرية ونصبت منه عميداً لها.

فلا أحد ينكر أن الكوميديا جزء مهم ومتأصل في تكوين الشعب العربي عموماً، والشعب المصري خصوصاً، فقد اتخذ هذا الشعب من الكوميديا، بل ومن السخرية اللاذعة، حتى من نفسه غالباً، ملاذاً آمناً يلجأ إليه كل وقته، تحديداً عندما تشتد الأمور وتضيق عليه الحياة الخناق، فيفر هارباً إلى الضحك.

فالضحك ظاهرة اجتماعية ولعل هذا ما جعل الشاعر الإنكليزي صمويل جونسون يقول في القرن الثامن عشر: «اختلف الناس في الطريقة التي يعبرون بها عن حكمتهم، لكنهم اتفقوا على الطريقة التي يضحكون بها»، أو كما عبر عنه الضاحك الساخر فولستاف، أحد أشهر الشخصيات الشكسبيرية، عندما قال في مسرحية «هنري الثامن»: «ألا تحبون الدنيا؟ إذن لأستخدمن فني في إقناعكم بأنها هكذا فعلا».

فقد تعددت أشكال الكوميديا منذ بدايات المسرح عند أريستوفانيس التي اتسمت بالبذاءة والصخب، ثم كوميديا العصور الوسطى التي ظهرت ضمن الاحتفالات بالأعياد الدينية والموالد، وما كان يتخللها من فصول هزلية مضحكة وفكر راق، ثم كوميديا الطرقات والشوارع التي نشأت في إيطاليا، كذلك الفانتازيا الكوميدية عند شكسبير، والكوميديا السياسية عند برنارد شو وبريخت وتشيكوف، والكوميديا السوداء عند موليير، لتزدهر الكوميديا القديمة وتعتمد الفكاهة على السلوك الاجتماعي وانحرافاته، وهو ما استمده منها مسرح «خيال الظل» الذي ترك أثراً كبيراً على الكوميديا المصرية، حيث تسرب بعض شخوصه وأساليبه الفنية، إلى الفصول الكوميدية المضحكة التي عرفتها البيئات الشعبية في المدن والريف المصري منذ مجيئه إلى مصر مع الفاطميين في القرن الحادي عشر، كذلك تسربت كوميديا خيال الظل إلى الفن المصري «الأراجوز»، الذي ترك بدوره أثراً عظيماً على الكوميديا المصرية، بتحول الأراجوز من دمية تصنع من الخشب، إلى شخصية إنسانية من لحم ودم، فقد أخذ الكوميديان المصري القديم من «الأراغوز» مكره الشعبي وسلاطة لسانه، وتصلب تعبيرات وجهه، كذلك استبقى صوته ذا الفحيح، وحبه للمسرح، ثم ضعفه الدائم أمام النساء وميله إلى التهريج بالكلمة والحركة والفعل اللاإرادي، أي أنه استعان بروح «الأراغوز» وملامحه الثابتة وبعض تصرفاته، ليضفي طابعاً شعبياً على أدوار متعددة.

(البقية في الحلقة المقبلة)

زخم مسرحي

في منتصف القرن التاسع عشر، بدأ المسرح في مصر يأخذ شكله التقليدي بعدما أنشأ نابليون بونابرت مسرحاً في الأزبكية للترفيه عن القوات الفرنسية، ثم أنشأت الجالية الإيطالية في ما بعد «تياترو دو لا كايرو»، كذلك قامت مسارح أخرى أوروبية في الإسكندرية، وبينما بنى الخديو إسماعيل دار «الأوبرا المصرية» تأسس مسرح آخر للكوميديا خصيصاً في حديقة الأزبكية في مواجهة «الأوبرا» لتقدم عليه المسرحيات التي مصرها يعقوب صنوع (أبو نضارة) الذي يعد أول من فكر في تمصير الفن المسرحي، إضافة إلى ما قام به المناضل الوطني من تأليف مسرحي، حيث قدم مسرحيتين هما «الوطن» و{العرب» مثلتا في الإسكندرية في أواخر القرن التاسع عشر. كذلك جاء أحمد أبو خليل القباني بعد معاناته في دمشق من التشهير والقهر، وبدأ عمله في الإسكندرية بمسرحية «نكران الجميل» تبعتها بمسرحيات أخرى من تأليف واقتباس غيره أو ترجماتهم، وفي بعض المسرحيات كان يدفع ببعض المطربين في ختامها كما فعل في مسرحية «عنتر العبسي» عام 1884 على مسرح «زيزينيا» حين أطل على الجمهور في نهاية المسرحية المطرب المعروف عبده الحامولي ليقدم إحدى وصلاته الغنائية، حيث كانت المسرحيات فآنذاك تقدم بالعربية الفصحى، يعقبها فصل هزلي ختامي يقدمه بعض الممثلين الكوميديين ارتجالاً، فيتحدثون بالعامية المصرية في مشاهد عصرية ساخرة.

في عام 1886، ألف إسكندر فرح فرقة ضم إليها الشيخ سلامة حجازي، وكان يترجم لها مسرحياتها نجيب وأمين الحداد، وطانيوس عبده، وإلياس فياض، وظلت هذه الفرقة مسيطرة على المسرح المصري مدة 18 سنة حتى تركها الشيخ سلامة حجازي وألف فرقته في عام 1904، ثم بنى «دار التمثيل العربي» على مقربة من حديقة الأزبكية في عام 1907. وكانت هذه الفرقة بمثابة وثبة جديدة للمسرح المصري في عناصره الفنية من تأليف وإخراج ومناظر وملابس.

وفي أوائل القرن العشرين جاءت محاولة جديدة من إسكندر فرح بفرقته، فقدم مسرحيات عصرية خلت من الغناء، فلم يتردد سلامة حجازي في مزاولة تلك التجربة في دار «التمثيل العربي» فقدم مسرحيات غير غنائية مثل «عواطف البنين، النجم الآفل، غادة الكاميليا، وابن الشعب»، غير أن سلامة حجازي وجد أنه من الأفضل أن يترك هذه النوعية من المسرحيات ليتفرغ بجهده وفنه للمسرح الغنائي، فضم وجوهاً جديدة للمسرح الغنائي، على رأسهم سيد درويش وكامل الخلعي وبذل حجازي جهداً كبيراً في هذا الاتجاه.

وسط هذا الزخم الفني للمسرح المصري، وظهور جيل من كبار المسرحيين المصريين، بعضهم دخل من باب الكوميديا، والغالبية من باب التراجيديا، عبر الكثير من الفرق المسرحية، ولد نجم جديد يبشر بعملاق قادم، زحف ليتوغل وينتشر ويسيطر على المسرح الكوميدي المصري.. ولمع اسم نجيب الريحاني إلى جانب عمالقة سبقوه إلى المسرح، وآخرين عاصروه وبدأوا معه.

back to top