كاسترو والأدباء... من يروّج لمن؟

نشر في 11-03-2008 | 00:00
آخر تحديث 11-03-2008 | 00:00
No Image Caption

ما السر أو اللغز الذي يدفع الشعراء والكتاب الى الارتماء في احضان الديكتاتوريات أو الاستتباع لسطوة الديكتاتور ونهجه؟ هل هي غواية السلطة والسلطان ام الضعف؟ هل ان المثقف وغيره يبحث في لاوعيه عن «العبودية المختارة» بحسب تسمية دي لابويسيه؟ أسئلة كثيرة في هذا المجال تجيب عنها الوقائع والوثائق واليوميات.

الارجح أن الديكتاتور او الطاغية يبحث عن الدعاية لسياسته من خلال الكاتب او المثقف او المغني على الرغم من انه يقمع الثقافة بمجملها ويلجأ الى البروباغندا الثقافية لتبييض صورته خصوصا مع الكتّاب الكبار. لعل ابرز دليل على ذلك الزعيم الكوبي فيديل كاسترو الذي ينتمي إلى تلك المرحلة من القرن العشرين التي كان فيها الرجال السحرة يغيّرون تاريخ شعوبهم. صنع هالة كاسترو العالمية كتَّاب مثل ارنست همنغواي وجان بول سارتر وغارسيا ماركيز وريجيس دوبريه وسيمون دو بوفوار وغراهام غرين. كان كاسترو، الزعيم الباقي من زمن «الحرب الباردة»، محوراً في الثقافة بين من هو «ضده» ومن هو «معه». عرف باحترامه الابداع والمبدعين وارتبط بعلاقات صداقة متينة مع الكبار منهم وفي الوقت نفسه قمع الثقافة التي تتناقض مع طروحاته وأحلامه. يطرح هنا سؤال الديموقراطية (!!) حتى في علاقته مع المثقفين الذين التفوا حوله.

بعدما انتصرت ثورته، زاره الفيلسوف الفرنسي سارتر وعشيقته المنظرة النسوية سيمون دو بوفوار، فألهمت هذه الزيارة الفيلسوف الفرنسي مجموعة من المقالات نشرتها صحيفة «فرانس سوار» تحت عنوان «اعصار فوق السكر» وجمعت بعد ذلك في كتيّب صدر في كوبا وفي ترجمات في دول اخرى باستثناء فرنسا. ساهم الكتاب الى حد بعيد في اضفاء الشعبية على نظام كاسترو بين المفكرين الفرنسيين والاجانب.

من المثقفين الذين وقعوا تحت تأثيره ريجيس دوبريه الذي عاش في كوبا سنوات واشترك في «حرب العصابات» في بوليفيا ووقع في الأسر وعانى من عذابات السجن وألّف كتابين عن كاسترو وكوبا: الأول، «الكاستروية: مسيرة أميركا اللاتينية الطويلة» والثاني، «الثورة في الثورة». لاحقا كتب «تربية اسيادنا» عن كاسترو وغيفارا وميتران، قال فيه: «قسا التاريخ على كاسترو ولا يتوانى عن تصغيره في حين يعزز تشي(غيفارا). لكنني لست اكيداً من انني كنت سأحب العيش في دولة هو رئيسها». في ما بعد أصبح دوبريه من منتقدي كاسترو وأصدر كتاباً يعبِّر فيه عن خيبة أمله من «كاسترو والكاستروية». كذلك بعد احد عشر عاما (1971) تبدلت نظرة سارتر الى النظام الكوبي ووقّع مع ستين مفكراً رسالة احتجاج على اعتقال الكاتب الكوبي اربرتو باديلا.

ردّ كاسترو على الرسالة واصفاً موقعيها بأنهم «عملاء الـ«سي اي ايه» واجهزة التجسس «الامبريالية» ومنعهم «نهائيا» من دخول الاراضي الكوبية. هكذا بدأ كاسترو ثورته حالماً وسرعان ما تحول قائدا خشبياً استلم السلطة والتصق بالكرسي كأنه يريد الخلود لنفسه، وهكذا كانت احلام سارتر وزيارته المكوكية الى كوبا اشبه بالكابوس، كذلك كانت مشاركة دوبريه في «حرب العصابات» كأنها إثم لا ينتهي، او مادة للكتابة التي تستهوي ملايين القراء، خصوصاً مع دخول غيفارا الثوري في دائرة الاستهلاك بسبب صورته الساحرة.

ماركيز

سحر كاسترو بعض المثقفين، هل هو الفراغ الثقافي ام الجوع الى السلطة والبلاط؟ يربط البعض ارتباط كاسترو بالمثقفين كونه آت من وسطهم، من بينهم. كان يقرأ همنغواي وطلب الحفاظ على منزل الروائي الاميركي الذي كان يحب كوبا هرباً من الجحيم الاميركي. إلا ان «اعقد» العلاقات في حياة كاسترو كانت مع ماركيز الذي يقاربه في العمر وكانا يلتقيان باستمرار. لم يأبه ماركيز لما يقال عن هذه العلاقة ولم يتخل عن صديقه المحاصر في جزيرته على مدى عقود من قبل اميركا من دون ان يهتز او يذعن.

