إذا قرر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن يستخدم الأسلحة النووية في أوكرانيا، فهل سنعرف قراره قبيل استعمالها؟ وبأي طريقة سنكتشف نواياه في هذه الحالة؟

لم يسبق أن كان هذا النوع من الأسئلة طارئاً لهذه الدرجة منذ بداية الحرب في أوكرانيا، وبعد الانتكاسات التي واجهها بوتين في ساحة المعركة وإقدامه على ضم الأرض التي تحتلها روسيا في شرق أوكرانيا بطريقة غير شرعية، هدّد الرئيس مراراً باستعمال الأسلحة النووية الروسية، فبدا وكأنه يوسّع نطاق الحماية التي تضمنها الترسانة النووية الروسية ضمناً كي تشمل الأراضي التي ستحاول القوات الأوكرانية استرجاعها قريباً، وشدّد المسؤولون الأميركيون على خطورة الوضع الراهن، حتى أن الرئيس جو بايدن ذهب إلى حد اعتبار المخاطر النووية التي يطرحها بوتين مرادفة لـ«نهاية العالم».

Ad

في هذه الظروف، من الطبيعي أن يسود التوتر في كل مكان، لكن تدعونا التهديدات النووية على مر السنين إلى عدم المبالغة في تقدير أهمية الخطابات الرنانة، ففي عام 2017 مثلاً، حين تبادل دونالد ترامب وكيم جونغ أون عبارات مهينة وحذّرا من كارثة نووية، دعا الخبراء إلى تجاوز هذه المواقف والبحث عن مؤشرات الحرب الوشيكة، مثل إجلاء الأميركيين غير المقاتلين من كوريا الجنوبية، فلم يتخذ أحد هذا النوع من الخطوات لاحقاً ولم تقع الكارثة المرتقبة.

يستعرض عدد من الخبراء في ما يلي المؤشرات التي يراقبونها عن كثب لتحديد مدى استعداد روسيا لاستعمال الأسلحة النووية في أوكرانيا قريباً، ولمساعدتنا على التمييز بين المؤشرات التحذيرية والتهديدات الفارغة.

يقول بافيل بودفيغ، خبير في الشؤون النووية الروسية: «أظن أننا أصبحنا على بُعد بضع خطوات على الأقل من استعمال الأسلحة النووية الروسية في أوكرانيا».

وألمح بوتين حديثاً إلى احتمال أن يستعمل الكرملين الأسلحة النووية بسبب التهديدات المطروحة على «وحدة الأراضي» الروسية، لكن يتكلم بودفيغ عن إصرار الرئيس الروسي وكبار المسؤولين الآخرين على صياغة عقيدة دفاعية، حيث تفكّر الحكومة الروسية باستخدام الأسلحة النووية حين تتعرّض لهجوم يُهدد وجود الدولة الروسية.

يبحث بودفيغ عن أي تغيير في تلك العقيدة، مما قد يدفع القادة الروس إلى التهديد باستخدام الأسلحة النووية صراحةً لكبح التقدم الأوكراني في ساحة المعركة. في هذا السياق، يطرح ماثيو كرونيغ، خبير في الاستراتيجيات النووية في المجلس الأطلسي، السيناريو التالي: حين يلاحظ بوتين أنه يوشك على خسارة الأراضي التي ضمّها للتو، لنتخيّل أن يعلن ما يلي: «لقد أنذرتُ العالم بأن هذه المناطق الأربع هي أراضٍ روسية، وحذرتُ الأوكرانيين من مهاجمة الأراضي الروسية، لكنهم لم يصغوا إلى هذه التحذيرات، يجب أن ينسحبوا من هذه المناطق فوراً وإلا سأفكر باستخدام الأسلحة النووية، هذا التهديد ليس مجرّد خدعة». يعتبر كرونيغ هذا النوع من التصريحات الأكثر خطورة.

