أنجبت هجيرة ابنتها سارة في كابول بعد أسبوعين على استيلاء «طالبان» على أفغانستان في الصيف الماضي، تبلغ هذه المرأة 35 عاماً، وكانت تعمل كخبيرة اقتصادية حكومية، سبق أن رُزِقت مع زوجها بابنَين، وكانا سعيدَين باستقبال مولودتهما الجديدة، لكن سرعان ما خسرا عملهما وقضت «طالبان» على الحقوق التي اكتسبتها المرأة في آخر عقدَين، هكذا أصبحت أفغانستان مجدداً أسوأ مكان في العالم للنساء.

أنا بشرى الصديق، وقد وُلِدتُ في عام 1999، قبل سنتين من اعتداء 11 سبتمبر وغزو أفغانستان في المرحلة اللاحقة، وفيما يتعلق بالنساء الأفغانيات، كان إسقاط «طالبان» بداية حقبة واعدة، فقد فُتِحت المدارس للفتيات، ولم تعد المرأة أسيرة منزلها، بل سُمِح لها بالعمل ولم تعد تتعرّض للضرب إذا رفضت ارتداء البرقع.

Ad

لكن بعد عودة العصر القاتم اليوم، اتضح لي أن جيلي لم يكن يشهد على بداية مستقبل جديد، بل إنه عاصر بكل بساطة مرحلة استثنائية من تاريخ البلد الحزين، كنا نشعر بالحماس، والحيوية، والسعادة، والأمل، لكن في 15 أغسطس 2021، عادت أفغانستان إلى نقطة الصفر، ويبدو مسار الحرية اليوم أطول وأخطر مما كان عليه، وتشعر نساء أفغانستان بتعب شديد، وأنا لاجئة في الولايات المتحدة اليوم، لكني أتابع التواصل مع عائلتي، وأصدقائي، وأساتذتي وزملائي السابقين، لفهم ما يمرون به والرسالة التي يريدون نقلها إلى بقية دول العالم.

فريال هي فتاة عمرها 14 عاماً في كابول، وعلى غرار عدد كبير من النساء اللواتي تكلّمتُ معهنّ، لن أستعمل إلا اسمها الأول لحماية خصوصيتها، كان يُفترض أن تكون في الصف التاسع هذه السنة في ثانوية «حسين خيل»، حيث كانت تحب حضور الحصص رغم غياب الكراسي أو الطاولات واضطرار الطلاب للدراسة في خِيَم حارة ومكتظة. كانت تستيقظ كل صباح وتقصد مدرستها مع شقيقها البالغ من العمر 12 عاماً، لكنها تشاهده الآن من النافذة وهو يركب الحافلة ويغادر وحده، هي تلازم المنزل طوال اليوم وتتأمل كتبها القديمة.

بعد عودة «طالبان» إلى السلطة بفترة قصيرة، منعت الحركة الفتيات من الذهاب إلى المدارس الثانوية، وأعلنت وزارة التربية أن هذه المدارس ستفتح أبوابها مجدداً حين تختار «طالبان» الملابس المناسبة للطالبات والمعلّمات، «بما يتماشى مع الشريعة الإسلامية والثقافة الأفغانية وتقاليد البلد»، لكن يعرف الجميع أنها مجرّد كذبة.

أخبرتني فريال بأنها تشتاق إلى أصدقائها والملعب الذي كانت تقصده، حيث تجدل الفتيات شعر بعضهنّ، وطرحت عليّ باكية أسئلة لا أملك الأجوبة عنها: لماذا أقفلوا مدارسنا فقط وبقيت مدارس الفتيان مفتوحة؟ هل تخوض «طالبان» حرباً ضد النساء؟

لا ينتظر الجميع قرار «طالبان» بفتح المدارس، إذ يدير البعض مدارس سرية للفتيات من المنازل، وأخبرتني إحدى الفتيات بأنها تعرف مدرستَين من هذا النوع على الأقل في كابول، وثلاث أو أربع مدارس مماثلة في أماكن أخرى من البلد، لكن لا يقف العدد الحقيقي عند هذا الحد على الأرجح.