يفهم المرء تقارب سارتر الوجودي الاستعراضي مع كاسترو الماركسي الثوري الاستعراضي ايضاً، كذلك يفهم التحاق دوبريه بـ«حرب العصابات» ولكن علاقة ماركيز بكاسترو اشبه بـ«اللغز». على ان تقارب ماركيز من كاسترو لم يمنعه من ان يكون صديقا للرئيس الاميركي الاسبق بيل كلينتون، كأنه يقول للآخرين انه «زعيم» ثقافي في العالم وتقتضي الزعامة ان يعيش حياته او هو «يعيش ليروي» (او يحكي). يكتب عن كل أمر من كوبا كاسترو الى ثقافة كلينتون وصولا الى سحر شاكيرا ونجوميتها، الحياة كلها كتابة بالنسبة اليه. كان كاسترو غالباً القارئ الاول لمخطوطات رواياته وكان يبدي ملاحظاته عليها.

اعترف ماركيز انه صوب بعض اخطائه بشأن نوع من السلاح في روايته «الجنرال في متاهته» وسلمه مخطوطة مذكراته، وبعدما قرأها لم يستطع كاسترو كبح صوت المبدع في داخله واعترف إلى إحدى الصحف الكولومبية بأنه لو كان ثمة تناسخ ارواح لتمنى ان يكون كاتباً مثل صديقه ماركيز. توطدت الصداقة بين الزعيم الكوبي و«غابو»، كما يدلع، مع الايام بفعل اهتمام الاثنين بالأدب.

يقول غابو انه اكتشف على الفور ما لا يعرفه الا قليلون، وهو أن كاسترو قارئ نهم محب للادب الجيد ومتابع له في كل وقت حتى في أصعب المراحل، وان الكتاب لا يفارقه في وقت الفراغ.

ظل ماركيز موالياً لكاسترو على الدوام حتى في الاوقات التي كانت فيها جموع المثقفين في مناطق واسعة من العالم تنتقد الثورة الكوبية بسبب الرقابة وسوء معاملة المفكرين والفنانين وأصحاب الرأي، حتى أن الكاتب البيروفي ماريو فارغاس وصف ماركيز بأنه من حاشية الرئيس الكوبي. يقول منتقدون سياسيون للكاتب انه أضفى نوعا من الوقار على الثورة وان دفاعه عن الاشتراكية الكاريبية أفاده كثيرا في الفوز بجائزة نوبل ولم يتجاوز عمره الخمسين. يصر ماركيز على أن صداقته مع كاسترو تتجاوز السياسة وان قربه منه سمح له بإنقاذ عدد كبير من المنشقين بهدوء.

عندما توجه ماركيز إلى كوبا لحضور الاحتفالات العامة في عيد ميلاد كاسترو، بقي هناك شهراً لكنه لم يتمكن من مقابلة صديقه القديم، الأمر الذي حدا بمجلة «سيمانا» الكولومبية إلى القول إنها المرة الاولى التي لا يلتقي فيها الصديقان عندما يزور ماركيز الجزيرة، في حين قلل هذا الأخير من شأن ذلك واعتبره مؤشراً على صحة ما يتردد عن وضع كاسترو الصحي وقال « ما يسعدني بمجيئي إلى هنا لحضور الاحتفال بعيد ميلاد فيدل الـ 80 أنني سأعود لحضور عيد ميلاده المائة». يمكن أن نفهم من هذا التصريح أن ماركيز لا يتمنى لصديقه كاسترو أن يمتد به العمر إلى المائة فحسب، لكنه في الواقع يتمنى لنفسه الأمنية نفسها لأن الرجلين متقاربان في السن.

يقول ماركيز في وصف كاسترو: «تعكس الكتب على نحو جيد مدى اتساع أذواقه. أقلع عن التدخين كي يمتلك السلطة الأخلاقية لمحاربة التسمم بالتبغ. خوسيه مارتي كاتبه المفضل الذي يحتل مكان الصدارة لديه والذي مكنته عبقريته من ضم مجموع أفكاره إلى السيل الجارف للثورة الماركسية. أما جوهر فكره الخاص ربما يكمن في اليقين أن القيام بعمل جماهيري يعني بالدرجة الأساسية الاهتمام بالأفراد.(...) هو القارئ النهم ولا شيء يوضح كيف يكفيه الوقت ولا بأي طريقة يخدمه لهذا القدر من القراءة وبتلك السرعة الهائلة، على الرغم من أنه يصر على أنه ليس لديه أي أمر خاص. مرات كثيرة كان يحمل معه كتاباً عند الفجر وكان يعلق عليه في صباح اليوم التالي. يقرأ الإنكليزية لكنه لا يتكلمها ويفضل القراءة بالإسبانية وهو مستعد في أي لحظة لقراءة أي ورقة تقع بين يديه. كذلك هو قارئ دائم للمواضيع الاقتصادية والتاريخية وللأدب الذي يتابعه باهتمام بالغ».

