لا شك في فشل البشرية جمعاء في مقاومة غزو وسائل التواصل الاجتماعي لبيوتنا وتفاصيل حياتنا اليومية، وتأثيرها- السلبي والإيجابي- على قناعاتنا، وتصرفاتنا، ومشاعرنا، ومخزوننا الثقافي، وأيضاً خياراتنا التي أصبحت معلّبة وموجهة في جزء كبير منها.

من بين الكمّ الهائل من البدع والخزعبلات التي «تطلقها» هذه المنصات الإلكترونية كالقنابل الفراغية، يلفتني الإعلان فيها بشكل شبه يومي عن تأسيس عدد جديد من المنتديات أو المجموعات أو الصفحات التي يلصقها مديروها زوراً بالهوية الثقافية أو الأدبية أو الشعرية، رغم براءتها من هذه الصفات براءة الذئب من دم يوسف ابن يعقوب.

Ad

وللأسف فرض هذا الواقع نفسه على يومياتنا، حتى صار معتاداً أن نلاحظ- بصمت مؤلم- جرأة هذه المواقع الافتراضية على توزيع الألقاب المعنوية والمهنية والعلمية على متابعيها والمنضمين إليها بلا خجل ولا وجل، فمنها من صار مختصّاً بتوزيع الدكتوراه الفخرية مكافأة لصاحب خاطرة نالت بعض الإعجاب، ومنها من امتهن التكسّب من منح لقب سفير لأي «نوايا» تخطر ببال موزّعها، ومنها من يقتصر فيض كرمه على إغداق شهادات مزركشة ومزخرفة «للتقدير والإعجاب»... إلخ.

قد يتغاضى المرء على مضض عن ظاهرة الإفراط في استخدام وربما منح لقب «شاعر» أو «أديب» لمن هو أبعد ما يكون عن المشاعر و«الأدب» بكل مدلولاته، وقد يستدعي ابتسامتنا اختيار بعض رواد هذه الصفحات لأسماء وألقاب قد تعوضهم عمّا لديهم من نقص أو عقد أو ربما أحلام وطموحات «كالقارئ الشغوف» أو «بحر الثقافة» أو «الوطني الصادق» أو «راعي الإنسانية»، أو «عاشق البوح والمطر»... إلخ. أما أن تصبح ألقاب السفير، الدكتور، طبيب الأعشاب، المعالج النفسي... مستساغة ومهانة لهذا الحد، فالأمر يحتاج وقفة.

إن التسابق على منح وحيازة هذه الألقاب بلا جدارة أو استحقاق لا يعتبر مجرّد ظلم لكل من يحملها عن حق أو تجاوز غير منصف لكل ما بذله من تعب وجهد للحصول عليها، بل هو في واقع الأمر ارتكاب لجريمة جزائية يجرّمها القانون ويحرّمها الدين وتنبذها الأخلاق.

بغض النظر عن اختلاف أو تباين التوصيف القانوني لمنح الشهادات والألقاب الوهمية باعتبار ذلك الفعل جريمة تزوير أو انتحال صفة أو جريمة من جرائم الفساد أو جريمة مخلّة بالشرف والأمانة، يبقى وقعها مروّعاً ومؤثراً على الاستقرار المجتمعي ومستقبل الأجيال التي سيجبرها عقلها الباطني، أمام هوان الحصول على الألقاب، على التكاسل عن السعي اليها ونيلها عن حق.

ومما يزيد هول الأمر خطورة تتأتّى من إمكانية استخدام الشهادات المزورة أو الألقاب المدّعاة في غير ميدانها الفعلي عملياً وعلمياً أو حتى مجتمعياً بقصد التكسّب المادي أو الرفعة المعنوية أو لاستجداء المناصب غير المستحقة وتسوّل الاحترام المنتقص.

لا شك أن الاعتزاز باللقب العلمي حق لمن ناله بتعب واستحقه بجهد، ولا غرابة في أن لبعض الألقاب الاجتماعية استخدامها المفهوم لا بل المطلوب أحياناً، لكن الصحيح أيضاً هو أن ظاهرة السعي إلى الألقاب والتفاخر بها بلا مناسبة أو مبرر يرتبط بمرض نفسي يسمّى علميّاً «عقدة الدّونية» التي تعني شعور الإنسان بالنقص أو العجز العضوي أو النفسي أو الاجتماعي بطريقة تؤثر في سلوكه، مما يدفع بعض الحالات الى التجاوز التعويضي بالتعصب والانكفاء والجريمة في حالات أخرى، وهذا ما يربطه عالم النفس «ألفرد أدلر» بعقدة أخرى هي «عقدة الاستعلاء» التي تشكل بحسب تعريفه إحدى الحيل النفسية التي يتعارض فيها شعور الشخص بالاستعلاء مع شعوره بالدونية أو يختفي وراءه.

نسي الساعون إلى الألقاب أن أعظم رجالات ونساء العالم وكبار علمائه يعتزّون باسمهم الشخصي، ويكتفون من باب اللياقات بمناداتهم بلقب «السيد» أو «السيدة»، كما تجاهل اللاهثون نحو الوجاهة أن كثيراً من أصحاب «السعادة» لا يسعدهم واقعهم، وأن كثيراً من أصحاب «المعالي» يترقبون اللحظة التي ينزلون فيها من عليائهم، وأن أصحاب «السيادة» و«العطوفة» و«البكويّة» وغيرها من الألقاب الموروثة من تقاليد بالية أو ترضيات ظرفية لم تعد مفيدة في الدنيا الفانية، ولن تكون كذلك في الآخرة الباقية.

ولعلها مناسبة أن أستذكر فيها بعض الأبيات من القصيدة التي كتبتها باللهجة العاميّة اللبنانية لتذكير البعض ممن يحملون بالفعل أو بالادعاء لقب «دكتور» أن حرف الدال الذي يحرصون لا بل يسعون إلى أن يكتب قبل أسمائهم لن يصنع منهم رجالاً، ولن يغيّر في استحقاقهم للاحترام من عدمه، وفي ذلك قلت:

تاتنال الشهادة وتُعتــبر دكتور بالسّهر والجـد حِلمــــك بْيِنْطــال

وبالشــّكر للّـي هــَـداك النـّــور وِبْدَعوة الأهل تا تلاقي المَــــنَال

لكن لا تنــسى سـقطة المغرور الأصل من طين وللأرض المآل

تذكّر يا غافــل قولنـــا المأثور «ما بْيَعمِلك رجّال حرف الدّال!

* كاتب ومستشار قانوني

د. بلال عقل الصنديد