تكلّمتُ مع شابة عمرها 26 عاماً كانت تعمل في وزارة التربية كمحللة لبيانات التسجيل الوطنية قبل سقوط الحكومة، فكانت تحب عملها والفرق الذي تُحدِثه في بلدها، لكنها عاطلة عن العمل اليوم، وأغلقت نسبة كبيرة من المدارس أبوابها، فهي تشعر بأنها صغيرة وضعيفة، وكأنها أصبحت مجرّد «مراقِبة لمآسي النساء».

أخبرها زملاؤها السابقون في الوزارة بأن عدداً كبيراً من الأساتذة السابقين في مدارس الفتيات أُعيد تعيينهم لتعليم الفتيان، وغادر آخرون البلد. هي حصلت على فرص متكررة للرحيل، لكنها لا تريد المغادرة وتفضّل متابعة تعليم الإنكليزية للفتيات والنساء وإعطاء حصص في ترميز الكمبيوتر ومهارات تقنية أخرى، ويُعطى جزء من الدروس عبر الإنترنت، ويُنظَّم الجزء الآخر حضورياً، حيث تتجمّع الفتيات في مكان سري بحيث يزعمن أنهنّ يتعلّمن القرآن والشريعة الإسلامية، من وجهة نظرها، يبقى التعليم الأداة الوحيدة لتمكين نساء أفغانستان، فهي تريد أن تبقى في بلدها إلى أن يصبح البقاء مستحيلاً.

سايرا سابا (42 عاماً) هي معلّمة سابقة أيضاً، كانت قد شاركت في تنظيم احتجاج أمام وزارة التربية، في كابول، في شهر أغسطس الماضي، ورفعت لافتة كُتِب عليها «الخبز، والعمل، والحرية»، وتذكر تقارير جديدة أن 40 امرأة تقريباً شاركن في الاحتجاج، لكن تقول سابا إن العدد الحقيقي أكبر بكثير، فقد شاركت أمهات وبنات، ونساء لم يتعلّمن القراءة يوماً، ومعلّمات سابقات في الجامعات.

شاركت سابا في ذلك التحرك مع أنها تعرف أن «طالبان» لا تتردد في اعتقال المحتجّات وضربهنّ، هي تقول صراحةً: «نريد بلداً يحترم حقوقنا، نريد بلداً نستطيع أن نعمل فيه، نريد بلداً نعرف فيه هوية رئيسنا وقادتنا، نريد أن نملك الحق في اختيار قادتنا».

لكن لا تقتصر المعاناة في أفغانستان على النساء طبعاً، إذ تستهدف «طالبان» أيضاً الأقليات الدينية والعرقية، وأصبح الاقتصاد مشلولاً، وانهار قطاع الرعاية الصحية، وبدأ الناس يتضورون جوعاً.

أخبرتني والدتي حديثاً أنها كانت عائدة من المخبز يوماً وهي تحمل ثلاثة أرغفة خبز، ثم قررت أن تتقاسمها مع بعض المتسولين على طريقها. لكن كان عدد الجائعين يفوق كمية الخبز بأشواط، فهي تقول إن عدد المتسولين اليوم بلغ مستوىً غير مسبوق في كابول، ويفوق الأولاد في الشوارع العدد الموجود في المدارس.

لقد خسرنا حرية التعبير يوم خسرنا بلدنا، ولا وجود لأي دستور حقيقي، وأنشأ قادة «طالبان» محاكمهم الخاصة لإصدار الأحكام على الأفراد بجميع التُهَم التي يختارونها في أي زمان ومكان، كذلك يجد الإرهابيون اليوم ملاذاً آمناً لهم في أفغانستان، وزادت التفجيرات القاتلة بحق المدنيين في المساجد والأسواق.