غراهام غرين

يعدّ الروائي البريطاني غراهام غرين احد أشهر الكتاب الذين كانت لهم علاقات صداقة مع كاسترو، كتب ماركيز عنه وعن علاقته بكوبا ووجوده فيها نصاً ادبيا خاصا ووصفه بعد لقائه قائلا: «... غادر عائدا من حيث أتى. لم يكد يأكل سوى مرة واحدة خلال تلك الساعات العشرين، ملتقطا لقيمة من كل طبق، مثل عصفور مبلل، لكنه تناول وهو على المائدة دجاجة كاملة».

يضيف ماركيز: «توقف غراهام غرين في هافانا عشرين ساعة، فقدم مراسلو الصحافة الأجنبية جميع أنواع التأويلات للحدث. كان لا بد من ذلك ، فقد وصل على متن طائرة خاصة، قدمتها له الحكومة النيكاراغوية. استقبله في المطار موظفون من المراسم وسط تكتم شديد، بحيث لم يعلم أي صحافي بأمر الزيارة إلا بعدما انتهت».

تعدّ رواية «رجلنا في هافانا» من الروايات الشهيرة التي كتبها غرين عام 1958 وتحكي عن الأحداث التي سبقت الثورة الشيوعية في كوبا. على ان زيارة غرين الى كوبا كانت جزءا من الدعاية للثورة الكاستروية لكنها لم تصل الى رمزية الدعاية التي قدمها همنغواي الى الكاستروية والذي ارتبط اسمه بكوبا حيث كتب أجمل أعماله «الشيخ والبحر».

ستكتب أقلام كثيرة عن قسوة كاسترو وزمنه القمعي. قضى على الديكتاتورية ليكون ديكتاتوراً بامتياز. نزل من الحلم الى الواقع فأصبح مثل غيره. تحدّى واشنطن وهزم شعبه. بدا في مشهده الأخير وفي اعلان ورقة «نعيه» وتخليه عن السلطة لمصلحة شقيقه راؤول، قناعا من اقنعة الدكتاتوريين الذين قرأنا عنهم في روايات كتاب اميركا اللاتينية.

اوليفر ستون

استهوى كاسترو اهل السينما، والسؤال هنا من يروج لمن السينمائي ام الزعيم الثوري؟ فعام 2002 قدم المخرج اوليفر ستون فيلمه التسجيلي «القائد» الذي يتمحور حول كاسترو. يلتقي أوليفر هنا كاسترو في قصر الثورة في هافانا، لم يبحث من خلال هذا اللقاء عن معرفة تاريخ الثورة وعن إنجازاتها بل يسلط الضوء ببساطة على قائد هذه الثورة، على «الإنسان» خلف البدلة العسكرية التي يرتديها الزعيم. منذ بداية الفيلم يصر أوليفر ستون على إيراد كم كبير من التعليقات التي بثتها التلفزة الأميركية عام 1959 يوم اطاح كاسترو الديكتاتور باتيستا وكأنه بذلك يريد توجيهنا نحو «القوالب» الجاهزة التي اعتاد الإعلام الأميركي وضع أي من أعدائه فيها، ومن ثم نسير في رحلة فكرية سياسية مع هذا «الإنسان» كاسترو.

ليس كاسترو أبداً كما صوره الإعلام الأميركي، هو ليس مثالياً أو قديساً، لكنه ليس الوحش الذي رسمته الإدارة الأميركية واستغلته لتخويف شعبها منه ومن بقية «المختلفين» الآخرين.

يقول كاسترو في هذا المجال: «الثورة هي مجرد حركة إصلاحية، وليس هناك من سبب يدعو الأميركيين لمعاداتنا. لا نضمر الشر لهم، لكن هناك مشكلة الحكومة التي تسيطر على الشعب الأميركي سيطرة كاملة، إذ يكفي أن تقول إن كاسترو شيوعي لتضمن عداء الشعب له. هناك جملة مقدسة يقولها الرؤساء الأميركيون كافة «إن كاسترو هو خطر على الأمن القومي». حين تقال هذه الجملة تحديداً يصاب الشعب الأميركي بالحمى والهستيريا».

بعد كلمة كاسترو هذه يورد أوليفر ستون صوراً تلفزيونية كثيرة لرؤساء أميركا، كينيدي، نيكسون، ريغان، بوش الأب، كلينتون وبوش الابن وهم يرددون الجملة ذاتها. كاسترو والنظام الاميركي فضيحة ضد الفضيحة!

back to top