على صعيد آخر، يُجمِع الخبراء بشكل عام على أن بوتين لن يختار الأسلحة النووية «الاستراتيجية» التي تكون طويلة الأمد وقادرة على تدمير المدن، كتلك التي كانت شائعة الاستعمال خلال الحرب الباردة، إذا قرر اللجوء إلى الخيار النووي خلال حربه في أوكرانيا، بل إنه سيختار على الأرجح استخدام جزءٍ من ألفَي سلاح نووي روسي تكتيكي، وهو نوع أقل تفجّراً وأصغر نطاقاً ويكون مُعدّاً للاستخدام في ساحة المعركة.

لا تكون هذه الأسلحة النووية التكتيكية مُعدّة للاستخدام الفوري بقدر الأسلحة النووية الاستراتيجية الروسية البرية والبحرية، ويظن الخبراء أنها تُحفَظ في 47 مخزناً وطنياً في أنحاء روسيا، وتكون الأنظمة الروسية المستعملة لإطلاق هذه الأسلحة مخبأة في مواقع منفصلة.

طرح بودفيغ سيناريو حول تداعيات اللجوء إلى هذه الترسانة، فإذا صدر قرار برفع مستوى جاهزية الدولة الروسية، فستعمد المديرية الرئيسة رقم 12 في وزارة الدفاع (إنها الجهة المسؤولة عن الترسانة النووية الروسية) إلى إخراج الأسلحة المنتقاة من المخازن ووضعها في شاحنات متخصصة لجلبها إلى موقع محدد، حيث يتم إخراجها من حاويات التخزين لتزويدها بأنظمة توصيل (تحميل قنبلة نووية على طائرة في إحدى القواعد الجوية مثلاً، أو تركيب رأس حربي نووي على صاروخ).

قد تتمكن الحكومة الأميركية من رصد الأدلة التي تشير إلى الجهود الروسية المرتبطة بنقل الأسلحة النووية التكتيكية من المخازن عبر الأقمار الاصطناعية، وتقنيات المراقبة، وأشكال مختلفة من الاستخبارات الميدانية (مع أن قدرتها على فعل ذلك ليست مؤكدة).

في المقابل، سيكون الباحثون المنهمكون بتحليل الاستخبارات مفتوحة المصدر في القطاع الخاص أقل قدرة على رصد هذا النوع من النشاطات، لكن قد يكتشف الرأي العام ما يحصل سريعاً في مطلق الأحوال، كذلك، قد تكشف إدارة بايدن معلومات استخبارية سرية، كما فعلت قبيل الحرب في أوكرانيا، عبر تسريب الأخبار إلى وسائل الإعلام أو نشر بيانات علنية، لفضح خطط بوتين وفرض ضغوط دولية من أطراف عدة لردع موسكو، بما في ذلك الدول المسلّحة نووياً والمقرّبة من روسيا، مثل الصين والهند.

يقول جيفري لويس، خبير في منع الانتشار النووي في معهد «ميدلبري» للدراسات الدولية في «مونتيري»: «في هذه الظروف، أظن أن الرئيس بايدن ومسؤولين آخرين سيوجّهون رسائل شديدة اللهجة إلى الروس، علناً أو في الأوساط الخاصة، لمنعهم من تصعيد الصراع عبر استعمال الأسلحة النووية».

يتفق الخبراء أيضاً على نزعة بوتين إلى إبلاغ العالم بما ينوي فعله، بأسلوب ضمني أو مباشر، لأنه لا يتمتع بالثقة الكافية كي يُقدِم على هذه التحركات من دون أن يرصدها خصومه، ولأنه يريد أن يعرف أولاً مدى قدرته على تحقيق ما يريده من دون تكبّد أي كلفة.

إذا كان بوتين يستطيع أن «يُرعِب» حلفاء أوكرانيا لدرجة أن يدفعهم إلى التراجع من دون أن يضطر لاستعمال الأسلحة النووية، فسيُحقق بذلك أفضل نتيجة بالنسبة إليه، حتى أن كرونيغ يتوقع أن يصوّر الكرملين «بكل فخر» فيديو يظهر فيه الجنود الروس وهم يُخرِجون الأسلحة النووية التكتيكية من المخازن، فيسرّب بوتين التسجيل عمداً ويوجّه الرسالة التالية إلى العالم: «نحن ننقل هذه الأسلحة إلى خطوط المواجهة ونستعد لاستعمالها، أنا جدّي للغاية، تراجعوا الآن وإلا تعرفون ما ينتظركم».