لكن تبقى مظاهر الخوف والقمع أسوأ بكثير في حياة المرأة الأفغانية لأنها تعجز عن الدفاع عن نفسها، فقد تم تهميشها من المجتمع بطريقة منهجية وباتت أسيرة منزلها مجدداً، إذ تصبح المحادثات التي أخوضها مع صديقات تربّيتُ معهنّ أقصر وأقل إيجابية مع مرور الأيام، وقد توقفت كل واحدة منهنّ عن التخطيط لحياتها وباتت مقتنعة بأنها لا تملك أي مستقبل واعد، وتقبل بعضهنّ أول عرض زواج حصلن عليه بغض النظر عن هوية الزوج المستقبلي، على اعتبار أن الزواج هو الحل الوحيد للظروف الراهنة.

تعجّ خزانة شقيقتي بملابس ملوّنة، لكنها لا تستطيع أن ترتدي إلا الملابس السوداء حين تخرج من المنزل، فهي تقول إن الوضع يوحي بأن البلد كله في حداد، ويبدو الناس في الشوارع أشبه بكائنات الزومبي، فقد كانت شقيقتها تضع أحمر الشفاه والكحل، لكن لم تعد تأخذ عناء وضع المكياج لأنها تعرف أن أحداً لن ينظر في عينيها، حتى أنها نسيت شكلها لأنها مضطرة لتغطية وجهها أينما ذهبت.

قد نظن أن المرأة تحافظ على حريتها داخل جدران منزلها، وأنها تستطيع تجاهل الحكومة القمعية التي لا تعتبرها إنساناً كاملاً، وتتابع علاقاتها الخاصة في حياتها الشخصية على الأقل، لكنّ الواقع مختلف للأسف، فمن خلال إقصاء النساء من الحياة العامة، أعادت الحكومة ترسيخ النظام الذكوري داخل المنازل أيضاً، فقد بدأ الرجال مجدداً يفرضون سيطرتهم ويتخذون القرارات وحدهم.

أريد أن أقنع نفسي بأن التغيير ممكن وأن الحكومات أو المؤسسات الأجنبية أو اللاجئين من أمثالي يستطيعون مساعدة النساء في أفغانستان، فقد منعت الأمم المتحدة سفر بعض قادة «طالبان»، وفرضت الولايات المتحدة عقوبات على أفغانستان للضغط على «طالبان» ودفعها إلى تشكيل حكومة ديموقراطية تملك فيها النساء وأقليات أخرى حقوقاً متساوية، حتى أنها جمّدت أموالاً أفغانية بقيمة 7 مليارات دولار في البنوك الأميركية، وأعلنت أنها تنوي استعمال نصف تلك المبالغ لدعم الاقتصاد الأفغاني بطرقٍ تضمن مساعدة الشعب من دون إغناء الحكومة.

لكن يدعو الناشطون في مجال حقوق الإنسان إلى فرض عقوبات إضافية، فقد تمنع الأمم المتحدة جميع قادة «طالبان» من السفر، ويستطيع «تويتر» أن يمنع الوصول إلى حسابات «طالبان» الرسمية كما فعل «فيسبوك»، وتلك التي يديرها أي شخص محسوب على الحركة. على صعيد آخر، يمكن تأمين المزيد من المساعدات الإنسانية شرط أن تتمكن المرأة من العمل، والذهاب إلى المدرسة الثانوية، والمشاركة في الحياة السياسية، كذلك، تستطيع الحكومات والمنظمات غير الربحية أن تساعد الناشطين في مجال حقوق المرأة عبر تقديم الدعم المالي والسياسي، أو يمكنها أن تموّل مبادرات تعليمية عبر الإنترنت وتنشئ المزيد من المدارس السرية حيث يكون التعليم حضورياً.

لقد اقتربت أفغانستان من العودة إلى البلد الذي كانت عليه في عهد «طالبان» الأول، لكن الظروف تختلف على مستويات عدة اليوم، ويقلّ عدد الأشخاص القادرين على استخدام الإنترنت في المناطق الريفية، لكن يستطيع هذا العدد القليل أن ينظّم النشاطات ويقاوم الظلم بطرقٍ جديدة، لا تزال أفغانستان تتنفس سراً، وراء الأبواب المغلقة.

في النهاية، أخبرتني هجيرة بأن الأمل معدوم، لكني أريد أن أقنع نفسي بوجود بصيص أمل في نهاية النفق رغم كل شيء.

* بشرى الصديق

The Atlantic