الرحيل عن هذه الدنيا أمر حتمي، وهو يرافق الإنسان منذ ولادته، فميلاد الإنسان يبطن موته، وهذا ما عناه المعري حين قال:

غَيْرُ مُجْدٍ في مِلّتي واعْتِقادي

Ad

نَوْحُ باكٍ ولا تَرَنّمُ شادِ

وشَبِيهٌ صَوْتُ النّعيّ إذا قِيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــسَ بِصَوْتِ البَشيرِ في كلّ نادِ

ولن يبقى من الإنسان حين يوارى في التراب ويرش الماء على قبره ويوضع الشاهد عليه سوى الذكر الطيب والعمل الصالح، فهما العملة المتداولة على روح المتوفى. قرني ذكره ورفيقي حضوره في حديث الناس عنه.

وقد نهب الموت الخميس 13 أكتوبر 2022م العم جاسم عيسى الصراف (1946-2022) إذ فجعتُ صبيحة هذا اليوم بنعي نجله الأكبر (فيصل) وفاة والده، الذي استيقظ من النوم لأداء صلاة الفجر، ولكن المنية عاجلته بعد الوضوء ففارق الحياة وهو متوضئ للصلاة رحمة الله عليه.

ولهذا الرجل معزة خاصة في نفسي، لأنه عملة نادرة (إذا استعرنا ألفاظ مهنة الصراف التي عمل بها طوال حياته)، عرفته في طفولتي، فأبناؤه أترابي وأصحابي، وكنتُ أتردد عليهم في بيتهم في منطقة بنيد القار، وكنتُ أراقبه وأنا طفل، فقد كان جميل المحيا، صافي البشرة، وجهه متشرب بالحمرة، وله لثغة جميلة تزين حديثه حين يتحدث.

كان راقيا في التعامل مع أبنائه في طفولتهم وكذلك في رجولتهم، حكيما في تصرفاته، إليه تنتهي الأمور في الأسرة، فيُقَوِّم مُنْآدَها، ويصوب خطأها، ولا أنسى حين كان– رحمه الله- يأخذنا في سيارته أطفالاً لم نبلغ الحلم ويذهب بنا يوم الجمعة إلى شارع البلاجات في السالمية، فندهش ونحن صبية بجمال البلاجات حينها، ولا شك أنه كان واسع الصدر في تعامله معنا، وحليما في تصرفاته.

أخذ عن والده رحمة الله عليهما الصبر وثبات النفس وعدم الاضطراب في الشدائد فضلاً عن سعة الصدر، فعليه حلاوة العبادة، يستحي من الله فلا ينطق إلا خيرا، ولا يتحدث إلا صدقا، حسن الطوية، سليم الوجدان، طهّر ثيابه من الحقد والبهتان، وفي حديث له يعزو كل هذه الأخلاقيات الحميدة إلى الأسرة حيث يقول: «الأسرة مدرسة أورثتنا مقام الرضا والمحبة، ومنحتنا منازل السالكين وسلوك المقربين». تعلم من والدته- رحمة الله عليها- الخوف من الله، والتضحية من أجل الأبناء.

هو من مؤسسي معهد الكويت للأبحاث العلمية حيث كان المدير المالي للمعهد في سبعينيات القرن الماضي، لا سيما أنه ولد في منطقة شرق لأسرة تحب العلم والتعليم، فجده قاسم الصراف كانت لديه مدرسة لتعليم القراءة والكتابة ومبادئ الحساب، والشاعر الكويتي ملا عابدين (1865-1950) هو أخو جده قاسم، ويُلقِب نفسه بذي الرياستين لقدرته على الكتابة باللغتين العربية والفارسية نثراً وشعراً، وإلى جانب ذلك فقد كان الملا عابدين حسن الخط، يخط قصائده بخط يده بطريقة جميلة وفنية، الأمر الذي جعل الشيخ سالم المبارك الصباح يختاره ليخط على قصر السيف عبارة «لو دامت لغيرك ما اتصلت إليك».

درس العم جاسم الصراف في المدرسة الشرقية التي كان ناظرها- حينئذ- الأستاذ أحمد السقاف (1919– 2010) ومن أساتذته: سليمان الرومي، عبدالعزيز إسحاق، خالد المضف، ملا عيسى المطر.

وقد نشأ في أسرة تعمل في الصيرفة أباً عن جد، وعمِلَ بهذه المهنة شاباً يافعاً حتى وافاه الأجل رحمة الله عليه.

رحم الله العم جاسم عيسى الصراف وغفر له وأسكنه فسيح جناته فقد كان نعم الرجل مخبراً ومنظراً.

د. عباس يوسف الحداد