إذا كانت روسيا تستعد لاستعمال الأسلحة النووية، يتوقع بودفيغ أن تزيد تأهب جزءٍ من قواتها العسكرية، ولا مفر من أن تترك هذه العملية آثاراً يمكن رصدها، منها إصدار الأوامر وزيادة التواصل عبر نظام القيادة والتحكم الروسي وقنوات عسكرية أخرى. تدرّبت روسيا على هذه العمليات خلال تدريبات عسكرية سابقة، لذا تملك الحكومة الأميركية فكرة عن الأنماط التي يُفترض أن تحذر منها، كذلك، يشير تقييم جديد إلى ضرورة إشراك «عشرات آلاف» الجنود الروس في العملية اللوجستية المعقدة التي تهدف إلى نقل الأسلحة النووية التكتيكية من المخازن إلى ساحة المعركة.

يضيف لويس: «أتوقع أن يرتفع مستوى التأهب في جميع القطاعات المرتبطة بالقوى النووية الروسية قبل أي استعمال نووي، حتى لو بقي نطاقه محدوداً، لأن الجنرالات الروس سيضطرون لتهيئة تلك القوى لتصعيد الوضع نتيجة أي رد تطلقه الولايات المتحدة أو حلف الناتو، بعد إقدام روسيا على استعمال الأسلحة النووية. قد لا يقتصر وضع الأسلحة النووية الروسية في حالة تأهب قصوى على نشاطات مرتبطة بالرؤوس الحربية النووية في المخازن، بل يترافق أيضاً مع إرسال الغواصات إلى البحار أو إخراج الصواريخ المتنقلة من قواعدها».

لا يملك الباحثون الذين يتكلون على معلومات مفتوحة المصدر، من أمثال لويس، القدرات اللازمة لمراقبة الاتصالات الروسية، لكن قد تقرر الحكومة الأميركية في هذه الحالة أن تنشر أي معلومات استخبارية تجمعها حول أوامر الجيش الروسي التي تشير إلى اقتراب استخدام الأسلحة النووية.

تكمن صعوبة قراءة الإشارات التي يرسلها الكرملين في اقتناء روسيا نحو 24 نظام توصيل ذات «استخدام مزدوج»، ويُستعمَل بعضها أصلاً خلال الحرب في أوكرانيا وقد ينقل رؤوساً حربية تقليدية أو نووية، وقد تفترض الاستخبارات الأميركية أن تلك الأسلحة مزوّدة برؤوس حربية تقليدية، مع أن الواقع سيكون مختلفاً إذا قرر بوتين تعطيلها في مرحلة معينة من دون علم أحد، ويوضح كرونيغ: «قد نبدأ إذاً برؤية غيوم الفطر في أوكرانيا، لكن يبقى احتمال أن نتلقى بعض المؤشرات التحذيرية المسبقة أقرب إلى الواقع».

في الأسابيع الأخيرة، أعلن المسؤولون الأميركيون وحلفاؤهم مراراً أنهم لم يرصدوا مؤشرات على استعمال الأسلحة النووية الروسية قريباً، ويحمل معظم الخبراء الآخرين الرأي نفسه، مع أن كرونيغ ذكر أننا أصبحنا في دائرة الخطر اليوم لأن بوتين بدأ يخسر الحرب ويرفع مستوى تهديداته.

يقول لويس: «تترافق تحركات القوى النووية الروسية دوماً مع مستوى معيّن من النشاطات الضمنية، كما يحصل في أي بلد مسلّح نووياً، لكني لم أرصد حتى الآن أي ظاهرة غير مألوفة في روسيا».

حين سُئِل بودفيغ إذا رصد أياً من المؤشرات الكبرى على اقتراب استعمال الأسلحة النووية الروسية، تردد في جوابه ثم قال: «ليس بعد». لا يمكن اعتبار هذا الجواب مُطمْئِناً بالكامل، لكنه يبقى أفضل من معظم التكهنات الشائعة على تويتر في هذه الأيام.

ويوري فريدمان The Atlantic